عادت من شرودها على صوت اعتادت سماعه كلما وردتها رسالة إلكترونية، فتحت الهاتف وطالعت الإشعارات، منبه الصلاة، وتحذير من امتلاء سعة ذاكرة الهاتف ورسالة مجهولة من رقم غير مسجل ” هذا رقمي، إن احتجت لمساعدة؛اتصلي بي وسأساعدك”…قرأت كلمات الرسالة بشوق كبير، تفحصت الحروف بعينين براقتين يكاد الدمع المحجور ينفجر منهما لولا أن زمن صالح والمعجزات ولى بغير رجعة في انتظار اليوم الموعود، يوم الحساب، اليوم الذي تنتظره الحمامة وهي موقنة بأن الله تعالى لن يبخسها أجر ما عانته في الدنيا….
لوهلة من الزمن سرّت وتجاوزت بعد الزمان، هاته الحمامة التي لا يربطها بالحمام غير الأصل، والداها طيرا حمام وهي أيضا حمامة، لكنها لا تشبه الحمام بقدر ما تشبه نوع طائر الحسون ولذلك توافق أفراد السرب على تسميتها بحسونة، حمامة لا هي من الحمام ولا هي من صنف آخر من الطيور غير سحنة شبه عابر…
والمعاناة دوما ما تبدأ بصراع الهوية، رفض الآخر وتقبله ألقى بحسونة في بحر من الأحزان والشرود، لا عزاء لها فيه الآن -بالنسبة لها على الأقل- غير هاته الرسالة وما حوته من تطمينات يستحيل أن تصدر من ثغر صاحبه ذئب، هي تعرف الذئاب جيدا، عوائهم راسخ في ذاكرتها من فرط ما جمعها بهم القدر ولكنها دوما كانت تنجو من مخالبهم ولو بأعجوبة، لذلك لم تشك في أن الرسالة المنيرة التي وصلتها للتو هي من ذئب آخر، أو بالأحرى من سنداوة شقراء ، وهيهات أن تكون من غير وكر المكر فيبتسم لها الحظ وتبدل آلامها آمالا .
إقرأ أيضا:سلسلة حكايات كما يجب أن تروى، الحكاية الخامسة: السندباد البحري -الرحلة الخامسة-صراع الهوية واكتشاف الذات ألقى بحسونة في جحر أفاع أهلكت سنوات غالية من عمرها وكانت لتمكث فيه العمر كله، لولا ضجر سيدة الجحر من اصطبار وتجلد حسونة، فلا السم سرى في الأوردة ففتك بها ولا العض قطع الشرايين فأردى بها قتيلة لينتهي بها الحال وجبة في عصارة أحشاء الأفاعي.
كانت حسونة حمامة هزيلة رقيقة لكنها على رقتها امتلكت قوة داخلية تتصدع من شدتها الجبال، فالحمامات اللواتي وقعن في الشراك كثيرات ولكنهن سقطن سريعا من غير أن يروي التاريخ حرفا عن سير كفاحهن عكس حسونة التي غادرت الجحر وهي تنبس بكلمات رردها صدى العدم في الجحر مرات عديدة، ” لم تكن اللدغات سوى لمسات حانية، ودوام الحال من المحال، فلا الأفراح تدوم ولا الأحزان أيضا….زمن ومضى.”
ولكن هل تنتهي أحزان حسونة وتطعم لذة الفرح بعدما أفقدها القرح حاسة التذوق…؟ إلي بمجيب عن هذا السؤال، أحضروه ولوكان شرارة نار، أو لهيبا أمسكه فتحرقني إجاباته لكنها تظل ردا عن تساؤل محير…
وجدت الحمامة نفسها مجددا حرة طليقة، ولكن للحرية أيضا ضريبتها فها هي مطروحة في الشارع تتوسد رصيفه، لا فراش لها ولا غطاء غير جناحيها اللذين جنت من ضراوة سنون الجحر، بين الأفاعي ريشا منفوشا، ولكنه مجرد ريش…سينمو ثانية ومهما امتد الزمن، ويكسو الجناحان بخليط النعومة واللون مرة أخرى وتسمى تلك الساعة، ساعة البعث، الساعة الأزلية التي تهفو إليها الأنفس الشاعرة البريئة، بيد أن هاته اللحظة ظلت مجرد حلم وأسطورة ملحونة من نظم الشعراء المحفوظة بآمالهم المسموعة والمقروءة، فالمطر يتهاطل عام بعد عام والعنقاء ما تزال رمادا، فلسطين ما تزال محتلة، والمعشوقات تزوجن غير عشاقهن وأنجبن خلقا آخر بدل به الجيل الأول من العشاق… وتلكم الأيام نداولها بين الناس.
إقرأ أيضا:حكايتي1 : حكايتي مع البذلة وربطة العنقاتصلت حسونة بالرقم الذي سرعان ما اتضح أنه لم يكن سوى حبلا قصيرا علقت عليه أمالها المتزاحمة بين الخوف والرجاء… ويا للخيبة فالهاتف يرن من غير مجيب، عاودت الاتصال مرات ومرات ولكن لا مجيب يرد على سائله غير الله، بكت الحمامة كثيرا وشذت بصوت شجي لو سمعته أذن موسيقي لجعلته ملخصا مسموعا للحياة … آمال وآلام خيبة وخيبات ولكن من يدري فالوعد الحق أن بعد العسر يسرا…