كان شغفي بالمدرسة كبيرا، وددت لو التحقت بها بعمر الثلاث سنوات لكن القوانين لم تكن تسمح بذلك، فانضممت إلى الكُتّاب الذي يستقبل الأطفال دون قيد السن، شرط تمييزهم بين الهدوء والفوضى ومعرفة الفارق بين اللعب والتعلم والتزام المتابعة والحفظ.
وعلى قدر سعادتي بالتعلم لدى شيخ الجامع كنت أتوق لدخول المدرسة الابتدائية، وبالفعل جاء اليوم الذي ارتديت فيه الثوب الأحمر المخملي ومن فوقه المئزر الوردي وسارعت الخطى للوصول إلى باب المدرسة لكن الطريق بدا طويلا جدا رغم قصر المسافة، ووجدتني أستشعر اللحظات كالمدد اللامتناهية، لكني أبيت إلا اختزال الامتداد في تحصيل معارف جديدة أستقيها مما حولي.
أول ما كان يشد انتباهي هو أعداد الأطفال الذين يرتدون مآزر مثماثلة كزي موحد ويحملون محافظا متشابهة سائرين في اتجاه واحد كل صباح، منهم النشيط المسرع، ومنهم الخامل الذي يجر الخطى، ومنهم ما بين هذا وذاك، وكلهم في النهاية يصلون لعتبة بوابة واحدة، وكذا الأمر عند انتهاء الدوام لكن السير يكون بالاتجاه المعاكس مع بعض التغييرات في التصرفات وردود الأفعال على الفضول الطفولي والمشاغبات واللعب ومواقف التنمر.
ثم ما لبث أن صار هذا المشهد المتكرر اعتياديا ودخل مصنف الرتابة وبالكاد أجد اختلافا واحدا بين الأيام، فانتقلت لمراقبة خطوط النمل المنتظمة في حركة بالاتجاهين داخل الحديقة المجاورة للمدرسة، أين تتشبت الأعشاب والحشائش بتربة صفراء يظهر عليها الجفاف والتشققات ولا ترتوي إلا عند قدوم الشتاء ليعلن النمل المنشغل دوما رحيله، وعبثا ما حاولت البحث عنه وسط برك الماء الصغيرة لأني افتقدت رؤيته ذهابا وإيابا وأنا أرى وجه شبه في سعيه وسعيي ولم أكن أعلم أنه مضطر للاختباء وإلا هلك.
وكم سعدت برؤيته مجددا عند الصحو، فهرعت إليه ولم أعرف أنه لاسع، فبمجر الاقتراب من مستعمرته ومحاولة لمسه شعرت بحرقة شديدة وظهر احمرار على جلد يدي، وأدركت أن هذه الحشرات تعيش في عالم خاص بها لا تسمح للفضوليين أمثالي بدخوله وتستمكيت في حماية حدوده بشراسه، فتعلمت الدرس ولم أعد ألمسه مجددا، لكني ظللت أراقبه فقد كان يعجبني وجود أنواع كبيرة منها الأحمر، البني المصفر والأسود، ومنها الأسود الصغير، وكلها لا تتوقف عن العمل في جمع القوت طول المواسم المشمسة الحارة، وبعدها فهمت جيدا لماذا كانت أنشودة النملة تقول نحن الآن يا صحبي بصيف العمر و القلبِ فخذ زاداً لكي تنجو بيوم الضيق و الكرب .. بالفعل يجب جمع الزاد ليوم بلا زاد.
ومع الانتقال من طور لآخر بدأت المسافة تكبر لتكبر معها تعلماتي، فلم تكن وحدها المقررات الدراسية من يزودني بالمعارف والعلوم بين أسوار حجرات الدرس، إنما وعلى طول طريق المدرسة وفي كثير من الأحيان اكتسبت ما أسهم في تعزيز الذات وتنمية الفكر وظل محفوظا لحد الساعة.
ومن النمل النشيط إلى القطط اللطيفة المرحة التي كان يبهرني وثبها وسرعتها، وأعجب بوداعتها عند نومها، وبعد ملاحقتي الدائمة لها قررت تربية قطة صغيرة أسميتها نيسا كانت بغاية الجمال وحلوة المعشر وبعد سنوات من تربيتها وألفتها اختفت فجأة وافتقدتها كثيرا ولم أنسها لحد الساعة.
ثم ظهر فزعي الأكبر مع الكلاب ولو بصحبة مالكيها، لا أدري لماذا ينتابني شعور الخوف بمجرد رؤيتها، والأدهى أن صديقة طفولتي وجارتي نهاد هي الأخرى كانت ترهبها وبمجرد رؤية أحدها تدفعني اتجاهه وتهرب ولما استفسر عن سبب تصرفها، تقول أنها من شدة خوفها من الكلب تخشى أن يلحقها ويعضها فعندما تدفعني إليه سيجد ما يلهيه عن ملاحقتها، فأقول لها أو هكذا تكون الصداقة؟، فترد: أنت حقا صديقتي وأحبك لكن لا تعلمين كم أخاف الكلاب ولا يمكنني التفكير بأي شيء غير التخلص منها عند رؤيتها، فأجدني أضحك من موقفها أكثر من غضبي منها.
وأذكر جيدا يوم انتشرت إشاعة وجود كلاب ضالة في المنطقة فصرت أصل للمدرسة في لمح البصر وأبحث عن مسافة آمنة للوقوف بيد أن الأمن بدأ ينفلت على مستوى أعلى وبدأ الخوف ينثر بذوره في كل مكان.
مرت عشرية بكاملها من مكابدة الموت وأحزانه وعرف الجميع معنى الخسارة والخذلان، ولم أنقطع عن أخذ الدروس من طريق المدرسة طوال تلك الفترة المريرة التي كان يحلحلها قضاء أوقات طيبة مع الرفيقات اللواتي يشاركنني طريق الذهاب والعودة، ويفسحن أمامي مساحة للتواصل الممتع وإدارة المحادثات وتعلم مهارات جديدة من الحياة الصعبة.
كانت فرصة لجمع أكبر قدر من الأفكار الجديدة ومشاركة القيم الاجتماعية والتجارب، وتقدير أناس بسطاء ما زلت أذكر عددا منهم لحد الساعة، كذاك الإسكافي الذي يفترش الأرض ومعه عدته البسيطة ليشرع في العمل منذ الصباح الباكر، ويتوقف لأخذ استراحة الغذاء فيخرج من كيسه قطعة خبز محشوة بالفلفل الأخضر ويتناولها بسرور باد على ملامحه المنهكة، كنت أرى الرضا في عينيه والقوة في أنامله التي ترقع الأحذية بإتقان، لقد كان يعمل طول السنة حتى في فصل الشتاء وكم كان يؤلمني رؤيته وهو يضع كيسا بلاستيكيا فوق قبعته الصوفية حتى يحتمي من بلل المطر، ليواصل دق المسامير وخياطة النعال من غير أن يرفع رأسه أو ينشغل بالمارة، فانهماكه بعمله شغله عن ما حوله ووجه اهتمامه عن نظرات الناس إليه، وعلى بساطة المشهد وتواضع المهنة يظهر وكأنه رجل أعمال منشغل جدا لا وقت لديه لتضييعه، إنه العمل الشريف حيث يسترزق الرجل البسيط من الحلال فعلام إذن يشغل نفسه بما لا ينفع، وقد حق له أن يفخر بما بلغه من سمو ورفعة وتحمل للمسؤولية لم يبلغ عشره أصحاب المال والمناصب، وكم سعدت يوم رفع رأسه اتجاهي وابتسم لقد تفطن لمراقبتي له يوميا، وبتوقير وتقدير بادلته الابتسامة والتحية وقلت له: ربي يعاونك عمو، وفي العادة هذا الدعاء يدل على التعاطف والدعم لدى الشعب الجزائري…
لن تنتهي الذكريات لو استمريت في تعدادها، فمن باب البيت إلى باب المدرسة كانت الرحلة اليومية المتجددة مفعمة بالإثارة والعبر، شهدت مواقف ووقفات متعددة، صادفت الأخيار والأشرار، والتقيت نماذج تستحق الاقتداء بها، وبالموازاة اصطدمت بسلبيات كثيرة لا يجب الانسياق وراءها بل على العكس يمكن التعلم منها لتجنب الطباع السيئة وتقدير عدم انسجامها مع الأفعال الصائبة، إذ لا تساير الفطرة والخلق السوي ولو تبناها الناس ورأووا فيها تحضرا وموضة عصر.
بعد كل تلك السنين على طريق طويل محفوف بتجليات الحكمة والحنكة خلصت إلى أن الطريق في حد ذاته مدرسة يرسب فيها كل مندفع ضعيف الشخصية منساق وراء المظاهر والشهوات، ويتخرج منها من سعى للبحث عن الفضائل الأخلاقية وتمسك بالصفات الإنسانية ليؤمن استثمارا مستقبليا ناجحا على المدى الطويل.