أبي المجهول لا يزال لدينا وقت..

أبي المجهول لا يزال لدينا وقت..

قديما  تجرعنا مرارة تقبل حقيقة وجودنا من العدم، و لم يجدي معنا أن أصلنا من آدم و أننا نتزايد فعلامة الاستفهام حول أصولنا المقربة تظل تلاحقنا في كل مكان حتى داخل مبنى البلدية عند استخراج الوثائق، وكم ذا آلمني أنه في كل مرة أطلب شهادة الميلاد إلا ويقول لي أحدهم: هناك خطأ في الوثيقة لقد تم نسيان ذكر اسم الأب، عودي إليهم لتصحيحه..

في السابق كنت أخجل وأشعر بالضيق وأتظاهر بالتجاوب ولكن مع مرور الوقت صرت أنفجر بعد هذا التعقيب وأقول بلهجة عامية:” ما عنديش بابا” وأنصرف.

لقد أدركت منذ الصغر أن اليتم وصف أحن علي وعلى أمثالي من عار خطيئة لم نرتكبها لكننا نتحمل وزرها طوال أيام حياتنا، بل إن مولدنا خطر، بيد أن هناك شعلة تضيء بداخلنا دوما ويحاول العالم من حولنا إطفاءها، فعندما نصل إلى أقصى مرحلة القناعة بأننا عصاميون و مذهلون، تأتي تلك اللحظة التي تحطمنا بما نحويه من صلابة و قوة، لنتساءل من جديد.: من نحن ومن نكون، لماذا نعيش و لا  نعرف من أنجبنا؟.

،،،لماذا يعتقد أباؤنا نا أننا عبء و أن النقطة الفاصلة بين تقبلنا و رفضنا هو رابط موثق مختوم بتوقيع رسمي، هل تناسوا انسانيتهم عفوا أقصد حيوانيهم ليصيروا من جنس الموتى.

الحقيقة أن واقع مجهولي النسب يزداد فظاعة خاصة وأننا تركنا نواجه الزمن بلا معين، فلا تنفع الكفالة إلا إذا كانت مكتملة الشروط، نتحدث بصدق لا بشروط القانون فحسب.

يقول أحدهم و هو مثقف و ناجح: لم أكن سعيدا بصفتي شخص متكفل به، فالعائلة البعيدة تراني دخيلا و فرد من درجة ثانية تم انتشاله من قاع المجتمع وترقيته لدرجة أدنى من بقية الأفراد بدرجة، رغم أن الكفالة حق شرعي يكفل حياة أحسن من حياة الملاجئ إلا أن الكفيل يقع على عاتقه احاطة هذا الابن برعاية معنوية تقتضي عدم إحساسه بالنقص و عدم شعوره العالي بالاستحقاق حفاظا على كرامته من جهة و على استقراره النفسي من جهة أخرى.

الإسلام أولى عناية باليتيم و الطفل الغير شرعي على حد سواء و لهما الحكم الشرعي ذاته وقال عنه أخوكم في الدين، وحماه من العوز و منحه الاحتواء، إلا أن عامة الناس وفي مجتمعنا المسلم المحتفظ للأسف تعتقد أن أجر كفالة اليتيم التي تحدث عنها النبي -صلى الله عليه وسلم- هي كفالة طفل قد تخلى عنه أبواه، أو فقدهما باليتم و هذا عين الخطأ، فحالة كهذه تدفع أي انسان للسبق نحو احتضان هذا المخلوق الذي لا حول له ولا قوه، طبعا وله أجر وثواب، إنما المقصود بكافل اليتيم الموعود بالأجر العظيم، هو اليتيم الذي توفي عنه والده و له أم ترعاه و لا معيل لها، فيتزوج منها رجل فيعيلها هي و ايتامها، أو يخصص لها معاش يحفظ كرامتها الخ……

من هذا الصنيع تتجلى عظمة الإسلام للتصدي لظاهرة فصل الطفل عن أمه، ففي الملاجئ تضطر الأمهات العازبات في مجتمنا الشرقي للتخلي عن أطفالهن قسرا لأن العوائل المتكفلة لا تقبل وجود الأم البيولوجية، فالكفيلة تطمح لنيل رضيع لم تستطع انجابه، ويطول الحديث عن هذه الجزئية فهناك استثناءات لا غنى عن ذكرها كأن تترك الأم رضيعها طوعا..

ما يجب توضحيه هو أن الدين و العرف وضعا للزواج مكانة لتحمي الأفراد البالغين و الأطفال على حد سواء، وأن الهفوات و الزلات أو الخطيئة بالمختصر في مجال الأسر و الانجاب خارج الاطار الشرعي و المشي عكس التيار يولد حتما الانفجار، الذي يدفع ثمنه غالبا الطفل البريء بلا ذنب ولا إثم إنما يعيش معذبا، مجهولا، مهانا، مساقا للحياة بغير فرح، يعيش و يرى الفرق بينه وبين الجميع.

من غير خجل ولا شعور بالخزي والعار أضم صوتي لهم لأنني على رأسهم وأشد على أيديهم وأقولها بصوت عال:” أنا منكم و أنتم مني، لا أعرف أبي البيولوجي، ذاك المتهور الأرعن الذي رفض الاعتراف بي ودارى خطيئته بخطيئة أكبر، ولكني موقنه أن الله كفاني حينما جعلني ابنة الإسلام، فالإسلام أبي ولا أب لي سواه، إذا ما افتخرو بقيس أو تميم، ولم يعد يهمني ما يفكر به من حولي وألقابهم المشينة نحوي، لأني سيدة محترمة وعفيفة لم أرتكب أي خطأ أو جريمة أخشى الله في السر والعلن ولا أنتظر من غير محاسبتي، وأدرك أنه سينصفني يوم أقف لمحاسبة كل من حاكمني وقضى علي بجرم لا يد لي فيه، رغم أني ما زلت أنتظر أن أحل من ظلمني من هذا الموقف بمد يد العفو والغفران، وكم هم كثر وأولهم أبي المجهول فمازال لدينا وقت.”

error: المحتوى محمي !!