وبينما كنتُ مارّةً من قرب أحد حقول القمح في قريتي ،شاهدتُ صوامع البرّ تتعالى،فأخذت أسير ببطءٍ لأتفرّج على ما خلق الّله من نباتات يخبّيء النّاس أقواتهم منها .
وفيما أنا مشغولةٌ في تأمّل السّنابل الذّهبيّة ، قطع انسجامي صوتٌ خافت…حسبته في باديء الأمر نداء أحد أصدقائي لي ،ولكن ما لبثتُ أن أنصتّ قليلاً حتّى عرفتُ أنّه منبعثٌ من هذا الحقل ،وتحديداً من جانبي...
عاد الصّوت مرّةً أخرى وهو يقول:”أنت أيّها الغريب الّذي يمشي على أرضنا …ألا تراني؟!”
عنها التفتّ يميناً وشمالاً فلم أرَ شيئاً ! إلى أن شدّ انتباهي سنبلة برٍّ تتحرّك بشكلٍ غريب،فأدركتُ حينها أنّ الصّوت منبعثٌ من أحد حبّاتها !
اقتربتُ قليلاً لأستمع إلى قصّة هذه الحبّة الّتي بدأت حديثها قائلةً: “أنا نبتةٌ أتمتّع بلوني الحنطيّ-الّذي يتناغم مع الطّبيعة- كما أتميّز بصغر حجمي ، وبكثرة فوائدي…فأنا الغلّة الّتي يجني الفلّاح منها الرّبح ، وأنا الأمل ، وأنا الطّعام الّذي يوزّعني الأغنياء على الفقراء.بالإضافة إلى ذلك تجد أنّ الحروب تشتعل من أجلي، وتذهب الضّحايا من أجلي، وتُذلّ النفوس أيضاً من أجلي …”
ثمّ تابعتْ قائلةً:”إنّ حكايتي لحنٌ عذبٌ يُعزف على أوتارٍ منسوجةٍ من الجهد والتّعب…فأنا ابنة هذه الأرض،وُجدتُ من أجل إسعاد النّاس الّذين يحرصون عليّ،وإشباع الكثير من الكائنات الحيّة الّتي تخزّنني لتأكلني فيما بعد .”
وأخذتْ تسترسل في الحديث لتخبرني عمّا تمرّ به لتصبح هكذا :”تراني في الخريف مع صديقاتي حيث يبذرنا الفلّاح ،فنتساقط على الأرض والفرحة تغمرنا-لأنّنا فيما بعد سنضيئ هذا الحقل،ونجعله يلمع كالذّهب،ثمّ نغطّ في سباتٍ عميق طيلة أيّام الشّتاء، ولكنّنا لا نشعر بالبرد كما تشعرون أنتم يا معشر البشر ،ففي ذلك الوقت أنام هانئةً وأنا أحلم أن أكون شيئاً نافعاً عندما أكبر .
ويأتي الرّبيع لأنهض من سكرات النّوم …حين تلامسني أشعّة الشّمس ،فأنعم بالدّفء،وأتمنّى أن يُعجب بي المزارعون فأكون خيراً وبركةً على محصولهم .
أبقى هكذا منتظرةً إلى أن يأتي فصل الصّيف حيث يشتدّ ساقي ،وتنضج سنابلي ،فيحضر الفلّاح حاملاً منجله ،حيث يبدأ بعمليّة الحصاد ،وعندما ينتهي يكوّم السّنابل كحزمٍ صغيرةٍ،لتُحمل وتنقل إلى البيادر.
وهناك في البيادر …أنام تحت أشعّة الشّمس نهاراً، وأنعم برؤية القمر ليلاً،فأرى القمر يتهادى سابحاً في السّماء كسفينةٍ تختال في عرض البحار…وأسمع تغاريد البلابل صباحاً ، وأرى العصافير وهي تقع على السّنابل لتلتقط الحبّ والقشّ –فتلتقط ما لذّ وطاب – وفي هذه الأثناء يأتي النّورج ليعركني ، وليجعلني أخلع الثّوب الّذي أحاطتني به السّنبلة ، ومن هنا أُصبح مهيّأةً لأن أقوم بدوري في الحياة، فأنا حبّة البرّ الّتي يُصنع منها الخبز والكعك والحلويّات و….”
ولم أنتظر حتّى تكمل حبّة الحنطة كلامها وتجيب عن تساؤلاتي، فقد أدركتُ من هذه الّلحظة أنّ كلّ شيءٍ في هذه الحياة له دوره ،صغيراً كان أم كبيراً،إضافةً إلى أنّه لا يجب الاستخفاف بالأشياء الصّغيرة والبسيطة الّتي بين أيدينا ،لأنّ أكثر الأمور الّتي تصلنا كلّ يومٍ على طبقٍ من ذهب قد مرّت بالكثير من المحطّات المتعبة والّتي أخذت جهداً ووقتاً كثيرا.