“لا يوجد إعلام لوجه الله” مقولة خلص إليها فكر وقلم الكاتب و الصحفي المصري محمد حسنين هيكل وتبناها الكثيرون وأجزموا بصدقها وصارت واجهة لأعمالهم لكن هناك دوما ما يكسر القاعدة لأنه ببساطة ” بلى ..يوجد إعلام لوجه الله”.
العقيدة السليمة هي ما يحرك للإنسان السوي وتملي عليه ما يجب أن يقوم به وما ينأى عنه، لاسيما المسلم الحقيقي بإخلاصه النية دوما لخالقه وهي أولى الشروط بالإقدام على أي عمل ومهما كانت غايته، وعليه فمهما اختلف الناتج ومهما كانت قيمته الاقتصادية أو الاجتماعية فقد وجب موافقته لما يرضي الله.
عصر العولمة زمن عصيب مليئ بالمتناقضات والمفارقات، أين صار يعامل كل مصلح مجتهد شريف بازدراء ويلقى كل كاذب ومدلس أو ناعق بالمجون الثناء، غدا الترويج لمعاداة القيم وهدم صروح الإنسانية مجانا، والكل يغض الطرف ومن بين هذا الكل الصحفيون الذين جعلوا من وسائل الإعلام مجرد مفرقعات تشتعل وتنفجر لتحدث سخونة فورية وإثارة وهمية من أجل الإلهاء، فمفهوم الصحافة اختزل في نقل أخبار الفن وسرد قصص المشاهير ونشر اللقاءات والحوارات مع الفنانين والفنانات والذين أغلبهم حامل للواء الانحلال والمجون وعرفوا أنهم من رواد الأماكن المشبوهة، وإن ارتقى المشهد للاحترافية سيكون بتزييف الحقائق وإظهار الطغاة على أنهم حماة السلام وإصارة قضايا الهوية المغلوطة أو القدح في عظم دين في الوجود.
الأكاذيب صارت المنتج الأول ولا فخر وما وباء كورونا إلا شاهد على عصر التضليل الإعلامي فلحد الساعة تتضارب الأخبار بين نظرية المؤامرة والحرب البيولوجية وصراع القوى وغيرها من الآراء لكن الحقيقة تبقى بعيدة عن المنابر الإعلامية.
فهل هذه هي الصحافة والاحترافية أم هو الواقع المعيش الذي صار يفرض حتمية الركض وراء هذه النوعية من الأخبار في حرب المصالح لأجل رفع المداخيل وكسب ود الجهات المانحة، أما القضايا الأهم والأعدل فتهمل وإن نالت نصيبا فسيكون بالتلميح والإشارة وبالمختصر والملخص.
العمل الصحفي مهمة نبيلة لا بد أن تكون لها أهداف سامية، خاصة وأن الإعلامي يتعامل مع أناس من مختلف الفئات العمرية، تتباعد مستوياتهم الثقافية وتتباين أحوالهم الاجتماعية وأوضاعهم المادية إلا أنه يسعى في كل مرة لإيضاح فكرة وإيصال رسالة هادفة أو طرح نقد بناء، ولو أنه قد يسيء النقل من غير قصد أو يفوت بعض الأقوال أو حتى يقصر في وصف حالاتهم فيعجز عن نقل معاناتهم، ومع ذلك فهو يقوم بواجبه، وقد يستفيد ويتعلم شيئا جديدا يخفف عنه أي تعب أو مشقة أو ضغوطات المهنة.
قد تؤثر فيه بعض الحالات وتشده المواقف إلا أنه يحاول الاتسام بالموضوعية وإخفاء مشاعره لكيلا يزيد من معاناة الغير أو يحرك السكين في جراحهم بتهوين قضاياهم في نظرهم، بيد أنه يبقى كيانا يتأثر بمصاب الآخرين، مؤمنا أن صلاح المجتمع من استقامة أفراده وأنه انسان قبل أن يكون صحفيا.
ظهر الغث ونادى بقراءة السلام على الصحافة التي وأدت أقلامها الجريئة والصادقة ولكن أصحاب الضمائر الساعية لفرض حرية التعبير لن تنسحب حتى وإن أقفلت الأبواب في وجهها، كما حدث مع إصدارات عديدة لم تكن لتستمر وهي تسعى للطرح الموضوعي للقضايا ورصد الظواهر، عرضها وتحليلها وإبراز أبعادها الاجتماعية النفسية السياسية وذلك حسب ما تقتضيه المسألة والوصول إلى إدراج حلول وإعطاء البديل وإن لم يكن فبمناشدة أصحاب القرار برفع شعار الإصلاح وإحقاق الحق وهذا كله لوجه الله.
أما الامتيازات والتسهيلات التي تمنح لمن يحسن تمجيد الولاة بالتطبيل والتهليل وإن أساؤوا وعاثوا في الأرض فسادا فهي ما تجعل قامات في الإعلام تحيد وتتنازل عن مبادئها، ولكن العزاء في أن الإعلام المأجور وصاحبه إلى فناء، أما القلم الحر الذي لا يبغي إلا رضى مولاه سيبقى حيا نقيا تقيا، وكما أقول دوما وأومن به “قد يموت الجسد وتحيى الروح كما تحيى أجساد كثيرة لأرواح ميتة”
وإن لم يلتق الإعلامي طيلة حياته بإعلام لوجه الله فهذا لأنه من النوعية التي لا تخاف مقام ربها وإلا كان هو ليكسر القاعدة ولا يعممها ولا يسعى لترسيخ فكرة ” لا يوجد إعلام لوجه الله” ويا أسفاه.