إن جميع العناصر المتعلقة باستخدامات الفضاء السيبراني-الرقمي والتي تم توصيفها وتحليلها آنفا، تؤدي إلى فكرة مهمة مفادها صياغة مفهوم للتنشئة الاجتماعية الرقمية. غير أن هذا المفهوم لازال في قيد التشكل منذ ظهور التكنولوجيا الرقمية التفاعلية.
ولعل إمكانية بناء الروابط الافتراضية في الفضاء الرقمي وما يخلقه من أنماط جديدة في اكتساب خبرات حياتية-اجتماعية لدى المبحرين يؤشر في العمق على ميلاد مفهوم التنشئة الرقمية. وهو ما يعني أن هذا الفضاء أصبح له دور أساسي في تعلم الحياة الاجتماعية لما لمحتوياته ورموزه الثقافية الجديدة من تأثير على السلوك الاجتماعي لمستخدميه.
إن التواصل الافتراضي-الرقمي حسب كلير باليس Claire Balleys (2017)، هو ” ثمرة لقاء بين المبحرين في تنظيم الذات والاستقبال الذي يحظى به ذلك لدى الآخرين (…) وهو بذلك جزء مهم من ديناميكية علائقية بارزة”
وما يدعم بناء مفهوم التنشئة الرقمية هو أن هذه الأخيرة أصبحت معززة بالحركية الرقمية التي يوفرها الهاتف المحمول الذكي الذي تحول إلى جزء من أعضاء الجسد المتفاعل مع الآخرين في الفضاء السيبراني-الرقمي كما أسلفنا القول. ووفقًا لباسكال ريغو Pascal Rigaud (2019)، فإن المحمول الذكي Smartphone أصبح ” كما هو واضح في العلاقات الاجتماعية أو العائلية أو المهنية أو الودية أو التجارية. أداة رئيسية للوصول إلى الويب. الشيء الذي حول خدماته إلى فعل اجتماعي كامل un fait social total”
علاوة على ذلك، تكمن خصوصية هذا الفضاء بالنسبة للتنشئة الرقمية في قدرته على الربط الشبكي بين مستخدميها من ثقافات مختلفة. فبمجرد اتصال المستخدمين بأحد هذه الأنظمة الرقمية، يُطلب منهم إنشاء ملفا للتعريف بأنفسهم وليتحولوا بعد ذلك إلى صور رقمية مرتبطة ببعضها البعض من خلال قوائم الأصدقاء حيث تبادل المحتويات والمضامين ذات الطابع التنشيئي الرقمي.
والربط الشبكي La mise en réseautageفي الفضاء الرقمي له خاصية تضخيم التفاعلاتInteractions amplifiées خارج حدود وقيود المساحات الفيزيقية والعلاقات التي تتم وجهاً لوجه. فحسب دانا بويد (2007) Danah Boyd، فإن التفاعل على الشبكات الاجتماعية الرقمية تحكمه أربع خصائص كما هو موضح في الإطار التالي:
– الديمومةLa perdurabilité أي المدة الزمنية غير المحدودة للمحتوى المعروض على الفضاء الرقمي.
– قابلية التحقيق Investigabilité أي يمكن الوصول إلى المعطيات المرقمنة من خلال البحث والتحقيق.
– إمكانية إعادة الإنتاج La reproductibilité أي مشاركة المنشورات
– الاستماع الذي لا يمكن تمييزه L’écoute indiscernable أي الوجود المحتمل لجمهور “صامت” بمخططات غير واضحة، والتي لا يمكن تحديدها بسهولة، لأنها لا تتفاعل بشكل مباشر.
من خلال هذه الخصائص التي تحيل على التفاعل عبر الشبكات الرقمية، نستنتج أن التأثير السيبراني يتحقق على عدة مستويات متداخلة، ولا يقتصر على التبادل المباشر لأن المحتويات تظل لزمن غير محدود في هذا الفضاء. حيث يمكن الوصول إليها بمجرد تسجيل دخول المستخدمين إليه والتأثر بمضامينه. وهو ما يفسر إعادة نشرها وتقاسمها بين المبحرين في الفضاء السيبراني عن طريق إعادة إنتاجها بواسطة وظيفة الاستنساخ التي تشجع العديد منهم على اتباع سلوك المماثلة الافتراضية وتضخيم محتوياتها ومضامينها على نطاق واسع.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن التفاعلات الرقمية ما هي في الأساس إلا شكل آخر من أشكال إقامة العلاقات في “منطقة جديدة” وفقًا لتعبير أنطونيو كاسيلي Antonio Casilli (2010) الذي يعتبر أن “التواصل الاجتماعي عبر الوسائط الرقمية هو وسيلة ليس فقط لتعزيز العلاقات الاجتماعية القائمة (…) ولكن أيضًا لإنشاء روابط جديدة “
وهكذا، تعمل التكنولوجيا الرقمية على تغيير أنماط التواصل لدى مستخدميها وطرق بناء ذواتهم من خلال إنشاء روابط اجتماعية جديدة. وغني عن القول، إن كل هذه العناصر هي في قلب العملية المتعلقة بالتواصل الاجتماعي والتنشئة الرقمية.
1.2 التنشئة الرقمية، تنشئة أفقية
غالبًا ما نميز بين طريقتين في التنشئة الاجتماعية وهما: التنشئة الاجتماعية العمودية والتنشئة الاجتماعية الأفقية. فإذا كانت الطريقة الأولى تحيل على منطق الخضوع المستند إلى علاقات السلطة مثل التنشئة الاجتماعية التي يتم إنشاؤها بين الآباء والأطفال أو المعلمين والطلاب على سبيل المثال. فإن الطريقة الثانية تحيل، من جهتها، على ما يحدث داخل مجموعات الأقران Les groupes de pairs بين الطلاب مثلا أو الأصدقاء أو بين الأفراد الذين لهم نفس المكانة ونفس الممارسات المهنية والاجتماعية.
وما دامت التفاعلات الرقمية تتم بطرقية أفقية، فإن التنشئة الرقمية التي تتولد عنها تأخذ طابعا أفقيا حيت تغيب التراتبية في العلاقات والروابط الاجتماعية-الافتراضية. وهو ما يعني أن التفاعل في الفضاء السيبراني-الرقمي وإنشاء المجموعات الافتراضية Les communautés virtuelles تتيح وظائفها البرمجية للمبحرين على متنها إمكانية التصرف بحرية دون قيود العلاقات الرأسية القائمة على المكانة والسلطة والدور الاجتماعي المؤسس من طرف المجتمع.
وعلى حد تعبير بيير أنطوان شاردل Pierre-Antoine Chardel (2013)، مع تطور التكنولوجيا التفاعلية ” إننا نشهد تأكيدًا لثقافة أفقية تميل إلى زعزعة استقرار النظام الرأسي الذي تم إنشاؤه سابقًا من خلال تربية الوالدين…” . وبذلك تأخذ التنشئة الرقمية بعدا أفقيا مستقلا عن البعد العمودي الذي يمارس في الأسرة والمدرسة وكل المؤسسات التنشيئية التقليدية.
2.2 التنشئة الرقمية والافراط في الارتباط
لقد أخذت التكنولوجيا الرقمية، بشاشاتها التفاعلية التي تعمل باللمس والنقر، مساحة كبيرة في التفاعل اليومي الحر بين مستخدميها مما جعل التنشئة الرقمية تتميز بالإفراط في الارتباط بمحتوياتها المرقمنة Une socialisation hyperconnectée. الشيء الذي يجعلها تمارس تأثيرا سيبرانيا شديد الارتباط خاصة بالنسبة للأجيال من الشباب الذين تزامن وجودهم مع ظهور التكنولوجيا التفاعلية.
وهو ما يعني أن الممارسات الرقمية أصبحت اليوم تحتل مكانة كبيرة في تنشئة الشباب وفي بناء شخصيتهم بالموازاة مع تأثير التنشئة الاجتماعية داخل المؤسسات التقليدية كالأسرة والمدرسة. وعلاوة على ذلك، فإن التفاعل المفرط باستخدام الهواتف الذكية يكثف من عملية التنشئة الرقمية ويجلها مفرطة لدرجة تجعل الفضاء السيبراني-الرقمي بيئة لممارسة الحياة اليومية.
مع الافراط في الارتباط الشبكي الرقمي أصبحت التنشئة الرقمية عملية غير منعزلة في المكان والزمان لأن وجودها مضمون في جميع الأوقات بفضل الحركية الرقمية التي يوفها الهاتف الذكي الذي يحول الحياة السيبرانية إلى حياة يومية راهنية.
وبالتالي، فإن التنشئة الاجتماعية الرقمية، كمفهوم قيد التشكل، لا يمكنه، بأي حال من الأحوال، تجاهل التواصل المفرط للمستخدمين الرقميين خاصة الشباب منهم. وبهذه الطريقة، فإن السلوك الرقمي المفرط في الارتباط ليس مجرد حقيقة تقنية طالما أنه يظل محمّلا بالمعاني والنماذج الادراكية والقيم والتمثيلات الاجتماعية العابرة للمجتمع المرقمن.
ومن أجل فهم وتفسير التنشئة الاجتماعية الرقمية، يجد علم النفس الاجتماعي، وكل التخصصات العلمية المتقاطعة معه، نفسه مطلبا باستثمار مناهجه ومقارباته للبحث في الآليات الادراكية التي تؤسس لها هذه التنشئة الرقمية خاصة فيما يتعلق بعملية التأثير السيبراني-الرقمي الذي يتعرض له الكثير من المبحرين المفرطين في التواصل الرقمي.
3.2 التنشئة الرقمية، تنشئة مُضخمة ومُضاعفة
نظرًا لما تتيحه التكنولوجيا الرقمية من تقنيات لإبراز الأحداث عن طريق الصورة والصوت والتأثيرات المختلفة، فإن التنشئة الرقمية تصبح مضخمة ومضاعفة Une socialisation amplifiée et augmentée. وبالتالي تأخذ الروابط الاجتماعية الرقمية داخل هذا الفضاء دورا يعزز الرغبة والقدرة معا لدى المبحرين في اكتشاف أحدات ومضامين عن بعد لتأثث واقعهم الراهني. وبعبارة أخرى، إن تضخيم التنشئة الرقمية للمحتويات المنشورة في الفضاء السيبراني يؤثر على عدد كبير من المستخدمين في عملية ترسيخ نماذج انفعالية وادراكية لديهم. فالأحداث التي تقع في الواقع قد لا يُنتبه لها إلا بعد نشرها رقميا وتضخيمها، الشيء الذي يزيد من تأثيرها التنشيئي.
إن تضخيم الرابط الاجتماعي على المنصات الرقمية لا يلغيه كما أكد ذلك أنطونيو كاسيلي Antonio Casilli (2010)، بالقول “إن التكنولوجيا الرقمية لا تهدد الرابط الاجتماعي، بل تعيد تشكيله وتجعله متعددا” .
إن تضخيم المحتويات (الصور والنصوص ومقاطع الفيديو والقصص) والتي يتم تداولها ومشاركتها بشكل مفرط على الشبكات الرقمية، تزيد من وقع التأثير السيبراني-الرقمي، الشيء الذي يقوي ويعزز الدور التنشيئي للرقمنة في عملية التواصل وبناء الروابط الاجتماعية.
وهو ما يعني أن البناء الاجتماعي للمستخدمين الرقميين يتحقق أيضًا من خلال هذا التضخيم الذي يميز عمليات التبادل عبر التواصل المرقمن على المستوى المعرفي والوجداني. إن التكنولوجيا الرقمية، بذلك، تطور لدى مستخدميها عددًا معينًا من المهارات “المعرفية التقنية” مما يسمح لهم بزيادة الإنتاج والتبادلات عبر منصاتها. فالجمع بين الأنشطة الرقمية التي يقوم بها المستخدم في اليومي يوفر له اكتساب مهارات تواصلية متعددة. الشيء الذي يمكن اعتباره فعلًا يمثل جزءًا مهما من التنشئة الاجتماعية الرقمية.
د. مصطفى شكدالي
التعليقات
التعليقات مغلقة