كل ما يستورد أو يورد من أوروبا قد لا يوافق الحقيقة دوما، فما يصل من أخبار، صور ومشاهد عن العالم الغربي عادة ما يخضع للتعديل أو بالأحرى للتزييف والتنميق، فينخدع الكثيرون وتستهويهم الحياة في الشق الثاني من الدنيا، ويتمنون الالتحاق به ولو كان الطريق إلى هناك محفوفا بالأشواك والمخاطرة كبيرة، ولا أحد يمكنه التنبؤ مما سيواجهه هناك فالنتائج غير مضمونة.
كل الطرق تؤدي إلى روما
حلم السفر إلى أوروبا للظفر بمستقبل أفضل يغري الشباب العربي ويجعلهم يقومون بكل الإجراءات من أجل تحقيقه، قد تختلف الطرق وتتعدد الوسائل لكن الوجهة واحدة وهي الوصول إلى ما وراء البحر، ابتدءا من طلب التأشيرة بصفة قانونية وانتهاء بالطرق الملتوية، فعادة ما يكون الرد على طلبات تأشيرة شنغن بالسلب، فالدول الدول الأوربية ترفض استقبال المهاجرين على أراضيها، لذا لا يجد هؤلاء الباحثون عن حياة أفضل ومستوى معيشي لائق سوى اللجوء إلى ما هو محظور، كشراء التأشيرة بمبالغ كبيرة قد تتعدى 6000 يورو، حيث يتم بيع التأشيرة المضمونة من قبل وكالات وأشخاص متمرسين في هذا الشأن، ولديهم شبكة معارف ونفوذ تبقى بعيدة عن طائلة القانون.
وفي السياق ذاته هناك ضحايا نصب واحتيال، ينهب منهم مقابل مادي معتبر ولا يحصلون على التأشيرة، لذا يظهر خيار الإبحار للضفة الأخرى بطريقة غير شرعية كحل مناسب بالرغم من رفع حالة التأهب وزيادة المراقبة من قبل خفر السواحل، و تشديد العقوبات بالاعتقالات التي تنتهي بالسجن أو الغرامات المالية.
شباب يائس يفضل الإقدام على خوض غمار البحر و ركوب أمواجه العاتية لعل الحلم يتحقق، لكن الاحتمال الأكبر أن تصير الأعماق لحدا لهم، ويجازفون بركوب قوارب الموت ليضاف اسمهم إلى قائمة الحراقة وتبدء الرحلة نحو المجهول
من غير التفكير في العواقب أو فقدان الحياة يتأسىون بمقولة ”ياكلني الحوت وما يكلنيش الدود”، بمعنى يأكلني الحوت ولا تأكلني الديدان” وهذا لأنهم سئموا من المعاناة والفقر جراء البطالة المتفشية والأزمات الاقتصادية والظروف الاجتماعية القاهرة.
عشرات الآلاف من اللاجئين والحراقة فقدوا خلال رحلات الهجرة غير الشرعية، انطلاقا من المياه الإقليمية من بلدانهم الأصلية باتجاه الساحل الأوروبي، الذي يشكل وجهة استراتيجية تظرا لكثرة التعاريج ووجود سلسلة من الجزر والمداخل والخلجان التي تسهل مهمة الدخول، لكن الرياح غالبا ما تجري بما لا تشتهي السفن، مثل الأربعمئة شاب جزائري الذين كانوا يقصدون جزيرة سردينيا الايطالية واختفوا في المياه التونسية منذ 2007 إلى يومنا هذا.
أما من ينفذون من قضبان السجون فعادة ما يضيعون في المياه الدولية الفاصلة بين الضفتين، فيتم إنقاذ البعض ليقضي الباقون وما تنشره وسائل الإعلام يوميا من إحصائيات، يؤكد تنامي هذه الظاهرة التي قد تشجعها روايات بعض الناجحين في بلوغ الضفة الشمالية للمتوسط، ولكن الأكيد أن ما يمد في عمرها أكثر ليس إلا تفشي ظواهر لا تقل عنها خطورة كالفساد والبيروقراطية والمحسوبية والاختلاسات، والأخطر التصدعات الموجودة بين قمة الهرم وقاعدته والتي تحول دون سماع صوت شباب مهمش يفضل الانتحار الجماعي على أن يبقى في بلده.
ومع مرور الوقت تغير الوضع وصار أكثر تطورا ولم يعد القارب التقليدي يرقى لتطلعات شباب جامح، ليستبدل بالقارب السريع حجز حجز مكان واحد فيه ابتدأ بـ 35 مليون (1700 يورو)، ليصل مؤخرا إلى 90 مليون سنتيم (4500 يورو) ومدة السفر حوالي ساعتين من وسط ساحل شمال إفريقيا إلى إسبانيا، فكلما كان المحرك أقوى ارتفع مبلغ الحجز فيه لكن المخاطر أقل.
واقع الحياة في أوروبا
حلم السفر لأوروبا يراود نسبة كبيرة من حملة الشهادات أيضا، خاصة من يجدون فرصة لتحقيق إنجازات وتوفير جو ملائم للبحث العلمي، بتسخير كل الإمكانيات لتحقيق النجاح تلو الآخر، لكن هؤلاء أيضا يقدمون تنازلات كثيرة وتضحيات، تغطي عليها الامتيازات المادية التي يحظون بها لكن واقعهم أقل بؤسا من المهاجرين من غير وجهة محددة أو تلقي دعم.
ظروف المهاجرين من غير وثائق رسمية صعبة جدا، لا مكان للإيواء، الهروب المستمر من قوات الأمن خشية الترحيل، فرص العمل عير متاحة، وإن وجدت سيكون هناك استغلال كبير من قبل أرباب العمل وتهديد، لذا البعض يمتهنون أعمالا مخالفة، منها السرقة وبيع المخدرات، وما خفي أعظم.
البعض يبحث عن زوجة للحصول على وثائق، ولا يهم الفارق الكبير في السن، أو الوضعية الاجتماعية أو الديانة، فحتى الملحدة مطلوبة، المهم تحقيق فكرة الاستقرار النظامي، لكن السلطات الأوروبية تفطنت للأمر وأدركت أن هذا الزواج للمصلحة فحسب فوضعت قيودا يمكن أن تلغي الزواج إذا تمت مخالفتها.
حلم شابات للعيش في أوروبا
أما الشابات فمنهن من تقررن السفر، وتبحرن على سفينة الزواج، وهن يجهلن كل شيء عن الربان الذين قد يتحول إلى جلاد، بعدما قرن مقياس الاختيار بتأشيرة السفر للخارج، والحصول على زوج مغترب يأتي محملا بالوعود والهدايا وكلامه لا يقل بريقا عن بدلته الفاخرة وحذائه اللامع، ومن غير تحفظ أو تفكير مسبق يقبلن العرض لأنه صفقة لا تعوض ولكن هل نجاح هذه الصفقة مضمون؟.
هذا ما ستجيب عنه تفاصيل حكاية ليلى ( 21 سنة) شابة على قدر كبير من الجمال، ملامحها الجذابة تخفي الكثير من الألم، كانت تنتظر دورها في وزارة الشؤون الخارجية الجزائرية للبحث عن حل لمشكلتها إذ تقول :” تزوجت منذ سنة بجزائري مقيم في هولندا، وقد رزقت بطفل وكانت الأمور تسير بشكل عادي تماما إلى أن حل فصل الصيف وطلب مني زوجي أن أصطحبه في زيارة للبلد، سررت كثيرا وخصوصا أني اشتقت لأهلي، وبقينا لمدة خمسة عشرة يوم نزور الأقارب ونذهب في نزه وكل شيء عادي ولما تبقى يومين على عودتنا لهولندا طلب مني المكوث في بيت أهلي لأقضي معهم وقتا أطول على أن يأتي يوم سفرنا باكرا ليصطحبني مع ابني، وانتظرت طويلا لكنه لم يأت، اتصلت به هاتفيا لكنه لم يجب، فذهبت لبيت أهله فقابلتني أمه بجفاء ولا أدري ماذا أخبرها عني، ولما ذهبت للتأكد من تذاكر السفر وجدته قد قدم موعد سفره وقام بتعويض تذكرتي سفري مع ابني، وليته هرب فحسب لقد أخذ معه كل الوثائق حتى جواز سفري وبطاقة تعريفي، لم يترك لي أية ورقة لأبقى عالقة هنا، وبعد مدة اتصل بي وطلب مني البقاء في الجزائر لأنه لم يعد يقوى على حياة الزوجية ولا يمكنه الاستمرار في خداعي بعدما اعتاد الحياة الغربية ومن غير التزامات، وما تزوجني إلا بضغط من أمه.” وهكذا انتهت قصة ليلى والمغترب التي لا تختلف كثيرا عن نظيرتها قصة “ليلى والذئب”.
أما نسيمة (19سنة) وكغيرها من بنات جيلها اللواتي تغرهن المظاهر وتتمنى العيش في فرنسا وتنعم بالرفاهية هناك، فلم تتورع في أخذ خطيب ابنة عمتها وصديقتها في الوقت ذاته، بعدما عرفتها به وهو القادم من فرنسا أخذت تظهر جانبها الناعم ولباقتها وبما أنها الأجمل فقد تخلى عن ابنة عمتها بسهولة ليقدم على الزواج بها وهو شاب من أب جزائري وأم فرنسية وولد هناك وأخبرها أنه لا يستطيع أن يؤجل الزواج كثيرا لذا سيهتم بتكوين ملف طبي يمكنها من الانتقال لفرنسا للعلاج وبالفعل تمكنت من السفر وعوض أن تجوب شوارع باريس وتتمتع بالتجوال بين المحلات والحدائق وجدت نفسها حبيسة البيت، فقد أرغمتها حماتها على البقاء في المنزل وأخبرتها أنها لا تملك وثائق وفي حالة ما إذا قبضوا عليها ستزج في السجن أو ترحل للبلد، وجعلت منها خادمة تقوم بكل الأعمال المنزلية أما زوجها فنادرا ما يحضر للبيت لأنه يعيش كما يحلو له، وأدركت الحالمة بالعيش في فرنسا.
ليس كل ما يلمع ذهب
قصص النجاح والعيش في أوروبا بسلام كثيرة، لكن تخفي وراءها ما لا يريد أصحابها نشره ولعل أولها فشلهم في تربية أبنائهم الذين صاروا نسخة عن الشباب الأوروبي قلبا وقالبا، ويمارسون كل محظور بحرية.
هي الأحلام والأماني تجارة الواهمين نتائجها غير مضمونة وقد تكون حصيلة أضرارها ثقيلة، لذا فتقدير موضع القدم قبل الخطو واجب، وبالرغم من أن الأقدار كالظلال تتبع صاحبها ويسايرها بيد أن الخيار بحكمة ضرورة في أمور كثيرة و إلا لما كان العقل زينة الإنسان، وليس كل ما يلمع ذهب.
فما معنى كسب أموال كثيرة والعيش في رفاهية مقابل تقديم تنازلات عن الانتماء والهوية، واتباع قوانين جائرة تحارب المعتقد الصحيح، وتلك أعظم مصيبة يهون أمامها أي مصاب، فأن يبتلى الإنسان في دينه خسارة الدنيا وخسارة الآخرة، وحرمان لن تعوضه كنوز الأرض.