عاد رمضان من جديد يحمل معه ذكرى الراحلين.. وفي القلب حنين تؤججه لوعة الفراق، وبين الصبر والرضى ترتسم ملامح الطيبين الذين غادروا الدنيا بلا أسف ولا وجل إلى عالم أبهى وأرحب.
أيها الراحلون .. كانت اللُّقيا على خير دليلا للهدى في زمن الضلال، فما أحلاها من لقيا سرت فيها الروح بدفئ في الجسد، وتزاحمت الآمال والأحلام في الوجدان مترجية الفكر أن يغمرها بأشعة شمسه الذهبية المضيئة، لكن الليل أتى على عجل وأرخى سدوله ليكون الرحيل الأخير قدركم، فمضيتم حاملين معكم كل جميل، وساد الرجاء أن تعرف أرواحكم الدعة والسلام لعل ذلك يخفف وطأة الألم على القلب العليل وسط صمت الرفاة.
التخلف عن ركبكم لا يقطع أمل السير إليكم ولا يضيِّق الآفاق الواسعة، فما تركتم في النفوس والعقول لا يمكن أن يمحى أو يندثر، بل يمد القلم بالمداد والفكر بالرشاد، يدعم الرأي بالسداد ويستثمر في العمل الجاد.
رحلتم وما رحل صوتكم العذب الذي كان يعلن مجيء وقت السحور، ذهبتم تاركين وراءكم تسابيح الفجر ودعوة الصائمين تتردد على الشفاه التي لا تتوقف عن ذكركم والدعاء لكم بقلب صادق سليم.
مقاعدكم أضحت شاغرة .. وعلى مائدة الإفطار حبات التمر وأكواب اللبن الصافي تحن لأنفاسكم الطاهرة، العيون شاخصة بشوق وأسى تستعيد شريط الصور الحية بين ضحاتكم البريئة ونظراتكم الحانية فمكانكم في القلب مازال مشغولا بكم، جعل الله رمضانكم في رحابه أفضل، وألهم الثكالى العون والسلوان.
دمعات في المقل وحسرات في الفؤاد تعود كل مرة بذكركم وفاء وحنينا، ليس سخطا ولا مكابرة بل هو الرضى التام واليقين أن رحمة الرحيم أكبر وأقوى من كل شجن وألم أو غبن
مرور الزمن لا يعني أبدا النسيان.. نعم لم أنسك يوما يا أخي محمد طيلة أربع وعشرين سنة خلت، مازلت أرى طيفك حولي مزهوا باسما، يا من علمتني الحروف الأولى ووسمت قلبي بحب عقيدة التوحيد، رحلت وتركتني صغيرة لكن بقلب كبير حفظ كل ما أودعته فيه من علم ومبادئ وقيم، ولم ينسك يوما من صالح الدعاء وإيفاء دَيْنِكَ الذي تركته عَلِّي أرد ولو جزءا بسيطا منه في حفظ ذكراك القوية الطيبة، وأنت الشاب اللامع في بداية العقد الثاني حثثت الخطى على المنبر لتداوي جراح النفوس، وارتديت المئزر الأبيض حاملا المشرط بثقة لتعالج أورام الجسد.. واختارك الرفيق الأعلى إلى جواره.. ولكنك ما رحلت إذ رحلت .. فأنت مازلت دوما هنا بأفكارك النيرة ومخطوط مشروعك الإصلاحي الذي وئد في المهد بيد الآثمين الذين لن يسعدوا يوما كما سَعِدْتَ دوما، بل أظنك ازددت سعادة منذ أشهر بلقاء والدنا الغالي صاحب القلب الكبير.
أبي لن أقول أن هذا أول رمضان من غير وجودك.. بل سأقول أنه أول رمضان نتوسمه لك في عليين بإذن الرحمن الرحيم، مع الصحبة الطيبة وفي جنان الصالحين، الجميع يفتقدك بحرقة لكن يقينهم أنك نلت الأفضل لأنك قدمت الأفضل دائما، وتركت خلفك طِيبَ ذِكْرٍ وعَقِبًا يأبى أن ينقطع عملك.
لا يمكن نسيان الأحبة يوما فهم منا ونحن منهم وكما قال الشاعر:
حـبـيـبـي لا يـعــادلـــــــــه حبيــــب | وما لسواه في قلبي نصيب | |
حبيبي غاب من شخصي وعيني | لــــــكن عن فـؤادي لا يغـيـب |
فيا راحلين عن دنيانا، تاركين لفيف الشوق معقودا حول صدورنا، ستبقون شموعا تنير لنا الدرب وسط ظلمة متاهات الحياة القاسية في عالم مضطرب ارتحتم منه ومن مصابه، وتركتم لنا الذكرى تعود كل حين لتآسينا وتؤسينا بالعزاء أنكم في رحاب أرحم الراحمين، فاللهم اغفر وارحم موتانا وجميع موتى المسلمين، رحم الله عبدا قال آمين.
التعليقات