رحلة بين القرية والمدينة

رحلة بين القرية والمدينة

ذات ليلة مساء يوم العيد السعيد، هاتفنا أخي الأكبر وقال أنه سينزل بالمحطة القريبة المجاورة للغابة، سررت كثيرا بالخبر، ورشحوني لتجهيز العربة ثم أمتطي صهوة حماري وأغدو كي أحمل عنه ما جلبه من أغراض من عمله في المدينة.

كانت السماء ملبدة بغيوم سوداء تحمل في طياتها الكثير من الحزن وكأنها تنبؤ لما سيهطل من الدمع، وحينما وصلت للمكان المعهود، كان الليل قد حل، ظلام دامس، وصمت ليل حالك، لم أجد أي أحد، سوى الكلاب الضارية الضالة، حاولت مهاجمتي، لكن هيهات هيهات..

كان أخي قد أودع أغراضه عند السيد نجيم، بعضها أدوات نجارة و بطاريات ثقيلة، وبعضها الآخر من المؤن، بينما هو فقد ثفل عائدا إلى المدينة، حيث نسي حافظة نقوده. ساعدني السيد نجيم بحمل تلك الأغراض الثقيلة بمعية بعض جيرانه، ثم عدت للبيت.

لم أكن خائفة بقدر ماكنت مسرورة للقاء أخي الذي لم أكن أعرفه للبتة، بعذئد قمنا جميعا بتنزيل الحمولة التي جلبتها من المحطة، ثم حملت على ظهري كيس من التبن كي أناوله للحمار الذي نال منه التعب الشيء الكثير، وبعد هنيهة كنا ننتظر جدتي بفارغ الصبر كي تتناول معنا طعام العشاء، لكنها لم تأت بعد، قلق عليها أبي كثيرا، وطلب مني أن أذهب فورا لإحضارها، وبعد ثوان قليلة من الركض، تمكنت من الوصول في أقصى سرعة ممكنة، لكن هناك مفاجأة حزينة ستتحول إلى نبإ جميل في المستقبل.

كان هنالك شرذمة من الكلاب الشرسة، حيث كان آنذاك موسم تزاوجها، وحينما لمحتني أركض هرعت جميعها اتجاهي، ظنا منها أنني خائفة، والحق الحقيق أنني كنت أجري بغية اللحاق بجدتي، وكذلك كنت أخافهم كثيرا حتى إسمهم كان يرعبني ويؤرق فكري، وبينما أنا أعدو والكلاب تلاحقني سقطت أرضا على وجهي، فارتمى علي كلب ضار، قبيح الوجه ،فض الصوت والخلقة، بينما أنا كنت نحيفة الجسم، خائرة القوى، فوجدها فرصة وبدأ ينهش ملابسي إلى أن تقددت، لكنه لم يكتف بهذا فقط غرز أنيابه بلا رحمة في فخذي الأيسر.

بقيت أصرخ ولم أعد أقوى على الحراك، وجهي يؤلمني لكن الألم ألمَّ بي في فخذي أكثر، وكانت جدتي قد غطت في نومها، ووالدي ينتظرنا، وكنا قد تأخرنا كثيرا، فما كان له إلا أن لحق بمنزل جدتي، وحينئذ وجدني مستلقية على الأرض، وثيابي ملطخة بالدماء، فحملني بين ذراعيه، وطرق الباب، وجدتي قامت من نومها فزعة، بقيت تردد في نفسها :(أنا السبب..انا السبب) وكانت حفلة من الدموع.

بقيت جدتي تنظف لي الجروح لكن أمي كانت تعتقد أن العضة خطيرة وهي لكلب مسعور، انبلج الصبح وكنت قد قطعت مع أمي ستة كيلومترات على أرجلنا، وحين وصولنا لمكان انتظار النقل، جلسنا نستريح.. أشرقت شمس الضحى، ولم تأت أي سيارة بعد، وفجأة لمحنا من بعيد سيارة قادمة من سوق السبت، كانت محملة بالكثير من الركاب، وتوقفت السيارة وحملونا معهم إلى المستشفى.

وفي الطريق كنت مغتبطة جدا، لأنني لم أعتاد ركوب السيارات من قبل، حيث كنت أمتطي الحمير والبغال فقط، وحتى حينما تصيبني الحمى تذهب بي أمي إلى مستوصف القرية، لكن الأمر هاته المرة خطير جدا على إمكانيات المستوصف.

توقفت بنا السيارة (رونو)أمام بناية كبرى لأول مرة تسنى لي رؤيتها، وهي المستشفى، وفي أعلى الباب مكتوب عليها حروف كبيرة (سبيطار الصخرة)، داخل المستشفى يوجد الكثير من الغرف المخصصة للمرضى، أما الحالات الطارئة مثلي ففي المستوى العلوي، قام الممرض بوضعي فوق سرير عال، وأخبرني أنه علي بالكشف عن فخذي كي يتسنى له تنظيف الجرح، فأصبت بالخجل الشديد، لكن أمي كشفت عن فخذي وقام بوضع الدواء في قطن ونظف به الجرح الغائر، ثم أخذ بغرز الإبر التي تحوي حقنة مضادة للسعار، ثم حقنت بثلاث حقنات الأولى في ذراعي الأيمن والثانية في ذراعي الأيسر أما الثالثة فكانت في سرتي، وبقيت على ذلك الحال ثلاثة أسابيع، وفي كل أسبوع أذهب للموعد المحدد بغية أخذ الحقنة المضادة لفيروس السعار، وكنت أعتبرها فرصة للتعرف على خبايا المدينة وبناياتها الشاهقة ومرافقها العمومية.

ومن يومها بتت أهوى مصاحبة الكلاب، والمسير الطويل ليلا، لكن العضة لم تمح بعد، وبقيت على شكل وشم، إلا أنها دائما ما تذكرني بتلالئ أماكن المختلفة للقرية، أما أخي فلم أتعرف عليه إلا في الذهاب معه إلى خطبة عروسه،هي الظروف القاسية التي جعلت من لقاء الإخوة في المناسبات فقط، وحولت آلاما وندبات إلى فسح وذكريات جميلة.

264 مشاهدة