– تمايز الوحي عن التراث الحلقة-3-

– تمايز الوحي عن التراث الحلقة-3-

هذا تقديم لكتاب سيتم نشره على حلقات على موقع معين المعرفة للكاتب محمد بنعمر :

يعد محمد عابد الجابري من أبرز الوجوه العلمية التي قدمت مقاربة جديدة في قراءة التراث العربي الإسلامي ، بحيث اختار قراءة التراث العربي الإسلامي بمعايير جديدة تختلف هذه المعايير عن القراءات السائدة و المعهودة بين اغلب الدارسين العرب ،واعني تلك القراءات التي اختارت البعد الاحتفالي التمجيدي للنص التراثي ،وبدون أن تكلف نفسها عناء الفحص والحفر والبحث والتقصي على الآليات المنتجة لمضامين ونظم ومعارف التراث العربي الإسلامي ،وبدون أن تعمد إلى تحكيم المرجع السياقي الذي ينطلق من هذا المعطى وهو أن الأفكار والنظريات والاجتهادات البشرية تظل دائما محكومة بسياقاتها وبظرفيتها الزمانية والمكانية. وما مكن محمد عابد الجابري وأهله للقيام بهذه المهمة ، هو تمكنه من العلوم التي أنتجها التراث العربي الإسلامي في جميع نظمه و قطاعاته المعرفية زيادة على اطلاعه الواسع على المناهج الجديدة ، مما جعله يقف على مدى النقص المعرفي وعلى الخلل الابستملوجي والمنهجي في الدراسات المعاصرة حول التراث. وهذه الدراسة هي محاولة لإدراك وإظهار الآليات التي أنتجت معارف و نظم التراث العربي الإسلامي بجميع قطاعته وفق رؤية الدكتور محمد عابد الجابري ،لان من شان إظهار وتجلية هذه الآليات المنتجة لهذه النظم أن يفضي بالمتابع والدارس إلى تدارك السقطات والوقوف على العوائق والعثرات التي وقعت فيها مجموعة من القراءات التي اختارت قراءة النص التراثي بدون أن تتكلف بحمل مواصفات القراءة النقدية و العلمية و الموضوعية الجادة التي تستحضر المنهجية و تراهن على الآليات أكثر رهانها على المضامين .

يعمد الدكتور محمد عابد الجابري إلى الفصل والتمييز بين الوحي وهو النص  وبين التراث، وتقيدا بهذا المنطلق  المنهجي المتعلق  بتحديد  ماهية التراث بإبراز أنواعه ونظمه وقطاعاته وأقسامه وتميزه عن مرجعية الوحي ،فقد اختار الدكتور محمد عابد الجابري هذا المسعى وهو أن يأخذ بمبدأ  الفصل والتمييز  بين الوحي والتراث ، بين القرءان  الكريم وبين الاجتهادات البشرية المحكومة بالزمان والمكان ،وهي الاجتهادات التي تفاعلت مباشرة مع القرءان الكريم  .

فهو يلح  بشكل دائم  ومستمر على ضرورة  التمييز والفصل بين الدين في مرجعيته  الكبرى وأصوله المستمدة والمستخلصة من الوحي. وبين التراث من حيث هو منتوج ثقافي وفكري و بشري يعكس تفاعل الإنسان المسلم وغير المسلم مع النص . 

وهذا الفصل المنهجي من شانه أن يبعدنا عن  الخلط واللبس الذي سقط فيه الكثير من الدارسين عندما اختاروا التسوية والمماثلة بين نصوص الوحي ونصوص التراث، وأعلنوا  الوصل بينهما  صراحة في مشاريعهم الفكرية التي خصصوها     في سياق قراءتهم  للتراث العربي الإسلامي ، وقصدوا من هذه القراءة الوصول إلى التسوية  والمماثلة.

بحيث كان اختيار بعض الدارسين شعار التسوية والمماثلة بين النصوص بشكل علني ،رغم اختلاف مصدرية هذه النصوص ومرجعيتها  بدعوى آن في نقد النصوص  يقع التماثل ويحصل التجانس بين جميع  أجناس وأنواع النصوص بغض النظر عن المرجع والمصدر الذي ترجع إليه تلك النصوص،إذ يتحول الديني إلى دنيوي والدنيوي إلى   ديني .

لكن المرحوم والمفكر محمد عابد الجابري يعارض بالمرة هذا التوجه وهذا الاختيار ويلح على مبدأ التمايز والفصل بين الوحي والتراث، فهو يعارض بالمرة هذه التسوية وهو ما يحضر في مداخلاته وطروحاته…

 بحيث صرح عدد من قراء التراث بأنه في ميدان النقد المعرفي، والابستمولوجي  للنصوص  تستوي النصوص بشرية كانت أم أدينية ، وتتماثل بغض النظر عن المرجع والمصدر، والأصل الذي ترجع إليها تلك النصوص…

لكن محمد عابد الجابري يعارض بالمرة هذه المشاريع بأسلوب قوي و بلهجة شديدة، ويقول لا مجال للتسوية أو للمماثلة، مادامت المرجعيات والمنطلقات تختلف بين  النص الذي مصدره الوحي وهو نص مطلق ، والنص الذي مصدره ومرجعه الاجتهاد البشري وهو التراث.

430 مشاهدة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *