رجال حول الرسول – حذيفة بن اليمان عدو النفاق

رجال حول الرسول – حذيفة بن اليمان عدو النفاق

خرج أهل المدائن أفواجاً يستقبلون واليهم الجديد الذي اختاره لهم عمر -رضي الله عنه- ، وإذ هم ينتظرون الموكب الوافد ، أبصروا أمامهم رجلاً مضيئاً ، يركب حماراً على ظهره إكافٌ قديم ، وقد أسدل الرجل ساقيه وأمسك رغيفاً وملحاً بكلتا يديه ، وهو يأكل ويمضغ طعامه ، وحين عرفوا أنه حذيفة بن اليمان – رضي الله عنه- كاد صوابهم يطير ! وحين رأى حذيفة الناس يحدّقون به كأنهم ينتظرون حديثا منه ، ألقى على وجوههم نظرة فاحصة ثم قال : “إياكم ومواقف الفتن” ، قالوا : ” وما مواقف الفتن يا أبا عبد الله ؟” ، قال : “أبواب الأمراء ؛ يدخل أحدكم على الأمير أو الوالي ، فيصدِّقه بالكذب ، ويمتدحه بما ليس فيه” .

واستعاد الناس من فورهم ماسمعوه عن واليهم الجديد من أنه يمقت النفاق وأهله ويحتقره ؛ وكان هذا الاستهلال أصدق تعبير عن شخصية الحاكم الجديد. ولقد تخصص حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- في الوجوه والسرائر ، يقرأ الوجوه في نظرة ، ولقد بلغ من ذلك مايريد ، حتى كان أمير المؤمنين عمر -رضي الله عنه- وهو الملهم الفَطِن الأريب ، يستدلّ برأي حذيفة وببصيرته في اختيار الرجال ومعرفتهم ؛ يقول حذيفة -رضي الله عنه- : “كان الناس يسألون رسول الله عن الخير ، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني ؛

  • قلت : “يارسول الله إنا كنا في جاهلية وشر ، فجاءنا الله بهذا الخير ، فهل بعد هذا الخير من شر ؟”
  • قال -عليه الصلاة والسلام- :”نعم ”
  • قلت : “فهل بعد هذا الشر من خير ؟”
  • قال : “نعم ، وفيه دَخَن”
  • قلت : “وما دَخَنُه ؟”
  • قال : “قوم يستنّون بغير سنتي ، ويهتدون بغير هديي ، تعرف منهم وتنكر”
  • قلت : “وهل بعد ذلك الخير من شر ؟”
  • قال : “نعم ! ، دعاة على أبواب جهنم ، من أجابهم إليها قذفوه فيها !”
  • قلت : “يارسول الله فما تأمرني إن أدركني ذلك ؟” قال : “تلزم جماعة المسلمين وإمامهم”
  • قلت : “فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ؟”
  • قال : “تعتزل تلك الفرق كلها ، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وانت على ذلك”.

لقد أفاء الله على حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- بالبصر والبصيرة على مآتي الفتن ، وكان يدير المسائل في فكره وعقله بأسلوب فيلسوف ، وحصافة حكيم ، وكان يقول في القلب الذي يجتمع فيه الايمان والنفاق: “فمثل الإيمان كمثل شجرة يُمِدُّها ماء طيب ، ومثل النفاق كمثل القُرحة يُمِدُّها قَيح ودم ؛ فأيهما غلبَ ، غلبَ”.

ويوم الخندق بعد أن دبّ الفشل في صفوف كفار قريش وحلفائهم من اليهود ، أراد الرسول أن يقف على آخر تطورات العدو ، واختار لهذه المهمة البالغة العسر ، تحت وطأة الجوع الليل المظلم والعواصف التي تزأر وتصطخب كأنما تريد اقتلاع الجبال الراسيات ، اختار عليه الصلاة والسلام حذيفة وكان أمره تلك الليلة عجباً ، فبعد أن قطع تلك المسافاة وتسلل معسكر قريش وكانت الىيح قد لدأطفأت نيران المعسكر واتخذ حذيفة مكانه وسط المحاربين ، وخشي أبو سفيان من المتسللين فقام يحذر جيشه :”يامعشر قريش ، لينظر كل منكم جليسه ، وليأخذ بيده ، وليعرف اسمه” ؛ يقول حذيفة : “فسارعتُ إلى يد الرجل الذي كان بجواري وقلت له من أنت ؟ ، فقال : فلان بن فلان!”. ثم استأنف أبوسفيان نداءه قائلاً : “إنكم والله ما أصبحتم بدار مُقام ، لقد هلكت الكُراع والخُفّ -أي الخيل والإبل- وأخلَفَتنَا بنو قريظة وبلغَنا عنهم الذي نكره ، ولقينا من شدة الريح ماترون ، ماتطمئنُّ لنا قِدر ، ولا تقوم لنا نار ، ولا يستمسك لنا بناء ، فارتحلوا إني مرتحل” ؛ ثم نهض فوق جمله وبدأ المسير وتبعه المحاربون ، وعاد حذيفة فأخبر الرسول الخبر وزفّ إليه البُشرى.

وقد كان ثالث ثلاثه كانوا أصحاب السبق العظيم في فتوح العراق جميعها ، وفي معركة نهاوند العظمى احتشد الفرس في مائة وخمسين ألف مقاتل ، والمسلمون في ثلاثين ألفاً لا غير ؛ وأرسل عمر إلى مقاتليه : “ليكن أمير الجيش النعمان بن مقرن ، فإذا استشهد فليأخذ الراية حذيفة ، فإذا استشهد …” وهكذا حتى سمى منهم سبعاً ، ونشب قتال يفوق كل نظير ، ودارت معركة من أشدّ معارك التاريخ فدائيّة وعنفا ، وسقط النعمان بن مقرن شهيداً ، وقبل أن تهوي الراية المسلمة إلى الأرض كان حذيفة قد تسلمها بيمينه وساق بها رياح النصر في عنفوان لجب واستبسال عظيم ، وأوصى من فوره بألا يُذاع خبر موت النعمان حتى تنجلي المعركة ،ثم انثنى كالإعصار المُدَمدِم على صفوف الفرس صائحاً : “الله أكبر صدق وعده ، الله أكبر نصر جنده!!” ؛ ونادى : “يا أتباع محمد ، هاهي ذي جنان الله تتهيّأ لاستقبالكم فلا تطيلوا عليها الانتظار” ؛ وانتهى القتال بهزيمة ساحقة للفرس لا نكاد نجد لها نظيراً .ليس بوسع بضع أسطر أن تصف لنا حياة هذا الصحابي العظيم الذي كان واسع الذكاء ، متنوع الخبرة ، وكان يقول للمسلمين دائماً : “ليس خياركم الذين يتركون الدنيا للآخرة ، ولا الذين يتركون الآخرة للدنيا ، ولكن الذين يأخذون من هذه ، ومن هذه”. وذات يوم من العام الهجري السادس والثلاثين دُعي للقاء الله ، وتمتم بكلمات ألقى الجالسون

أسماعهم إليها فسمعوها : “مرحباً بالموت ، حبيبٌ جاء على شَوق ، لا أَفلَحَ من نَدِمَ” وصعدت إلى الله روحٌ من أعظم أرواح البشر . رضي الله عنه وأرضاه .حذيفة بن اليمان


379 مشاهدة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *