انهيار العلاقات الأسرية

انهيار العلاقات الأسرية

تقديم

يوجب الميثاق الغليظ الذي يجمع بين الزوجين حقوقا متبادلة، فهذا الاندماج الذي شرعه الله تعالى ينجم عنه الستر والحماية، التعاون ومشاركة الأفراح والأتراح، مع تقاسم أعباء الحياة بيسرها وعسرها، ولكن يتخلل هذا التوافق الاختلاف في بعض الأحيان وحتى في أكثر البيوت انسجاما وهدوءا مما قد يؤدي لتوتر في العلاقات، فإن لاحظ الزوج مثلا من زوجته عصيانا له وترفعا عليه فسيلجأ مبدئيا للنصح والوعظ بالكلمة الطيبة ثم ينتقل للهجر في المضجع لا البيت ومن ثمة التأديب باليد من غير ضرب مبرح أو مساس بالوجه، وإن لم يجد ذلك نفعا فالدعوة ستوجه للمحيط للتدخل حيث يبعث حكما من أهله وحكما من أهلها للإصلاح بينهما، وإن فشلا في ذلك، فقد استحالت الحياة بينهما ولم يبق من سبيل غير الطلاق كآخر الحلول العلاجية لحياة زوجية باتت سقيمة ستضر بأصحابها لو استمرت.

ولكن من الرجال من صاروا يتجاوزون كل هذه المراحل وينتقلون مباشرة للتلفظ بالطلاق في كل حين ومن غير ضرورة تقتضيه ملحقين ضررا بأنفسهم وزوجاتهم، لا لشيء سوى لأنهم لم يفقهوا ماهية الطلاق وضوابطه.

الطلاق بضوابط

هناك من وجد في لفظة الطلاق متنفسا لثورته ومن دون مقدمات يطلب من زوجته الانسحاب من حياته غير مدرك للعواقب وأنه سيقع في المحظور، فإذا ما طلق بصريح العبارة فيسكون طلاقه منجزا وإن استعار كناية عنه “الحقي بأهلك “مثلا فان ذلك سينظر فيه حسب الأحوال ولكن مع تعدي هذا الطلاق العدد ثلاثة وفي مجالس متفرقة فما من شك بأن زوجته صارت بائنا ولا تحل له إلا بنكاح غيره، بيد أن هذا ما يجهله أو يتجاهله الكثيرون فيطلقون زوجاتهم متى شاؤوا ويرجعونهن متى يحلوا لهم دون إدراك أو اهتمام بأن الطلاق قد وقع، ويجد هؤلاء الرجال أعذارا وتبريرات لسلوكهم المرفوض كأن يؤكدوا أن إصدار هذا القرار هو امتصاص للغضب، وطلاق الغضبان لا يقع، غير أن الفصل في تحقيق درجة الغضب التي تحول دون وقوعه ترجع إلى مختص وصاحب علم لا تصنيفا حسب الأهواء، وأمام هذه الاعتقادات يجب البحث في مسألة من يرى أنه على صواب في تطليق عقيلته بالقول من غير نية الفعل وأن يقصد إماما وأهل ثقة ليفصل له في المسألة ويبرز ضوابطها الشرعية وما يواليها.

عدة المرأة في بيتها

مما أوجبته الشريعة الإسلامية أن تبقى المطلقة في بيت الزوجية طول فترة العدة ولا يجوز لزوجها أن يخرجها من بيتها وله أن يراجعها فإن مرت أشهر العدة ولم يمسكها أمكن أن يردها بعقد جديد و إلا سرحها بإحسان وهذا بالنسبة للطلقة الأولى والثانية أما للثالثة فقد صارت غريبةعنه ولا يمكن له مراجعتها إلا إذا تزوجت رجلا غيره وبعقد شرعي صحيح، وليس له أن يمنعها من ذلك فقد صارت حراما عليه وما من حقه أن يضار بها، وحتى إن رأى البعض أن الأمر لا يستحق فإن الشرع يحتم ذلك.

هي بيوت كثيرة التي يعيش تحت سقوفها أزواج في نظر المجتمع و منفصلون حسب الشرع بسبب إغفال المسائل التنظيمية لحياة الأسرة والضوابط الشرعية الزوجية التي يجب مراعاتها، وكي لا تظهر الفوضى فوضى وتعمم المصيبة على كل الأزواج فقد نبه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :” رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه”، ولكن هذا لن يفتح باب الجهل على مصراعيه ويكون مشجبا لتعليق الأخطاء، حيث من الواجب على المرء معرفة أمور دينه وقد وجد الأئمة ولجان الإفتاء لتوضيح هذه الأمور والفصل في القضايا فلا يخجل أو يتهاون كل من يتعرض لمعضلة أو تختلط عليه الأحكام أن يقصد أهل العلم للاستفسار والتوضيح، فالطلاق جده جد ومزاحه جد .

ثقافة الحوار

وخلف الدعاوى المرفوعة والقضايا التي تعرض على المحاكم يوجد دوما أسرار كثيرة لا يستطيع الخصوم البوح بها فتظل حبيسة الأسوار والسقف العائلي، وتبقى معها المشاكل والنزاعات مستمرة ولو تم الفصل فيها قضائيا، مما يورث الشحناء والضغائن بين الأفراد وحتى الأجيال فيما بعد، ليشتد التنافر وتعيش الأحقاد التي كان من الممكن جدا تجاوزها لو فتح باب مناقشة الخلافات، وعرض الأسباب والحلول بتقريب وجهات النظر أو احترام الرأي الآخر، غير أن أغلب المجتمعات تفتقد تماما لثقافة الحوار، وتعوضها لغة العنف في معظم الأحيان ونادرا بالتزام الصمت ليغلق أي مجال للتفاهم.

الصمت في غير موضعه تقيصة

إذا كان الصمت حكمة فإنه أحيانا يكون نقيصة بل وجرثومة تفتك بالعقل والجسد، إذ أن من يتكتم دوما على ما يضيق به صدره لا بد أن تزداد عليه الضغوطات وتصير مضاعفات نفسية قد ينجم عنها انهيارات عصبية أو اتخاذ قرارات مصيرية خاطئة عواقبها وخيمة على الجميع، فالضرر الاجتماعي سيشمل أفراد الأسرة بلا استثناء، لذا وجب التعبير عن المكنونات الداخلية، وتجاهل أي معضلة تطفو على السطح وعدم معالجتها بروية مع محاولة إغراقها في بحر الصمت يعني تذكية نار الشقاق، و بعد أن يعجز العقل عن التحمل سينجذب صمام الأمان وينفجر خزان الوقود ليزيد الفجوة العائلية اتساعا.

تراكمات

من طباع الكثير من الناس جمع كل الخلافات السابقة لضمها للمشكل الجديد، بل هناك من يقلب في الأرشيف لاستدعاء المشاكل القديمة وحتى ما كان منها يسيرا لتدعيم رأيه وتقوية موقفه لكنه سيزيد الوضع تأزما للوصول لطريق مسدود، وهذا من سلبيات النقاش إذ يتم إلقاء المقرر السنوي للتاريخ العائلي، مع استحضار شواهد النزاع بل وهناك من يستدعي الصغار كشهود رغم أنهم غير مكلفين أو مسئولين وعادة ما يكونون ضحايا، ولا تقبل شهادتهم شرعا.

وللأطفال حصة الأسد

الأطفال الذين ينشؤون في جو مشحون يتعرضون دوما لصدمات تزداد شدة تيارها كلما كان التوتر كبيرا، فلا يكتسبون من هذه الدارة الكهربائية نورا أو طاقة محركة إنما سيتعرضون للإصابة بالإكتئاب واكتساب سلوكات عدوانية، فالعنف المنزلي بين أفراد الأسرة سواء بين الآباء والأمهات وكذا غيرهم من الأشخاص سيكون له بالغ الأثر على تنشئة الأبناء، وتحديدا في أوساط العائلات التي يسودها الاعتقاد أن العنف هو الطريقة المثلى لحل النزاعات، ليتضح ذلك جليا في تصرفاتهم حيث يتبنون هذه الطريقة في التعامل ويتحولون إلى آلات للصراخ والشجار ويتمادون في تقليد الكبار في اللوم واختيار الألفاظ الجارحة.

وأمام هذا الوضع الذي يؤدي حتما لإهمال الرعاية النفسية والعاطفية للأطفال وكذا تقويم سلوكاتهم فإن إعادة تأهيل المحيط وعلى رأسهم الأزواج يعد ضرورة ملحة خصوصا أن موجه العنف طالت كل الأماكن المدارس، الملاعب المستشفيات وحتى دور العبادة.

التفاهم السلمي

يمكن لعدة وسائل تحقيق التواصل بين الأفراد ولكن أنجعها هو الحوار الهادئ الهادف أين يفسح المجال لكل المعنيين بالمشاركة ومنح فرصة الكلام للجميع لترجمة ما يجول بالعقل والقلب مع مراعاة مشاعر الآخرين واحترام أرائهم، فتوجيه اللوم والعتاب أو إسداء النصائح والملاحظات يخضع لضوابط من لين ورفق واختيار ألفاظ مناسبة لا توغر الصدر ولا تؤجج النفوس، وهذا لا يعني التساهل بتضييع الحقوق وتقبل الأخطاء، لكن الكلمة الطيبة لها وقعها و ستؤثر مباشرة من دون رسول، خصوصا مع تفهم مشاعر الغير ومساعدتهم على تخطي عقبة التوتر والانفعال وهذا ما يجعل لغة التحاور أسمى وسيلة لحل المشاكل وحتى في وسط اشتدت به الخلافات، فلا يجب الانقياد للنزاع والدخول في حديث فج ومذل والتدني بالمستوى ليزداد المشكل سلبية .

وإذا كان الحوار هو لبنة أي بناء سوي فإن بعض التنازل سيكون ملاطه، والتخلي عن الأنانية أو جانب من حب الذات وإن لم يكن كذلك فتجاوز بعض الرغبات سيعود على صاحبه قبل غيره بالنفع، كما أن تقديم بعض التضحيات من سمات التماسك الأسري الذي يجعل النفوس تهدأ والنيات تصدق فيرقى الحوار لمستوى فعال، وعلية يجب تعميم فكرة إيجاد الحلول بالتفاهم السلمي وتداول المادة التي محورها ” ثقافة الحوار في كل دار ” وهذا كله سيحمل بين طياته الاحترام، الصراحة، الثقة، شكر وتقدير الآخر واستمرار الاستقرار  كما هو حال بيت النبوة أفضل نموذج يقتدى به.

274 مشاهدة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *