كتابة سردية مرتجلة جديدة خلال شهر رمضان المبارك عبر حلقات يومية تنشر على موقع معين المعرفة تتخذ من أحد مقاهي الأحياء الشعبية تيمة وفضاء لها، بفيض قلم الكاتب الأستاذ نور الدين الشكردة.
“لم يعد البشر يكثرتون بأمر تصليح ساعاتهم اليدوية والحائطية، الله الله على أناقة أيام زمان، ورزق أيام زمان، حينما كانت الساعة هي الإنسان..”، يتأسف “المدني” على واقع تجارته الكاسدة وهو يستطرد: “لا من يصلح، ولا من يقتني، البوار هو شعار محلات الساعاتيين بمنطقة القشاشين، بل وكل تجار أحواز النجارين والجامع والضريح”.
يواجهه “المكي” بحاجبين مقطبين، يلقي إطلالة غاضبة على ساعته المقلدة، تنتابه رغبة في المغادرة وزوار الميزان يلتحقون وينسحبون تباعا، يغمغم معاتبا “إذا غابت الثقة والإخلاص والمعقول بارت التاجرة وبار الإنسان، لم أهجر هذا البلد عبثا…”.
يتصنع غاضبا تفقد شاشة هاتفه الخلوي، ينبس مع نفسه “صاحبك هو جيبك، وينعل بو الثقة فين ما مشات وجات”.
تحاشيا مجددا النظر في عيني بعضهما البعض، تضمر حركات “المدني”، وسكناته غررا وتدليسا بينين، وتخفي ملامح “المكي” غبنا متدفقا…
يشيح نادما بعينيه عن الطاولة، يتأمل الفضاء وكأنه لا يكثرت بنديمه في المجلس، يحوقل جاهرا، يرتطم بصره بـ”الراوي” مهرولا صوبهما وبين يديه جرسه النحاسي القديم، يضع يده على فنجان قهوته وصدى لازمة تتردد متشظية منذ عاد من فرنسا فارا من تبعات الجائحة “اتبع طريق الهدى، ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين……”
يمر عاطل من الأزليين وهو يقرئ السلام على من يعرف ومن لا يعرف من جالسي المقهى:
ـ المكييييي المسماار الأورووووو السعاااادة، المدنييي أفيييين أفييسطا كاينة واحد سوااااتش وديييزل قتاااالة، عبد الجبااااار، المختاااار آراك عالتضبااااار من الزبااابل دالناااس لكباااار … رااافيييق أعيييش ومتحضيييش أقرااا باش تبرااا.. السيموووو بالصحة التحيميمااا… مناوشات حاقدة وإطراءات يغلفها النفاق والتصنع والمجاملة…
يشارف حرفيو الحي على إنهاء جولة “ضاما” احترافية، شهدت “النفخ” و”كول.. هاك كول.. زيد كول.. ثلاثة وضامة”. يعضد “الصنايعية” بعضهم البعض، ويتيهون في استشراف مستقبل مهنهم الآيلة للانقراض أمام الزحف الصيني الهادر.
يقبل “بوشتى” وعلامات الانشراح تسطع من بين تنيات ملامحه، فتحت إبطه استقرت قطعة ثوب “سوسدي”، يبادره زملاؤه بالسؤال، فيخبرهم بقصة شيخ الزاوية الفيلالية المقابلة لمقهى الناعورة ودأبه منذ عقدين على خياطة جلباب جديد إبان كل الرمضانات المنصرمة.
“أها نت دورتي الناعورة المسيمر وعاطيها غير للشكا والبكا” يعقب أحد الأصدقاء الحقدة.
تنتهي الجولة بالتعادل وقد احتل أحد الخصوم بضامته “واد” الرقعة، وتاه الثاني بين صعود ونزول، وكر وفر…
لم تستشر تقافة جلوس النساء بعد على قارعة رصيف مقهى الميزان وكل مقاهي الأحياء الشعبية، اللهم “الباتول” وهي تقتفي آثار “عبد الجبار”، أو بعض المتسولات المنقبات حين يحمن حول طاولات المقهى؛ يوزعن مطويات مكتوبة بخط رديئ؛ تستدرر عطف زبائن مسحوقين.
يبدو الجلوس على قارعة المقاهي وكأنه مهرب ومكافأة يومية لصناع وحرفيين قهرتهم الحاجة. بعشر دراهم يستطيع الزبون تزجية يوم كامل واقتناص كؤوس شاي من أباريق صديقة، إضاءة مقهى الميزان الخافتة تمنح إحساسا قسريا بالسكينة والطمأنينة، لوحات فنية مقلدة لم تنزع عن جنباتها واقيات كرطونية يعتقدها أغلب المغاربة جزء لا يتجزأ من اللوحة، أصوات فناني الزمن الجميل تجر المولوعين بالطرب الأصيل…
تبدو المقاهي أحيانا امتدادا للأسواق ورحبات الزرع والدجاج، وتبدو في أحايين كثيرة ملحقة لمسرح أو مدرسة أو جامعة، لكن الأكيد أن “الشخصية المغربية” بمقاهي مدينة فاس هي في طور التشكل، كما المقاهي وهي تعيش زمن التجريب والتشكل.
بمقهى الميزان تستطيع أن تعرف جديد تعديلات مدونة السير وسعر البيض البلدي، مآلات الربيع العربي وأحوال سوق الماشية بعين عائشة…
وبالداخل، في ركن المقهى العميق، وراء ماكينة العصر، ومن فتحة شرفة ضيقة؛ بدت بقايا يد سيدة تمد العصار بأبريقين من شاي؛ وعصيري ليمون وتفاح، ثم تولي النويفذة بظهر نحيل مقوس؛ وقد انهمكت في غسل رذاذ الزبائن من على كؤوس فارغة، ومسح رخام مطبخها القزم، وإعداد طلبيات أخرى وهي تغسل بين الفينة والأخرى الصواني؛ والملاعق؛ والمنافض والأباريق مثل ناعورة خشبية متآكلة لاتتعب ولا تكل…