المبادئ تحت رحى المصالح

استوقفتي عبارة طالما نرددها لضرب الأمثال في الضبط والانضباط “الكمون لايعطي رائحة إلا بعد طحنه”.. هي مقولة صحيحة وصائبة عندما تختلط عليك بعض الأعشاب، فبمجرد طحنها تستطيع تميزها عن غيرها برائحتها الفواحة المنبعثة مع المسحوق المتطاير.

وكذلك يمكن تمييز الناس حسب معدنهم، فمنهم اللماع، الباهت، اللين، القاسي، الخفيف والثقيل، أو بالمختصر الأصلي النفيس أو المقلد الرخيص الصلب المصنف بين الندرة والهباء.
وعند المحن والشدائد يظهر جليا أصل كل معدن، ويتضح الصديق الصدوق من غيره، وتوضع المبادئ التي يتشدق بها بعضهم ليلا ونهارا سرا وعلانية فرادى وجماعات تحت رحى المصالح وتنبعث الرائحة مع دورانها.
تعلمنا منذ الصغر أن ضرب الأمثال على لسان بعض الحيوانات باعتبارها تعيش في عالم له قوانين تحكمه تكون أقرب للإدراك من قبل الإنسان، إذ يلاحظ حياتها وطرق عيشها وفي الحقيقة تلك الأمثال لم تكن بمحظ الصدفة بل هي نتاج تجربة وحنكة……

فقصة الغراب وهو يحمل جبنا على غصن شجرة بينما الثعلب يتضور جوعا أسفلها إذ لايمكنه التسلق أو الطيران ومجاراة الغراب واصطياده جعلته يستظهر حليته الواسعة، وما كان منه إلا أن أنشد أنشودة المدح ليضع الغراب في شراك الغرور والإعجاب ويُظْهِر هذا الأخير جمال صوته وعذوبة لحنه بتغريده المزعزم، فصدح بالنعيق ليصدم بالضّبح والزمجرة والعويل طربا وفرحا واحتفالا بالنجاح ونيل المراد..

الغاية تبرر الوسيلة في عالم الحيوانات حيث البقاء للأقوى والأدهى ولو لم يراعي مبدءا أو يحترم شرعة فلا مكان للأحمق أو الضعيف.. لذا ستبقى قصة الغراب والثعلب عبرة لكل مغتر سهل الانخداع، وكذا لكل محتال يبيح ويستبيح.
الغراب والثعلب
حط غراب فوق غصن شجرة وفي فمه جبنة مدورة
فشمها الثعلب من بعيد ثم رآها كهلال العيد
واخذ يهدي الشوق للغراب كأنه من خيرة الأصحاب
وقال يا غراب يا ابن صهري وجهك هذا أم ضياء البدر
لم أكن ادري أن فيك ريشا هذا حرير قد أرى منقوشا
أقسمت بالود الذي يرضيك لقد أتيت الآن حبا فيك
وها أنا أرجو أن تغني عسى بك الهم يزول عني
لله ما أحلاك حين تنجلي صوتك احلي من صفير البلبل
فصدق الغراب قول الثعلب وحرك المنقار فعل المعجب
وصاح بكل عزمه :لا ليل فسقطت جبنته من فمه
قبضها الثعلب قبض الروح وقال في بطني حلال روحي
ثم دنا للطائر الغبي وقال قول الماكر الذكي
خذ مثلا يا سيد الغربان واحفزه للات من الأزمان
من يقبل المديح من أعدائه يعش فقيرا أو يمت من دائه.
ضرب الأمثال على لسان بعض الحيوانات للعبرة والموعظة واستنباط الدروس والعظات والتجارب واتخاذها زادا في مواجهة الحياة والخوض في سطحها دون الغوص في أعماقها التي لايسلم كل سباح حاذق وماهر من تقلبات أمواجها وعتو مدها وجزرها في كل لحظة وحين بين أخذ وعطاء، منح وحرمان، طيبة وقسوة، فرح وحزن، غنى وفقر، صحة وألم ،أنس وغربة…..
هي فانية لا تدوم لأحد ولا تستقر على حال، هي ممر وظل زائل.. فعش بمبادئك مدافعا ومحافظا عليها، لاشك أنك ستوضع على المحك وتحت رحى المصالح وستساوم عوض المرة عشرة، فلا تتنازل يوما تحت أي ظرف وتذكر أن بيع النفس بثمن بخس دراهم معدودات سيحرمك الخير كله، كن كعمر ابن الخطاب -رضي الله عنه- إذ قال فيه ابن القيم -رحمة الله عليه-: “وكان عمرُ أعقل من أن يُخْدَع، وأورعَ من أن يَخْدَع”.

134 مشاهدة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!