جموع تقف على باب الرحيل …تنتظر مفارقة عالم ألفته وبلا ريب ستغادره إن لم يكن اليوم فغدا.
كل يوم تردني ٱخبار عن أُناس التقيتم في دروب الحياة أنسا وجوارا واختيارا، أو قضاء وأقدارا.. تؤرقني ذكراهم شوقا واشتياقا ولفيف من حنين يتوشح ملامحهم أو مجرد رموز عابرة ما رأيتها أصلا بل سمعت عنها أو تصفحتها في صحائف المعارف والصدف لأشخاص رحلوا في بداية الطريق أو في منتصفه وقليل هم من بلغوا النهاية ليصيروا أبطال بداية جديدة.
بين الدفاتر والرسائل وعلى المواقع بحثت عن تفسير لاستيعاب هذا الرحيل المفاجئ المنتظر والذي لا يتوقف من القمة إلى السفح ..وببساطة يأخذ من حولي باستمرار، يطال علية القوم وأوبادهم، صفوتهم وأخلاطهم، كبيرهم وصغيرهم، سقيمهم وصحيحهم.
وفي لحظة صدق مع الذات خشيت أن يتوه العمر منِّي سدا وأعانق الرحيل، فلم أجد غير جدِّي الحكيم لألجأ إليه وأفر من متاهات أرض التيه، جدِّي العجوز الذي عادة ما أجد عنده ضالتي عند التفتيش في ذاكرته المحتفظة ببقايا زمن الطَّيِّبِّين.
اقتربت من غرفته وطرقت الباب طرقا خفيفا فلم أسمع ردا همَّمْت بالمغادرة فإذا صوته الخافت يقول: ” الباب مفتوح” ..فهمت أنه يطلب منِّي الدخول.
ولجت متثاقلة الخطى وهوجالس على سجادته التي قليلا ما يبرحها وسلمت عليه بانكسار، فابتسم إلي قائلا:” لابد أن هناك ما يشغل بالك يا صغيرتي..”
ومن غير مقدمات سألته:” لماذا يرحل الجميع من حولي ياجدي، إلي أين يذهبون؟”
رد علي بسؤال آخر :” أي رحيل تقصدين؟”
أوضحت:” ذاك الرحيل الذي لا أعرف له وجهة ولا موعدا، مثلما رحلت جدتي وخالتي وأخي..نعم أخي محمد أتذكر يا جدِّي كيف رحل الحبيب حتى من غير وداع.”
فقال بحسرة:” فهمتك الآن يا بنيَّتي، تقصدين ذاك السفر البعيد الشديد”.
اندهشت قائلة:” سفر بعيد! … ولكن السفر يحتاج لتحضير وحزم أمتعة وكثيرون من يرحلون من غير متاع”.
فسَّر جدي بروِّية :” نعم معك حق هو سفر يحتاج لأمتعة كثيرة ومهما أعددتها تبقى غير كافية لولا رحمة الله، فالنَّاس في غفلة عن حزمها لأنهم لا يعوون أن موعد الرحيل من الغيبيات ويمكن أن يكون أي لحظة ويستحيل تخمينه أو حسابه ولو بأدق العلوم الرياضية والفلكية، قد تدل عليه بعض العلامات ولكن تحديده بدقه من علم العليم وحده، فهناك من يأخذه الأمل ويُسَّوِّفُ جمع عدته، وهناك من يتجاهل أو لا يصدق أصلا أن الرحيل قد يكون صِبَاه، والبقية يظلُّون معلقين بالرجاء والأمل إلى أن يباغتهم فجأة وهم واهمون أو نائمون”.
سألته ثانية:” وهل أعددت أمتعتك يا جدي؟”
أشار إلي بفتح صندوقه الغامض القابع في زاوية النسيان والذي دائما ما كان يغريني فتحه ولكن فضولي كان يتوقف أمام تحذيرات جدي بعدم الاقتراب منه.
سارعت إليه ورفعت غطاءه وكم كان عميقا وواسعا رغم أن مظهره الخارجي لا يوحي بذلك إلا أنه الفسحة التي ما رأيتها قبلا، وقد هالني عدد الحقائب والرزم به فقلت في انبهار :” ولكن كيف حزمت كل هذا.. وماذا وضعت بداخلها؟”
شخصت عيناه في تأمل وقال :” ليس سهلا جمع المتاع يا ابنتي والأصعب الاحتفاظ به فقد تمضين سنينا في العمل بجد وإخلاص وصدق نية لتحصيله وفي لحظة طيش وضعف يضيع، تجمعينه في ظلمة الليالي الباردة، وفي حر أيام الصيف الطويلة، بالبذل والعطاء والإيثار، بالصدق والأمانة والشرف، بقلب رحيم وعقل حكيم وعليك حفظه من الضرر والزوال”.
تملكني الخوف والحماس فقلت متسائلة:” هل حان الوقت لأجمع أمتعتي.. هل يمكن أن تكون بهذا القدر الكبير مثل محتوى صندوقك؟”
رد علي واثقا:” بل أظنك تأخرت، فعلى المرء جمعها قبل طلوع الشمس فما تشرق إلا وتغيب سريعا وكأن الفاصل بينهما مجرد ساعة زمن، هيا تداركي قبل أن يجيء الغروب ويحل الظلام.”
التفت يمينا وكأنه يبحث عن شيء ما ..مدَّ يده وتناول كتابا من على المائدة الصغيرة قربه وقال:” خذي يا صغيرتي فهذا دليل السفر البعيد الشاق، إن التزمت بتعاليمه فستجمعين أفضل المتاع وأدومها.”
أخذت الكتاب بلهفة نظرت إليه لأقرأ عنوانه فوجدته الكتاب الذي أراه في كل مكان في مكتبة بيتنا وعلى سرير أخي -رحمة الله عليه-، وفي حقيبة يد أختي الكبرى وفي سيارة أبي وعلى طاولة أمي، وفي بيت جيراننا، يزيِّن رفوف مكتبات مدرستنا، ويملأ أرجاء مسجد حينِّاَ، إنه الكتاب الذي أجده حيثما ذهبت، إنه القرآن الكريم.
رفعت بصري نحو جدِّي مستغربة:” أهذا هو الدليل الذي يملكه الجميع فلماذا يرحل غالبيتهم من غير متاع؟”
أجابني والشَّجن يملأ صوته المختلط بحشرجة غريبة:” لأنهم لم يفهموا حقيقة الدنيا ولم ينظروا إليها بمنظار هذا الكتاب، فجروا وراء الأحلام والأماني وأمنوا حياة لا تؤتمن، لقد خلق الله الإنسان ليختبره ويرى إخلاصه الحقيقي في عبوديته وهي كل الانعتاق للوصول لبر النَّجاة، ومن الجهل اختيار سبيل آخر نتيجته الهلاك ولا تُدْرَكُ نتيجة هذا الخيار الخاطئ إلا لحظة عجز الجسد عن الحركة وبعدها التغسيل والتكفين للدخول إلى حفرة، وفراق الأهل والأحباب والمال والملبس والمأكل والمشرب، سيفنى الجسد البالي لتبقى الروح خالدة فيما قدمت، ولن تتأرشف سوى تقارير دقيقة فيما أفني العمر وما ابتغي في غير مرضاة الخالق.”
صمت جدي برهة وعلامات التعب بادية عليه هرعت إليه فزعة ..ساعدته بالتمدد على السرير ضغط على يدي بقوة ورفع سبابة يده اليمنى نظر إلى السماء وقالها بعزة وثقة:” أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله” جال ببصره في الغرفة ثم اتجهت مقلتاه يمينا وسكنت لم أكن أفهم ما يحدث معه، هززته، كلمته ناديت عليه لم يرد… أعدت الكرة مرات ومرات ولكنه كان الرحيل الأخير.
نزل الدمع من عيني حزنا على فراقه و رضى بحكمة الخالق وطمعا في رحمته وتقبله لما سيحمله جدي الطيّب من متاع حيث لن يظمأ ولن يجوع ولن يعرى، وسكنت الرهبة أعماقي خشية أن لا أجمع متاعا مثلما جمع، قبلت ناصيته الصادقة وهمست في أذنه: “لن أقول الوداع لأننا سنلتقي”.
ضممت المصحف إلى صدري وبلوعة وحنق دعوت الله أن يجعلني من أهله وخاصته وأن لا يجعل رحيلي الأخير إلا على طاعة.
وكان آخر ما جال في خاطري ذكرى أخي طَيَّبَ الله ثراه وأكرم مثواه، أخي من رحل باكرا وتركني أدين له بما علمني، هو معلمي الذي فطمني على عقيدة التوحيد الصحيحة ووسم قلبي بحب الالتزام، وجهز في بيتنا مكتبة خاصة لأمهات الكتب النفيسة وكنوز العلم والمعرفة، لم يدخر جهدا في توجيهي لخط أولى الحروف وزرع في نفسي المبادئ والأخلاق والقيم، ذاك الأب الروحي قبل أن يكون الأخ الأكبر اصطحبني في أول يوم إلى المدرسة، هو من كان يسألني عن التوقيت فأرد بذكر الرقمين الذين تشير إليهما عقارب الساعة فأبى إلا أن يعلمني حساب الزمن بدقة وليته ما فعل.. فبعدما كنت انتظر رجوعه للبيت في وقت محدد وألقاه بفرح وغبطة أخلف موعده ذات مساء ولم يعد، مر الوقت ثقيلا عليلا ولم يعد لأنه رحل ، رحل من غير وداع ولا تشييع بعدما كنت أسمعه كل يوم يردد قوله تعالى:” إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرض مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَ الأنعَامُ حَتَّى إذا أخذتْ الأرض زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أنهم قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أو نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ).
لقد تفكر ببصيرة وأدرك جيدا أنه سيرحل، وأذكر يومها كيف ثار دمعي منتفضا وأبى أن يجف فأقسمت عليه أن لا ينزل إلا نشوانا منتصرا، ولا يترك لليأس مكانا، فتلميذة أخيها النبيل يستحيل أن تيأس وفي الدنيا الصلاة ولعلها ستسير على خطاه لتجاوره المنزل بعد الرحيل الأخير حيث لا وحشة …لا ظلمة ولا اغتراب.
التعليقات