تعرف على البقلاوة وأسرارها

تعرف على البقلاوة وأسرارها

تقديم

قبل أكثر من 2500 سنة، حينما كان الآشوريون أجداد أهل العراق التي نَعرِف اليوم، يَطبخون على ضفاف نهريْ دجلة والفرات، في عهد آشُورْبَانِيبَالْ ومَن تَلَوْهُ، مِن رقائق العجين المَحشُوَّة بِخليطٍ من الفواكه المُجَفَّفة والمُكسّرات حُلوًى في غاية الطّيب واللذة يَسقونها بالعسَل، ما كانوا يَتخيَّلون أنَّها ستدوم وتُعمِّر إلى غاية عِراق صَدَّام حسين ونوري المالكي والعَبَّادي.
وما تَصَوَّروا أيضًا أن مِثلما كانوا هم يطبخونها على ضفاف دجلة والفرات في الاحتفالات الروحية والأفراح الدنيوية، ستُطبَخ بعد آلاف السنين في الجزائر على ضفاف وادي ماء الزَّعفران في مدينة القُلَيْعَة، وعلى أطراف وادي الرُّمَّان في البُلَيْدَة، وفوق الصُّخور المُطِلَّة على وادي الرِّمَال في قسنطينة، وفي الديار والقصور المُشرِفة على البحر في مدينة الجزائر، وفي أغلب المُدُن والبلدات الشمالية الجزائرية الممتدة مِن عَنَّابَة إلى شَرْشَال والغَزَوَات وتِلِمْسَان.

الآشوريون أول من صنع البقلاوة

لم يتخيل الآشوريون أن تلك الحلوى العتيقة التاريخية ستكتسِح كلَّ أطرافِ العالَم بِقارَّاته الخَمْس، ولا خلدَ بذهنهم أن ضحايا القومية المُفرِطة، مِن بَنِي البَشَر سيَتَنازَعُونَها ويتخاصمون بشأنها ويَدَّعي كلُّ طرفٍ وبِعصبية غير مفهومة أنه هو والِدها الأوحَد ومُنْجِبُها.
مثلما الآشوريون، هم أسلاف أهل العراق، فإن حلواهم هذه إذن هي السَّلَف الأقدم المعروف تاريخيًا للحلوى المُصنَّفة اليوم ضِمن الأطْعمة العَشر الأكثر شُهرةً في العالَم المعروفة منذ نحو 5 قرون على الأقل بالـ: بَقْلاَوَة.

نعم، الآشوريون في حدود ما تَيَسَّرَ مِن معلومات حتى الآن، هُم الأسبق في تاريخ البشرية إلى صُنْع حُلوى تُشبِه البقلاوة، وما جاء بعدها ليس سوى اجتهادات في التفاصيل الخاصة بنوعية العجين ومحتوى الحَشْو.

بَقْلاَوَة الجَزَائِر .. من الجوز واللّوز إلى الفُسْتق والفول السوداني فالبلُّوط

في الجزائر حيث لا بقلاوة تَعْلُو على البقلاوة القُسَنْطِينِيَّة النموذجية، يَجْرِي حَشْوُهَا بخليط من الجوز واللوز والسُّكَّر، وكذلك بالقرفة، مثلما يفعل الأرمنيون، وبماء الزهر حيث يُوضع هذا الخليط بين طبقات من العجين رقيقة كالورق يُختلَف في عددها من منطقة إلى أخرى. وتتراوح بين 5 و8 طبقات في مدينة الجزائر، فيما تصل إلى ما بين 12 إلى 14 طبقة في قسنطينة، 7 منها في الأسفل و6 إلى 7 في الأعلى، وبينهما خليط الجوز واللوز والقرفة. ويتطلب طهيُ الباقلاوة في الفُرْن، ويُستحسَن أن يكون فرْن الخباز، التَّوَفُّر على مهارة خاصة في التعاطي مع الأفران لا يتوفر عليها كل الخبازين، فما بالك بغيرهم. وبعد اكتمال الطهي، الذي يَستغرق أكثر من ساعة عادةً، تُسكَب عليها كمية كافية من العسل الساخن وليس البارد، ولو أن في جهات أخرى من الجزائر تَحلُّ مَحلَّ العسل “الشَّرْبَاتْ” المصنوعة من الماء وماء الزَّهر والسُّكر والمِسْك، ربما استسهالاً أو إهمالاً للقواعد الصَّارمة لِصنع بقلاوة محتَرَمَة جديرة بهذا الاسم. وفي الحقيقة، حتى عملية سَقْيِ الباقلاوة الخارجة لِتَوِّهَا من الفُرْن بالعسَل ليستْ مسألةً بسيطة بل هي عملية دقيقة تتطلب بعضَ التَّمَرُّسَ على طهْي الباقلاوة، لأن إساءةَ سَقْيِهَا وإطفاء ظمأها، بعد خروجها من الفرن طازجةً، بأقل مِمَّا يجب من العسل أو أكثر مما يجب أو بالتماطل فيه قد يُسيء إليها ويُقوِّض كل الجهود المبذولة في إعدادها، فلا تعد صالحة لِتَصَدُّر الصينيات والموائد.

هذا ما تَعَلَّمْتُهُ من والِدي، لأنني قبل أن أكون صحفيًا أو كاتبًا، فأنا خبَّاز ابن خبَّاز ابن خبَّاز ابن أجيال من الخبَّازين على مدى أكثر من 3 قرون تشهد علينا مخابز العاصمة الجزائرية وقسنطينة وعنابة وجيجل وقَالْمَة وسوق أهْرَاس وبَاتْنَة وغيرها من مُدن البلاد.

إن الذي لا يَعرف كيف يُقدِّر البقلاوة حق قدرها من الأفضل له ألاَّ يُغامر بصنعها حتى لا يُسيء لها ويجرح مشاعرها ومشاعر مُحِبِّيها مثلما أساء لها الذين بسبب غلاء أسعار اللوز والجوز في أوقات معيَّنة عوَّضوهما بالفول السوداني وبنواة المشمش على مرارة طعمها.

وقيل إن هناك في أوساطٍ وجِهاتٍ لديها المال دون ثقافة المال مَن لم يتوانَ، عندما غَرُبَتْ شمسُ الباقلاوة في بلادنا، في تحضيرها حتى بالبَلُّوط والعياذ بالله. مثلما أَقْحَمَ آخرون خارج الجزائر ما لا يَخْطُر على بال في أحشائها، إما لقلة اليد أو لقلة الذوق وقلة الأدب تجاه هذه الحلوى التي احْتَضَنَتْهَا لِقرونٍ طويلة القصور والبلاطات، ولم تكن أيَّ قُصُور ولا أيّ بلاطات. وقد بلغتْ الإساءة والكوارث في بعض الحالات حدودًا ربما تَستدْعي تدخلَ شرطة أخلاق المهنة للأمر بالمعروف ووَقْفِ هذه المَناكِر.
بقلاوة قسنطينة، التي تُعتبَر البقلاوة المعيارية في الجزائر، ليست سوى إحدى بقايا الإرث العثماني في البلاد حيث كل الشهادات والروايات تؤكد وبإجماعٍ لا يُشق أنها جاءتنا وجاءت إلى كل الجزائر مع العثمانيين الذين حلّوا بالبلاد في بداية القرن 16م. لكنها كبرتْ ويفعتْ وتَجَزْأَرَتْ بعد أن استوعَبتْ بانسجام لَمَساتٍ محليةً زادت مذاقَها لِذَّةً على لِذَّةٍ تَجْعَلُ أصابِعَ الآكِلين عُرْضَةً لِمخاطِر العَضّ الذَّاتي اللاَّواعي بدلاً من الاكتفاء باللَّحْس.
وبما أن العالَم، على غرار مدينة قسنطينة وكل البلاد الجزائرية، عرف الباقلاوة في شكلها الذي نعرف اليوم على يد العثمانيين، عندما كانت إمبراطورية آل عثمان شاسعة مترامية الأطراف ممتدة على مدى إفريقيا وأوروبا وآسيا، فإن هذه الحلوى التراث البشري أصبحتْ بتوافق عالمي، باستثناء بعض الاعتراضات النشاز، تُنسَب منذئذ للعثمانيين، وبالتالي لأحفادهم الأتراك المعاصِرين. ولعلّ من بين ما جعل الباقلاوة جزءا لا يمكن فصلُه عن تاريخ الإمبراطورية العثمانية، فضلا عن مجالستها الملوك والسلاطين والأعيان وكبار رجال الدولة في القصور، اقتحامُها الطقوس السياسية الروحية العثمانية في ارتقاء إضافي تحسده عليه كل أنواع الحلوى المحبوبة والمعروفة آنذاك.

الباقلاوة في قصور آل عثمان وطقوس جيوشهم الإنكشارية

في منتصف شهر رمضان، مثل أيام الله هذه، أدخل سلاطين آل عثمان منذ النصف الثاني من القرن 17م عادةً جديدة في طقوس مؤسستهم العسكرية نالت شعبية كبيرة واشتهرت باسم “موكب البقلاوة”.

كان يُكرِّم مِن خلالها السلطانُ عسكرَه بإهدائهم صينيةً من الباقلاوة عالية الجودة والإتقان من صُنع أمْهر طباخي قصره، قصر توبكابي في العاصمة إسطنبول، لكل 10 من جنوده وضباطه.
يبدأ السلطان بزيارة الخرقة الشريفة، كطقس رمزي باعتباره ممثل الخلافة الإسلامية في أقوى وأهم دول الإسلام في عهده، ثم يُشْرِف على توزيع صينيات الباقلاوة في حفل كبير يتقدم أثناءه الجنود أمام مطبخ السلطان في قصر توبكابي حيث تنتظرهم صفوف من صينيات هذه الحلوى ويصطفون أمامها في نظام دقيق وصارم. حينها، وباسم السلطان، يُسلِّم أحد كبار مسؤولي الدولة، السلاح دار آغا، الصينيتيْن الأوليْن للعسكر، ثم يتقدم الجنود لاستلام باقي الصينيات، جنديان لكل صينية، يتقاسمون باقلاوتها مع أعضاء سريتهم المتكونة من 10 أشخاص.
لكن قبل اقتسامها فيما بينهم، تبدأ عملية الخروج من القصر السلطاني باتجاه القشلات في موكب ضخم يُدعى باللغة التركية Baklava Alayi (باكلاوة آلايِي أيْ موكب الباقلاوة)، حيث يمر كل حاملِي الصينيات على أكتافهم بخطوات استعراضية، يتقدم كل حامليْ صينية رئيس فوجها, في مشهدٍ قوي وجميل أمام أنظار سكان إسطنبول الذين يخرجون لمشاهدة الموكب في أجواء بهيجة معتزين بسلطانهم وجيشهم.
هنا، في مطابخ هذا القصر الذي ما زال يعمر شامخا في إسطنبول، تكون الباقلاوة الحديثة التي نعرف اليوم قد شهدت النور في نسختها العثمانية التي تحوَّلت وَصْفَتُهَا إلى مدرسة تَسِيرُ على خطاها مطابخ وورشات صناعة الحلوى في العالم.
وربما لهذا الاقتران بقصر توبكابي العثماني وسلاطينه علاقة وطيدة بمقولة أن عِبارة الـ: “باقلاوة” ما هي سوى اسم سلطانة ماهرة في فنون الطبخ وصناعة الحلوى كانت تُدعى باقلاوة ابتكرتها بتطويرها لحلوى الجُلاَّش القريبة جدا من الباقلاوة الحالية إكرامًا لزوجها السلطان فحملتْ هذه الحلوى اسمَها إلى اليوم.
لكن يقول آخرون ما هذه الرواية إلا أسطورة وإن كلمة “بقلاوة” تركية قديمة تعود على الأرجح إلى العهد العثماني، وقد انتشر استخدامها في كل رحاب العالم التي انفتحت على هذه الحلوى ولو ببعض التكييف لتيسير النطق المحلي. لكن يَرُدُّ غيرُهم بالقول إن هذه الكلمة منغولية الأصل ومشتقَّة من “بايْلاو” ومعناها الرَّبط واللَّف، فيما يرُد آخرون بأن هذه العبارة المنغولية ذاتهاا تحوير لكلمة “بقلاوة” العثمانية، وينسبها آخرون إلى كلمة “بَاقْلاَبَا” الفارسية مدعين بإمكانية أن تكون هي الأصل.

والمفاجأة الأكبر تأتي من قاموس هانز فير الذي يلح على أن أصل الكلمة عربي من البقل والبقوليات نظرا لحشو البقلاوة عند البعض بالفستق.
مَن نُصدِّق ومَن نُكَذِّب؟ نترك الحسم لِمن سيأتون بعدنا والذين قد يكتشفون في المستقبل وثائق ومعلومات جديدة كفيلة بوضع حدٍّ لهذا النزاع الدولي اللغوي والغذائي في آن واحد.

“يخلق من الشبه أربعين”

لكننا نعرف أن قَبْل ظهور البقلاوة الحديثة، وُجدتْ لها في السابق شقيقات أو على الأقل شبيهات، ربما أقل شأنًا وأبَّهة. ألاَ يُقال، ودون عجب، “يخلق من الشبه أربعين”…؟
من بين أشهرهذه النُّسَخ القديمة للبقلاوة نَذْكُر الجُلاَّش المنتشر منذ قرون طويلة في آسيا الوسطى وشبه القارة الهندية وفي كل البلاد الإسلامية الناطقة بالعربية من الجزيرة العربية إلى الشام والعراق فإفريقية والأندلس. والجلاش كان مُنتظم الحضور على الموائد في الولائم والأفراح والأعياد الدينية والدنيوية في البيوت وفي المجالس السلطانية منذ العهد العباسي على الأقل مثلما تؤكد ذلك كُتب الطبيخ العربية الإسلامية على غرار “كتاب الطبيخ” لابن سيار الورّاق ونظيره لان رَزين التُّجيبي الأندلسي “فضالة الخِوان من طيِّبات الطعام والألوان”. والجلاش مُصنَّف أيضا ضِمْن وصفات الحلوى المغولية في عهد إمبراطورية يُوَانْ في كتاب طبيخ محلي تمَّ تأليفُه في عام 1330م. لكنه ليس غريبا كذلك عن المطابخ التركية في آسيا الوسطى وفي تركيا بالذات.
ويدَّعي اليونانيون، الذين يُكثِرون العسل والليمون والقرفة في بقلاوتهم، ومن والاهم في مواقفهم بأن ما البقلاوة الحالية العثمانية إلا نسخة معدَّلة في بعض التفاصيل الطفيفة لحلوى البْلاَسِينْتَا التي عُرفتْ عند البيزنطيين الذين أخذوها عن الرومان والذين ورثوها بدورهم من بين ما ورثوا عن حضارة اليونان… لكن، ودون إنكار للتشابه، لا يحب دعاة هذا الطرح عادةً مواصلة التنقيب إلى أبْعد من عهد اليونانيين الذين تأثروا بعمقٍ بحضارة آشور وبابل في وادي الرافدين بالعراق الحالية وبحضارة الفُرْس، بما في ذلك فنون الطبخ. ومعروف تاريخيا أن فنون الطبخ التي ازدهرت في الحضارات الشرقية القديمة كانت تنتقل بكثافة إلى اليونان والرومان والبيزنطيين عن طريق التجار والرحالة والطباخين المستقدَمين من هذه المناطق، بما فيها الهند، مثلما كانت تفعل إحدى زوجات ملك من الملوك البيزنطيين.

انتشار البقلاوة في العهد العثماني

على كل، بعيدا عن هذه النزاعات، ما لا يختلف حوله اثنان هو أن البقلاوة انتشرت عبر العالم مع انتشار الثقافة العثمانية الإسلامية في أوج توسُّع وازدهار الإمبراطورية العثمانية وقدرتها على صهر جميع الثقافات التي خضعت لسلطتها.

وهكذا، تمددت هذه الحلوى إلى بلدان أوروبا الغربية التي بدأت تنفتح عليها في المطابخ الملوكية والإقطاعية كما في الآداب والقواميس. وكان يجب الانتظار إلى غاية 1650م لنصادف أول ذِكر للباقلاوة في اللغة الإنجليزية المكتوبة.
في المقابل، أقدَم ذِكر موثَّق لهذه الحلوى في الإمبراطورية العثمانية يعود إلى عهد السلطان محمد الفاتح حيث وَرد في دفاتر وسجلات قصر توبكابي في إسطنبول. ووَثَّق أوليا تشلبي وجود الباقلاوة بأوراق عجينها الرقيقة الدقيقة في بلاده بتأكيده في مذكراته أنه أُكلها في قصر أحد أمراء الدولة العثمانية. وهي مستمرة بهذا الشكل حيث تُصنع حاليا في غازي عنتاب، عاصمة الباقلاوة التركية، باعتراف الاتحاد الأوروبي مؤخرا، من عدد من الأوراق يتراوح بين 40 إلى 50 ورقة عجين محشوة بالفستق.

بقلم : الإعلامي والباحث فوزي سعد الله


القراءة من المصدر

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!