أقبل شهر رمضان الفضيل فمن أراد أن يكون من أهل الذكر عليه بتلاوة كتاب الله حق تلاوته، ليلا نهارا، سرا جهارا ولا يدخر جهدا في حث الخطى لكل عمل صالح يعود بالنفع على الفرد ومن حوله.
حل رمضان ببركته المعهودة وخيراته الممدودة، ليرسم ذكريات الأمس على صفحة اليوم، ومع تباشير فجر كل أيامه المقدسة يبعث الحياة في روحانيات الزمن الماضي مع الراحلين عن الدنيا، هؤلاء الذين لم يعد لهم حظا من الذكر ها هنا لكن ذكراهم وآثار تذاكرهم ظلت بيننا، فعلى السرير سجادة أبي – أكرم الله مثواه-، وهنالك على رفوف مكتبة أخي -طيب الله ثراه- تتلألأ الجواهر النفيسة التي تحلت بها روحي منذ الصغر، وفي نبرات صوت أمي المثقل بالحنين والشوق حكاية عن الوفاء والعشرة الطيبة أستعيد معها ذكريات حية لا تموت.
عاد رمضان وبين ثنايا الزمان والمكان يظل الفكر التصويري يعيد لحظات سعادة وصدق عشناها معا، ويحتفظ بمواقف صادقة لا تسمح بهيجان الأحزان، لتخفف وطأة ألم الفراق، فحتى لو غيبت الأجساد فما زالت الأرواح تزورنا بشذاها العطر وسيرتها الطيبة تنير دروب التائهين وتقاسمنا لذة الخلوات الراقية.
ظهر هلال رمضان وأهل معه التوق ليزيدني شوقا، فهاجت بي مشاعر الحنين فاستذكرت قول الله تعالى:” (( إن لله وإنا إليه راجعون ))، فتلاشت المآسي وصغرت هيبة الموت أمام عظمة قوة اليقين، لألتزم الصواب والحكمة وأكف عن الطمع برجوع من رحلوا لكني أتأمل لقاءهم يوما بالرقي في مراتب الصبر إلى حين يكون اللقاء الأبدي، أسأل العلي القدير أن يجمعنا بهم في الفردوس الأعلى.
ذكرني رمضان أن أذكر أقوال أبي الحكيم، وكيف كان لا يحرم من حوله قريبا أو بعيدا وهو يبتسم قائلا بلسان أمازيغي:” مود ربي أذيمود” بمعنى “اعط فالله يعطي” فالله يخلف على المنفق،، وصيته دائما العفاف والتعفف وجملته الدائمة “المكسب الحلال نعمة، والمال الحرام ظلمة إياكم والمال الحرام”، حديثه لمن يلقاه الحفاظ على الوحدة والعيش بإخاء، لقد حفظت عن ظهر قلب كل أقواله واتخذتها مبادئ أساسية في الحياة.. فمضت روحي تتسامى ومواقفي ترتقي بملامسه أصدق الأحاسيس وأنبل المواقف، واستضاء الكون من حولي وازدهت سمائي الممتدة بشريط ذكراه يمر كل لحظة وحين ليتجلى ضوء النهار وينجلي معه كل اغتمام من غير تحامل أو نقمة على الرحيل.
جاء رمضان هذا العام بعد مرور 25 عامامن ارتقاء أخي محمد – رحمة الله عليه- أو كما يجب أن يذكر اسمه بفخر الدكتور محمد جبارة – طيب الله ثراه- من خيرة شباب الجزائر وأحد أبرز أبناء النخبة الشرفاء، فقد عرف عنه النبوغ والذكاء والتميُّز فضلا عن حسن الخلق والسمعة الطيبة، كان طبيبا للروح والجسد، بعدما لبس المئزر الأبيض بتفوق واستحقاق ليعالج جراح الناس ويداوي أمراضهم بتفان وإخلاص، ومن قبل ذلك اعتلى المنبر ليلقي خطب الجمعة والعيد بكل وقار وتواضع ويتحدث عن مقاصد الشريعة للمشاركة في البناء وإصلاح المجتمع.
محمد الشاب الودود البشوش -أكرم الله مثواه- رحل عنا باكرا في ريعان الشباب، وحرمنا من حق الوداع والحداد قسرا وسلبنا حصة تشييعه في جنازة قهرا، لكن العزاء أنه ترك دينا عند كل من علمه وساعده، خلف ما لا يسع أن يمحو ذكراه الطيبة، ويجعل كل من عرفه يحبه ويثني عليه، ومنهم أنا حيث لم أنس يوما فضله علي بعد الله تعالى، هو من فطمني على عقيدة التوحيد الصحيحة ووسم قلبي بحب الالتزام، مازالت المكتبة الخاصة التي جهزها من أمهات الكتب النفيسة وكنوز العلم والمعرفة شاهدة على سعيه الدؤوب في طلب العلم ونشره، لم يدخر جهدا في توجيه كل من قصده، ولم يكسل أو يتراجع في نثر بذور المبادئ والأخلاق والقيم من حوله، وتظل صنائع معروفه حاضرة ليومنا هذا.
كل من التقاه وأحبه أدرك أنه كان الأب الروحي والابن البار والأخ العطوف والجار الكريم والصديق الصدوق فوجب علينا ذكره وخصه بالدعاء الطيب.
عاد رمضان لينبه أن الزمن أخذ من الأعمار ولم يتفطن له الناس إلى حين لحظة الوداع، لحظة جعلتني أتوه في دروب الحياة وجاهدة سعيت لإيجاد مفترق الطريق وأغير وجهتي علي لا أشعر باليتم على كبر، لقد قيل أن اليتيم من مات أبوه وهو صغير فإذا بلغ الحلم زال عنه اليتم، فلم هذا الإحساس المؤلم الممزوج بالمرارة يملآ وجداني منذ الصغر برحيل أخي وازداد تأججا عند الكبر برحيل أبي…؟
ودعنا أحبابا بحرقة لكن الرضى كان لنا العزاء، واليقين قوة لمسايرة سنة الحياة وتقبل فراق بلا إياب، ويطول الرحيل على أمل اللقاء حيث سيحلو في عالم أرحب وأبهى بإذن الرحمن ليلتم الشمل للأبد، وتستحيل الذكرى من شهر رمضان إلى لآلئ السراج السرمدي في عليين.
اللهم لا اعتراض على الآجال فهذا قضاؤك، وما وعدت بالخلود في الدنيا لأحد، ووعدك الحق، كما وعدت باستجابة الدعاء لمن دعاك، فاغفر لمن ملك قلبا رحبا وثغرا باسما ولم يبخل على من حوله بالعطاء يوما، فغذى الأجساد والأرواح بسخاء وصفاء حتى لم يعد يجد الشعور بالامتنان موضعا يسعه.
وببهجة استقبال رمضان استبشر ليحثنا على البحث بثقة عن موضع مبهج للدعاء لكل من غابوا بعدما حضروا معنا رمضانات سابقة، وغدت مقاعدهم الآن شاغرة حول مائدة الإفطار، وانقطعت تسابيحهم في هجيع الليل، لكن عملهم القيم لم ينقطع.
نسأل الله أن يغفر ويرحم من ظل لسانه يلهج بالذكر وتدبر وتفكر في قوله تعالى: “رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ” (سورة آل عمران 191).
محرومون نحن بقربهم، ومحظوظون هم بقرب الرحيم، نسأله أن يتغمدهم برحمته الواسعة، ويجعل مثواهم الجنة، رحم الله عبدا قال آمين.