حي القصبة بالجزائر.. تاريخ لا يمكن أن يندثر

حي القصبة بالجزائر.. تاريخ لا يمكن أن يندثر

تقديم

بمجرد الولوج إلى حي القصبة العتيق تعود الذكرى طيعة لتسرد ما تحمله من بطولات وملاحم مع حكايات أناس من زمن الطيبين، فمهما اختلفت الدروب والمسالك المنحدرة في هذا المكان الأثري تبقى الحقيقة واحدة، وهي أن موروثا لا يقدر بثمن مكنوز بقلب العاصمة الجزائرية ولا يمكن التفريط فيه.

هنا بين جدران الدواوير التي بدأت بالتداعي مع تهاوي لبناتها القديمة، مازال حب البقاء طاغيا على خيار الرحيل، في خضم صراع الأمان مع الخوف المحظور من تخطي عتبة ما تبقى من أبواب مفتوحة، عمَّر تحت أسقفها المرفوعة أجيال متتالية، مازالت تراهن على الاستمرار وفق نظرات مستقبلية متفائلة.

بين مظاهر الود والتراحم تمتد أنفاس حياة البسطاء، لتمد أملا جديدا مع كل خيط فجر صادق يغزله الدعاء وتسابيح الحمد والرجاء، بكل عزم على مدارج حجرية ثابتة في أرض يأبى فراقها السكان الذين يروون بفخر ما كان مع وجوه مرت من هنا، حلت وارتحلت لكنها لم تُنْسَ بما تركته وراءها من أسرار تبوح بها الأسوار في كل مرة من غير تحفظ شوقا ووفاء، لتقاسمها كل محبٍ هادٍ يتوق للتعرف على شواهد تاريخ القصبة العجيب بقصص وأمثال السابقين، وذكرى متخمة بجرائم المستعمر الفرنسي يلوح منها عبق الجهاد المقدس لأبطال وقفوا ببسالة في ميدان الشرف.

تاريخ حي القصبة بالجزائر العاصمة

حي القصبة بالجزائر.. تاريخ لا يمكن أن يندثر 1
زقاق من حي القصبة

يقصد بالقصبة أكبر قرى في الضواحي، وقد تطلق تسمية القصبة على وسط المدينة، حيث يحصن المكان بأسوار عالية تشق فيها مداخل رئيسية تخضع للحراسة، لينعم السكان في الداخل بحياة آمنة وسط نسيج عمراني فني متميز، ونظام اجتماعي متماسك، يخضع لسلطة القائد من أعلى مرتبة إلى أدناها بدءا بالسلطان وصولا للأب، أين يعرف كل فرد حقوقه ويقوم بواجباته بضمير جمعي حي.
حسب المصادر التاريخية فإن وجود حي القصبة يعود إلى العهد الفنيقي، ثم غزاها الرومان، ومن بعدهم الاحتلال الوندالي، لكن الشواهد قليلة على ما عايشته المنطقة إبان تلك الفترة، فأغلب المعالم التاريخية والآثار اندثرت.

يمتد حي القصبة من أعلى دار السلطان نزولا إلى ساحة الشهداء أين تم اكتشاف آثار تاريخية، بعد القيام بأشغال لإنشاء محطة مترو منذ عام 2013م ، حيث عثر أروقة رومانية وأرصفة فسيفساء لإحدى الكنائس القديمة تعود للقرن الخامس ومقبرة بيزنطية كبيرة تحتوي على 71 قبرا تعود للقرن السابع.

أما في العهد العثماني، قام القائد عروج بربروس عام 1516م ببدء مشروع بناء القصبة فيما أكمله خيدر باشا عام 1592، أين تم تشييد مجمع سكني مازال قائما لحد اليوم، وهو عبارة عن منازل متشابكة على طول منحدر في موقع استراتيجي فوق هضبة بارتفاع 118 متر مطلة على البحر الأبيض المتوسط، مما يعطي رؤية واضحة للقاعدة العسكرية التي أقامها العثمانيون آنذاك. و

بنايات القصبة

حرص العثمانيون على بناء المساجد تنفرد بتصاميمها المعمارية الراقية، منها جامع كتشاوة نسبة إلى السوق المجاور حيث كانت تباع الماعز، وحوله الدوق دو روفيغو في ظل الاستعمار الفرنسي إلى كنيسة، أين قام بمجزرة في حق المسلمين الذي رفضوا قراره حيث قتل حوالي أربعة آلاف مصلي وأحرق كل مصاحف الجامع وحوله إلى إسطبل.

كما شيدت بنايات فخمة، صممت وفق الطراز التركي، وبيوتا مشابهة لها لكنها أصغر حجما تتخللها أزقة ضيقة ومتداخلة، تم تحصينها من مختلف الجوانب بعدة أبواب منها باب البحر ، أما من الجهات الأربعة فيوجد باب الوادي غربا، باب عزون شرقا، باب الدزيرة ( الجزيرة) شمالا وباب جديد جنوبا، وهذه الأبواب كانت تغلق ليلا لتبقى المدينة آمنة، ومنها سميت بـ” المحروسة“. فقد عاش السكان فترة من الهناء والأمن، وشهدوا رقيا حضاريا تشهد المعالم التاريخية عليه، منها القلعة أو ما يعرف بـدار السلطان و قصر الباي الذي بني في القرن السادس عشر وصار مقرا للسلطة عام 1816، ويضم قصر الداي ومسجده، قصر البايات، حصون عسكرية ومسجد للقوات الإنكشارية، حدائق ونوافير المياة وحمامات.

فضلا عن وجود قصور أخرى مثل: دار عزيزة، دار حسن باشا ودار خداوج العمية التي صارت مقصدا للزوار من الداخل والخارج.

صنف حي القصبة ضمن قائمة مواقع التراث العالمي لليونسكو منذ عام 1992م.

عيون الماء بالقصبة

حي القصبة بالجزائر.. تاريخ لا يمكن أن يندثر 4
عين مزوقة

حسب ما تشير إليه بعض المصادر أن حي القصبة ضمَّ مئات العيون المائية قديما، ولكن طمس معظمها، مثل عين المالحة القربية من دار السلطان، ولم يتبق منها سوى ست عيون متدفقة لحد الساعة، وهي: عين مزوقة، عين سيدي امحمد شريف، عين بير جباح، عين سيدي رمضان، عين بير شبانة وعين علي مدفع.

وتتميز هذه المنابع المائية أنها المصدر الرئيسي للماء الشروب لكل سكان القصبة، حيث تم بناؤها عند مداخل كل زقاق لتكون في الواجهة ومستقبلة لكل وافد.

كما تستغل هذه المياة في العبادة كالوضوء ، خاصة تلك العيون المقابلة للمساجد والتي نضب أغلبها وتم إغلاقها أو تعرضت للهدم مثل: زوج عيون التي تهدمت وكان مقرها قرب سوق لالاهم مقابلة لمسجد علي بتشين وهو القائد والأميرال الإيطالي ألبيريكو بتشينيو الذي شيده بعدما أسلم وغير اسمه.

من تقاليد القصبة العتيقة

لا تختلف أرجاء القصبة عن بعضها كثيرا، فتكاد تكون الممرات الضيقة المعروفة بالزنيقات متماثلة، ويمكن للزائر أن يتوه في تلك المضايق الملتفة، والتي يقبع في زواياها حرفيون مهرة يتقنون ما توارثوه أبا عن جد من حرف تقليدية متقنة، مثل صناعة النحاس، الخشب (النجارة والنقش)، الجلود والحلي.

كما تهتم النساء بتعليم الفتيات حرف وصناعات آيلة للزوال، كانت تهتم الجدات بممارستها وتعتمد عليها في المواسم والمناسبات وحتى في مختلف الأنشطة اليومية، مثل الطرز اليدوي، الفتلة والمجبود والشبيكة، فضلا عن صناعة الحلويات العاصمية الأصيلة وأشهرها الدزيريات ، البقلاوة ولعرايش ، والمقروط لمسعل سلطان المائدة ورفيق السهرات الرمضانية، حيث مازالت بنات القصبة تحافظن على اللّمة الليلية بعد الإفطار في شهر الصيام، كما ظل تقليد اللقاء قائما بعد صلاة العصر لاحتساء القهوة والشاي جماعيا وتشارك أخبارهن اليومية وحكايات القدامى وخبرتهم، أو التخطيط لتحضير المحافل والأعياد وإحياء ذكرى النضال الذي شارك فيه الكبار والصغار ، الرجال والنساء اللواتي كن يحمن كالحمائم البيضاء بزي الحايك رمز المقاومة في جو يؤكد أن الأصالة ولدت في القصبة.

الثورة الجزائرية في القصبة

لا يمكن ذكر معركة الجزائر من غير ذكر حي القصبة، فمع بداية ثورة التحرير المباركة عام 1954م كانت المنطقة حاضنة للنشاط الثوي، حيث أن أغلب الثوار من سكانها أو أووا إليها لطبيعتها المعمارية التي يصعب على قوات المستعمر التوغل فيها، فتكتفي بفرض الحصار على مداخلها الرئيسية، لكنها سرعان ما لجأت لسياسة القصف وتدمير المساكن، وكل ما يمكن أن يحمله الغازي الصليبي من بشاعة لمحاربة المعتقد وطمس الهوية وسرقة الأرض وخيراتها.

ويظل المنزل رقم 5 في شارع ديزابرام الشهير يحتفظ بالكثير من الحقائق التي أخفاها الأرشيف الفرنسي في أدراجه ورفض كشفها، فقد استشهد فيه كل من علي عمار المعروف بـ“على لابوانت”، حسيبة بن بوعلي، محمود بوحميدي، والطفل عمر ياسف -رحمة الله عليهم- صبيحة الثامن أكتوبر/ تشرين الثاني 1957م بعد تفجيرهم أحياء.

ويمكن الجزم أنه في كل بيت من بيوت القصبة توجد قصة لبطل أو أكثر عاشوا وناضلوا لتحرير أرض الجزائر الطاهرة.

وتظل القصبة صامدة

حي القصبة بالجزائر.. تاريخ لا يمكن أن يندثر 5
انهيار بعض مباني القصبة

شارع الإخوة بودرياس، شارع أحمد لعريشي، أوشارع بن عيسى ملايكة (شارع كاتون سابقا) وغيرها من الشوارع العتيقة، مهما اختلف التسميات تبقى المظاهر واحدة، حركة دائمة وعمل دؤوب لا يتوقف في حي القصبة، باعة جائلون هنا ودكانين تقليدية هناك، أطفال يلعبون، ومسنون يستعيدون ذكريات الزمن الجميل بين جدران انهارت ولم يعد لها وجود وأخرى مائلة مازالت تنتظر دروها لتُقَّوَّمَ مجددا بدعامة وثيقة، علها تحمي السكان من حر الصيف وبرد الشتاء، وهم يعيشون كل لحظة بحيوية ونشاط لا تفارق وجوههم البسمة والرضى رغم الظروف الصعبة إلا أنهم يفخرون كونهم من أبناء هذا الحي العريق، النابض بالحياة ليل نهار، وخاصة في شهر رمضان الفضيل، حيث تسود مظاهر الرحمة والتعاون، ويهدئ النفوس بود صوت ترتيل القرآن في صلاة التروايح، ويشق آذان السحور صمت ما قبيل الصبح ليستبشر ببدء يوم جديد يستل نوره من إصرار وعزم الناس على البقاء والعمل قدما في حضن حيهم التاريخي العظيم بكل ما شهده من أحداث ومر عليه من أفراح وأقراح.

296 مشاهدة