البسطاء أكثر الناس عطاء

البسطاء أكثر الناس عطاء

يرى الإنسان في طريقه عدة وجوه، و قد يتشارك المصالح مع بعض الأشخاص من مختلف الفئات العمرية، وعلى اختلاف أشكالهم وتفاوت مستوياتهم الثقافية، وتباين أحوالهم الاجتماعية وأوضاعهم المادية فيتأثر ويؤثر.

فكل واحد من البشر ميسر لما خلق له، وفي أقناء رحلة الحياة يفيد ويستفيد، يتعلم أشياء جديدة ويعلم غيره، ويقاسم من حوله الحياة بمسراتها وأحزانها، وقد يلتقي بأناس غرباء لكنهم يبقون في الذاكرة.

على مدار السنة نلتقي بأناس لم نكن نعرفهم من ذي قبل، زمنهم من يحدثنا بصدق وتواضع، فتشدنا مواقفهم، أو تؤثر فينا حالتهم، لأننا نظل بشرا يتأثرون بمصاب غيرهم ويحملون قلوبا تستشعر الآلام، فلا أحد بمنأى مشاكل الناس وهمومهم، ولو اختلفت نوعيتها لكنها تبقى مؤرقا يؤذي.

من بين كل الغرباء الذين التقيتهم هناك بعض الأشخاص الذين لم أتمكن من نسيانهم، وأولهم إيمان وقد اجتمعت بها منذ 11 سنة وطانت وقتها في31 من العمر، الأم العازبة للطفلين أنيس( 5 سنوات ) ومهدي ( 5أشهر حينئذ) والتي هي الأخرى مجهولة النسب، فبعدما قضت طفولتها بين مراكز الطفولة المسعفة،و لما بلغت 16 سنة تبنتها عائلة من قسنطينة 400 كلم شرق الجزائر العاصمة، وبعدما أنجبوا طفلا طردوها للشارع وهي شابة بعمر الزهور، لتتخذ من الكرتون والخرق البالية فراشا لها ومن النفايات والصدقات طعاما ولباسا لتبدأ حكايتها المريرة مع التشرد.

تعد إيمان ضحية من ضحايا المجتمع الذي همشها كثيرا ومحا وجودها من قائمة الإنسانية وتركها تتعرض للاعتداءات والاغتصاب، ورغم كل القسوة التي تحيط بها ومرارة المعاناة التي لا تعرف طعما سواها، إلا أنها امتلكت قلبا رحيما ورفضت أن تلقي بفلذات كبدها وسعت للاحتفاظ بهم في ظل كل ظروفها الصعبة، ولأني لا أملك عنوانا لها وهي لا تستقر بموضع فقد عدت لمكان التقائي بها أمام البريد المركزي بالعاصمة مع بعض المحسنين الذين تأثروا بمصابها وأبوا إلا تقديم يد العون لها، ولكن للأسف عدنا خائبين لأننا لم نجدها رغم السؤال والبحث عنها، فأدعو الله أن يفتح لها أبواب رحمته .

أما الوجه الثاني فهو الصغير شمسو (13 سنة)، الطفل الواعي والناضج، ذو العقل الكبير، يعمل كبائع لعب أطفال وبالموازاة يدرس بالمتوسطة، تلميذ مجتهد ومميز، يستغل كل عطله في العمل بجد لمساعدة والده الكفيف في إعالة أسرته.

أما الآنسة بديعة ( 30 سنة) والتي تعيش في وضعية مزرية وكاد فقرها أن يكون كفرا، إلا أنها كلها صبر ورضا ولما رأت الأسى في عيني لحالها رغم محاولتي إخفاء الأمر، نظرت إلي باسمة لتقول :” مصيبة المرء في دينه يا أختاه”، جملة أحفظها عن ظهر قلب ولكني أحسست وكأني أسمعها أول مرة، وصرت أستذكرها عند كل مصاب، وأجد فيها عزاء وقوة.

ومن أطراف ما حدث معي كان أثناء تحقيق حول ظاهرة تسول الأطفال، فقد التقيت مجموعة من الأطفال المتسولين وهم يعرفون بعضهم جيدا لذا كان كل واحد ينادي على الآخر حتى اجتمعوا حولي، وبدأت أحادثهم وبما أن الحديث طال بيننا جلسنا جميعا على مقعد حجري فمر أحدهم وقام بإلقاء 30 دج أمامي كصدقة ظنا منه أني متسولة، فاستأت كثيرا وقمت بإرجاع المال له على الفور ، ولكني أدركت أنه حتى ولو لم أظهر بمظهر المتسولة إلا أن الأطفال الذين كانوا يحيطون بي أضفوا نوعا من الشفقة والحرمان لجلب المحسنين، وهنا فقط فهمت لماذا يستعمل المتسولون الأطفال كإكسسوارات للاستجداء ورفع الأرصدة، والغريب أن طفلا من بين المتوسلين هو الآخر أراد إعطائي بعض المال كشكر منه على تعاملي بلطف معه.

هؤلاء مجر أناس بسطاء يعيشون في الظل ولكن نورهم قد ينير عتمة القلوب القاسية، ماء وجوههم يزين ملامحهم البرئية المتعبة، وعطاؤهم المعنوي وحتى المادي خصهم بميزات يفتقدها الكثيرون من أصحاب المناصب العليا والمكاسب الخيالية، لأن قلوبهم خالية.

268 مشاهدة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *