تقديم
ماء الوجه كناية جميلة عن الحياء، وزاد عليه الشرف والكرامة والرفعة، لهذا فحفظ ماء الوجه ضرورة للإنسان الشريف، والتفريط فيه سيجلب نقم المذلة والمهانة، ومن يهرقه من أجل مصلحة ضيقة فقد أضاع الكثير، إذ يجب تعلم الإكتفاء والابتعاد عن طلب ما يمكن الاستغناء عنه، أو الاستعانة بالمحسوبية في كل شاردة وواردة، فينال تقريعا ولوما أو همزا ولمزا.
في زمن الماديات حيث جل الأشياء تشترى وتباع بالمال بما فيها الذمم، فقد الكثيرون ماء الوجه وتنكروا له، بل منهم من صار لا يعرفه حتى ويراه شيئا دخيلا، ومن بقي له منه قطرات مستعد لإراقتها بسهولة، فأين هو ذاك الزمن الجميل الذي كان فيه أناس يقدرون ماء الوجه حق قدره.
ماء الوجه لا يقدر بثمن
يروى أن عالماً جليلاً حكيما أغناه الله من فضله، جلس يوما مع تلاميذه ومريديه، وبينما هم كذلك، إذ دخل عليهم رجل غريب، ولا يبدو عليه مظهر طلابِ العلم، ولكن سمات العز ظاهرة عليه.
دخل وسلّم، وجلس حيث انتهى به المجلس، وأخذ يستمع للشيخ بأدبٍ وإنصات، وفي يده قارورة فيها ما يشبه الماء.
قطع الشيخ العالمُ حديثه، والتفت إلى الرجل الغريب، وتفرّس في وجهه، ثم سأله: ألك حاجةٌ نقضيها لك، أم لك سؤال فنجيبك؟.
فقال الضيف: لا هذا ولا ذاك، وإنما أنا تاجر، سمعتُ عن علمك وخُلُقك ومروءتك، فجئتُ أبيعك هذه القارورةَ التي أقسمتُ ألّا أبيعَها إلا لمن يقدّر قيمتها، وأنت دون ريب حقيقٌ بها وجدير.
قال الشيخ: ناولنيها، فناوله إياها، فأخذ الشيخ يتأملها ويحرك رأسه إعجاباً بها، ثم التفت إلى الضيف: فقال له: بكم تبيعها؟ قال: بمئة درهم ، فرد عليه الشيخ: هذا قليل عليها، سأعطيك مئةً وخمسين!.
فقال الضيف: بل مئةٌ كاملةٌ لا تزيد ولا تنقص.
فقال الشيخ لابنه: ادخل عند أمك وأحضر منها مئةَ درهم .
أخذ الغريب المال، ومضى في حال سبيله حامدا شاكرا وممتنا، ثم انفضَّ المجلس وخرج الحاضرون، وجميعهم متعجبون من هذا الماء الذي اشتراه شيخُهم بمئة درهم !.
دخل الشيخ إلى مخدعه للنوم، ولكنّ الفضول دعا ولده إلى فحص القارورة ومعرفةِ ما فيها، حتى تأكد أنه مجرد ماء.
فهرع الولد إلى والده صارخا: يا حكيم الحكماء، لقد خدعك الغريب، فوالله ما زاد على أن باعك ماءً عادياً بمئة دينار، ولا أدري أأعجبُ من دهائه وخبثه،أم من طيبتك وتسرعك؟.
فابتسم الشيخ الحكيم ضاحكاً، وقال لولده:
يا بني، لقد نظرتَ ببصرك فرأيتَه ماءً عاديّاً، أما أنا، فقد نظرتُ ببصيرتي وخبرتي فرأيتُ الرجل جاء يحمل في القارورة ماءَ وجهه الذي أبَتْ عليه عزَّةُ نفسه أن يُريقَه أمام الحاضرين بالتذلُّل والسؤال، وكانت له حاجةٌ إلى مبلغٍ يقضي به حاجته لا يريد أكثر منه. والحمد لله الذي وفقني لإجابته وفَهْم مراده وحِفْظِ ماء وجهه أمام الحاضرين. ولو أقسمتُ ألفَ مرّةٍ أنّ ما دفعتُه له فيه لقليل، لما حَنَثْتُ في يميني.
ماء الوجه ومكارم الأخلاق
دخل رجل وامرأته على موسى بن إسحاق – قاضي الأهواز – فادعت المرأة أن لها على زوجها خمسمائة دينار مهرا لها، وأنه لم يسلمه إياها، وأنكر الزوج ادعاء زوجته عليه وأكد أنه أدى لها مهرها.
فقال القاضي للزوج: هات شهودك ليشيروا إليها في الشهادة.
فأحضر الزوج الشهود فاستدعى القاضي أحدهم وقال له: انظر إلى الزوجة وتأكد من معرفتك بها لتشير إليها في شهادتك.
فقام الشاهد لينظر وقال القاضي للزوجة: قومي واكشفي عن وجهك ليتعرف عليك الشاهد.
فقال الزوج: وماذا تريدون منها؟.
قال له القاضي: لا بد أن ينظر الشاهد إلى امرأتك وهي سافرة كاشفة لوجهها، لتصح معرفته بها، إذ كيف يشهد على من لا يعرف؟.
فكره الزوج أن تكشف زوجته عن وجهها لرجل أجنبي عنها وقال للقاضي: إني أشهد أن لزوجتي في ذمتي المهر الذي تدعيه، ولا حاجة إلى أن تكشف وجهها أمام الرجال الأجانب.
فلما سمعت الزوجة ذلك أكبرت وأعظمت زوجها أنه يغار عليها ويصونها من أعين الناس، فقالت للقاضي: إني أشهدك أني قد وهبته هذا المهر وسامحته فيه وأبرأته منه في الدنيا والآخرة.
فقال القاضي: اكتبوا هذا في مكارم الأخلاق.
ماء الوجه لا يباع
يروى أنّ أعرابياً كان يسكن بجوار الحسن بن علي رضي الله عنهما . وقد أصابه الفقر والعوز الشديد . فقالت له زوجته . اذهب إلى الحسن فهو كريم آل البيت ولا يرد سائلاً.
فقال لها: أخجل من ذلك.
ردت عليه: إن لم تذهب أنت ذهبت أنا.
فأجابها بأن سيكتب إليه، وكان شاعراً، فكتب للحسن بيتين من الشعر قال فيهما:
لم يبق عندي ما يباع ويشترى | يكفيكَ رؤية مظهري عن مخبري | |
إلا بقية ماء وجهي صنته | عن أن يباع وقد وجدتك مشتري |
وأرسلها إلى الحسن بن علي رضي الله عنهما ، فقرأها الحسن وبكى، وجمع ما عنده من مال وأرسله إليه، وكتب له:
عاجلتنا فأتاك عاجل برنا | طلاً ولو أمهلتنا لم نقصرِ . | |
فخذ القليل وكن كأنك لم تبع | ما صنته و كأننا لم نشتري . |
التعليقات
التعليقات مغلقة