الحلقة-8- العلوم ونسقيتها في التراث العربي الإسلامي
يعمد محمد عابد الجابري في سياق قراءته للتراث العربي الإسلامي إلى تقسيم التراث وتفريعه إلى ثلاثة نظم أساسية .
فهو يقول في شان هذا التقسيم: “إن التراث العربي تتقاسمه ثلاثة نظم وهي:البيان، والبرهان، والعرفان ، وهذا يعني أن الثقافة العربية الإسلامية تتوزع إلى النظام البياني وهو عربي الأصل، والنظام العرفاني وهو غنوصي الأصل، والنظام البرهاني وهو يوناني الأصل.[1].
كما يجعل مكونات العقل العربي منقسمة ومتفرعة إلى هذه القطاعات:البيان-العرفان- البرهان..
هذا الاختيار في تفريع وتقسيم علوم التراث العربي الإسلامي بهذا الشكل يعود إلى اختيار المنهج ،و تحكم البنية المعرفية في المعارف التي تحضر في التراث العربي الإسلامي .
إذ كل صنف من هذه الأصناف الثلاثة يشكل نظاما معرفيا خاصا و متميزا قائما بذاته على مستوى المفاهيم وعلى مستوى الآليات والطرائق.
إن رهان المرحوم محمد عابد الجابري في اختيار هذا التقسيم يعود أن هذا التصنيف الثلاثي أملاه عليه التشريح البنيوي ، إذ كانت العلوم قبل هذا التصنيف تصنف وتقسم إلى علوم نقلية مثل الفقه و الحديث وأصول الفقه وعلم اللغة وفقه اللغة والمعجم، وعلوم عقلية مثل الفلسفة و المنطق والرياضيات ،وهذا التصنيف يغلب عليه الاعتبار الخارجي في تصنيف العلوم، وان كان كل صنف من هذه الأصناف الثلاثة يشكل نظاما معرفيا خاصا متميزا بمنهجه وبجهازه المفاهيمي وبنوع الرؤية التي يحملها عن الإنسان والعالم والوجود…..”[2].
لكن القوة كانت دائما لنظام للبيان أي الجانب اللغوي، فالمشترك بين العلوم الإسلامية لا سيما العلوم التي تنزع نحو البيان هو اشتغالها على البيان والتفسير والفهم، لان العلوم الإسلامية تبدو من الناحية الابستمولوجية علما واحدا ، مهمتها وغايتها الكبرى هو فهم واستثمار النصوص الشرعية لاستخلاص المعنى منها والوقوف على المقصد فيها.
فسواء تعلق الأمر بالعلوم الدينية كالتفسير والحديث والفقه والكلام ،أو بالعلوم اللغوية كالنحو والصرف والبلاغة والمعجم ،فان مادة البحث المشترك دائما في هذه العلوم كان هو الانطلاق من النص والاشتغال على تحصيل المعنى والدلالة في هذا النص …..[3].
من جهة اخرى يقف المرحوم محمد عابد الجابري على منهج الفهم الحاضر في علم أصول الفقه الذي يعده من ابرز العلوم الإسلامية تخصصا في الفهم والتلقي للنص،فهذا العلم جاء مثقلا وغنيا بالمباحث اللغوية والدلالية والمعجمية.
فالسند المرجعي في علم أصول الفقه هو للبحوث اللغوية ،والمحور الغالب قي هذه البحوث هو علاقة الألفاظ بالمعاني وهو المحور المنعوت بالدلالات.
وهذا يعود إلى هذا الاعتبار العلمي ، وهو أن الثقافة العربية الإسلامية عادة ما تنعت وتوصف عند كثير من الدارسين والباحثين بثقافة النص ،لان محورها و مرجعيتها هو النص المؤسس.
وهذا مؤشر قوي وعلامة واضحة على انه لا يمكن تقويم أو قراءة المنتوج العلمي والفكري لآي عالم من علماء الإسلام ما لم يتم الاقتناع المبدئي ،والتسليم العلمي المسبق بان المنتوج المعرفي والعلمي لهذا العالم كان متداخلا ومتفاعلا ومتحاور وموصولا مع العلوم السائدة والشائعة والمتداولة في زمنه وفي عصره.
لان المبدأ القائم في العلوم الإسلامية على اختلاف أسمائها وتباين أهدافها وغاياتها وتعدد مواضيعها فهي من الناحية الابستمولوجية المعرفية علما واحدا ، انه علم فهم النص أو نقد النص..
بموازاة مع هذا الاختيار الذي رافع عنه المرحوم محمد عابد الجابري في أكثر من مناسبة ،فهو يعارض التقسيم الثنائي للعلوم ،أي تقسيم العلوم إلى علوم نقلية وأخرى علوم عقلية أو إلى علوم المنقول وعلوم المعقول،لان هذا التقسيم يغلب عليه المعطى الخارجي،ولا يساعد على الكشف عن البناء الداخلي وعن الأرضية الابستمولوجية للعقل العربي….[4] .
المراجع
[1] -بنية العقل العربي لمحمد عابد الجابر ي:396
[2] – في قضايا الفكر والدين حوار مع الدكتور محمد عابد الجابري :مجلة مقدمات العد10 السنة1997.—تم إعادة نشر هذا الحوار في كتيب من سلسلة مواقف التي كان يصدرها محمد عابد الجابري وهو العدد:-28-.
[3] -التراث والحداثة:دراسات ومناقشات للدكتور محمد عابد الجابري:158.المركز الثقافي العربي:1991.
[4] -الفكر الفلسفي بالمغرب الأقصى. منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط سلسلة ندوات ومناظرات رقم :33الرباط:1983