بعد عام من رحيل والدي .. فيض من الشوق والحنين

بعد عام من رحيل والدي .. فيض من الشوق والحنين

خذلني الرثاء ولم أجد مكانا لي بين مراثي النساء، مر الحول ثقيلا عليلا وتوسمت أن يخفف مرور الوقت من وطأة الفراق لكنه زاد لوعة الشوق من غير تريث أو مهل، ولم يمهلني كتابة آخر مراسيل الود ولفائف الشوق، لأخبرك ما جال بخاطري في غيابك، وما فعلة الفقد والثكل بامرأة تعود لأيام الطفولة بمجرد ذكر اسمك يا أبي.

الشبه بيننا كبير في الملامح وذلك يعني لي الكثير، غير أني وددت وأسعى أن تتشابه روحينا، لأنظر إلى ما حولي بعيونك البريئة، وأقبل الاختلاف بنيتك الصادقة بعيدا عن أي وصم وتمييز، والأهم أتعامل ببساطتك وقوتك التلقائية، علي أعوض ما أفتقده منك من دفئ ونصرة.

رحل أناس كثر هذا العام، وفي كل أنحاء العالم، رحل البعض محدثين ضجة، ورحل أناس بسطاء بصمت تاركين بالغ الأثر فيمن حولهم، فكل صنع فارقا في حياة المقربين منه وتجليات الرحيل ظاهرة بلا رفق.

سيحمل كل واحد في قلبه ذكرى راحلين دونوا تواريخهم في سجل الوافدين، ومن كانت لقياهم على خير دليلا للهدى في زمن الضلال، فما أحلاها من لقيا سرت فيها الروح بدفء في الجسد، لكنها في النهاية آثرت الرحيل الأخير لتظل الذكرى بين نباريس الأمل.

تعود ذكراك يا والدي لعامها الأول، رغم أني لو استوعب لحد الساعة فراقك، ما زلت أشم عطرك الممزوج مع عطر زهر الياسمين الطبيعي في أرجاء البيت، أرى بريق نظراتك على قطرات الندى في سوالف ورود الزينة الحية يا من تحيا دوما في قلوب أهلك وأحبابك ويزين ذكرك سوالف الحديث.

كلماتك الراسخة ترن في الآذان، وتسابيح فجر مسفر تمد ترانيمها بأمان، لتعيد على مسامعي أحلى حكايا البذل والعطاء، ونوادر المحرومين البسطاء، ومواقف التقاة الكرماء، لتتجلى روحك في أسمى صور الطهر والعفاف، روح بم يدنسها غل أو حسد أو كبر، ترفرف بشذى كرمك الباذخ، وهي تتوق لصدق الدعاء وفي ذلك تسرية للنفس وأعظم عزاء.

اليوم مر عام كامل على رحيلك يا أعظم الرجال، يا من أحبك كل من عرفك أو سمع عنك، يا من زرعت في نفسي المبادئ والقيم، وعلمتني أن أحب أرضي من غير تحفظ، عرفتني على النضال والكفاح بمعالمه الثابتة عن قرب، وطفت بي بين المقابر وفي يدك دفاتر رسخت سير الشهداء، ها قد سرت إلى رفقتك مع أهل السموق والرفعة، وستقاسهم بإذن الله أعلى المقاعد وأحلى المطاعم.

بعدك يا أبي تغيرت المعالم من حولي، وبقي معي عهد الوفاء محفوظا ما حييت، لأمضي على دربك وأتبع سيرتك، وبالمقابل لك مني أصدق الدعاء، فلتهنأ في مرقدك، فما مات من زرع الفضائل.

عملت بجد لآخر لحظة على هذه الأرض، عانيت من جور المستعمر الفرنسي البغيض وحاربته تحت لواء الجهاد المقدس، كافحت وناضلت من أجل تحرير أرضك من مغتصب ظالم، وتمسكت بالحبل الممدود ما بين السماء و الأرض.

فطمتني على حب الخير، وعلمتني مشي الخطوات الأولى في طريق الصلاح والاستقامة، فما حملته من طيبة ونبل وإنسانية جعلتك حرا بامتياز في دنيا العبيد، معلما بكفاءة في فترة الجهل بشهادة، يقيني اليوم أنك زرعت ما ستحصد ثماره إلى يوم الدين بإذن الرحمن، وأظل أذكرك في كل صلاة وكل حين على أمل اللقاء بعد حين.

اللهم ارحم والدي كما رباني صغيرة، واسكنه عليين مع الشهداء والصديقين، وارحمه واغفر له ولجميع موتى المسلمين..

رحم الله عبدا قال آمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!