عصا السي ” اليزيد” الساحرة

عصا السي ” اليزيد” الساحرة

انتقلت إلى مستوى الابتدائي الثاني أو ” البيت الثالث ” كما كانت أمي تصفه بلغة العوام. وبالنسبة للأجيال التالية ( السنة الثالثة ابتدائي) صيف سنة 1982 بمدرسة ” التقدم ” بحي “تالبرجت”. قضيت العطلة الصيفية الرمضانية ضائعا بين شاطئ البحر، ولعب ” الروندا” في أزقة الحي الأزلية بين “السواريات”، وتصفح أعداد قديمة من مجلة ” الصقر” القطرية في مكتبة ” الصويري” ومتابعة مباريات كأس العالم وتبادل صور طابلو ” بانيني” بحثا عن صورة “دييغو ماردونا” و “ميشيل بلاتيني” و “بول بريتنير” والماكر “بولو روسي” … غير أن ما كان يشغل بالي حينها كثيرا، ويعكر صفو مزاجي الطفولي تعكيرا، هي تلك الحكايات المتواترة التي نسجت في خيالنا عن عصا السي ” اليزيد” الساحرة.


السي ‘اليزيد” معلم الفرنسية في مستوى الابتدائي الثاني أربعيني نشيط بما تحمله كلمة ” النشاط ” الدارجة من معنى. ذائع الصيت بيننا في ” تلبرجت “. إكتسب شهرته من جديته المفرطة وطريقته الفريدة في تعليم الكتابة بالخط الفرنسي الأصيل، بالإضافة إلى عصاه العجيبة، التي فاقت في شهرتها بيننا عصا ” سيدنا موسى ” التي يتوكأ عليها، ويهش بها على غنمه وله فيها مآرب أخرى … غير أن مآرب سي ” اليزيد ” من العصا لا علاقة لها بعصى” سيدنا موسى” فهو يسعى إلى أن يبتليك بكثير من الخوف، ويضيقك أقصى درجات الألم و الصدمة، التي تجعلك مسلوب الإرادة خاضعا لقواعده الصارمة. وسمت عصا “سي” “اليزيد” طفولة العديد من أبناء الحي بالضياع فدفعت الكثير منهم إلى الانقطاع عن الدراسة أو الانتقال إلى مدرسة ” اليوسفية ” و ” ابن زيدون” القريبة لتغيير الأجواء المفعمة بالكراهية والعنف والفشل.

كانت عصاه – رغم ذلك – عادلة لم تميز بين الصغار نحيلي الأبدان مثلي و ” الحلالف ” الناجحين بالأقدمية أصحاب “القلدات” و” البوادر” و” الموسطاش ” الكث المتهافتين – تملقا – على مساعدة المعلم على رفعنا ليسهل عليه ” شبحنا ” في حفلات “التحمال” و” الفلقة ” وتوزيع المداد الأزرق في “الدويات” كل صباح، وجمع الدفاتر وترتيبها في خزانة القسم عند نهاية الحصة، ومسح السبورة، ورعاية التلاميذ عند انصراف المعلم لقضاء الحاجة…كما أنها عصا لا تميز بين الذكور و الإناث.

كان مُتَجَهِّمُ الوَجْهِ لا يبتسم البتة وبنبرة صوته الحادة يفرض عليك الاحترام، و والانضباط والالتزام بالقواعد، و ضوابط الصف والعناية بدقائق الأمور بما فيها اللوازم المدرسية و الهندام. مجرد تقطيب سي ” اليزيد” حاجبيه دليل على أن الشيطان الرجيم يحوم بك، وان يَوْمك ويوم أم أمك عَبُوس.


مجرد الاستيقاظ باكرا على الساعة السادسة و النصف و التفكير في حصة الفرنسية الصباحية يصيبني بالدوار. تمنيت مرات عديدة أن أستفيق على خبر زلزلة الأرض كزلزال الستينات، وخراب المدرسة دون باقي المدينة، أو إعلان توقف الدراسة أو وفاة “سي” “اليزيد” تحت الأنقاض… كم مرة قطعت المسافة القصيرة من بيتنا في زنقة “الأحباس” إلى ” التقدم ” بخطى ثقيلة متعمدا التأخر عن الحصة الصباحية، ومنح الحارس البدين أو السيدة المكلفة بالمطعم المدرسي الفرصة لإغلاق الباب الحديدي، لأعود الأدراج إلى البيت مدعيا أن المعلم تغيب… مرات كثيرة تمارضت وتصنعت العجز … كنت أغادر إلى المدرسة صبيحة كل يوم محملا بأماني و آمال خائبة، فمثلا كنت أترجى العلي القدير أن يتغيب السي ” اليزيد” بسبب الحمى أو أن تحل به مصيبة تمنع عنا إلى أبد الآبدين بطشه، الذي لا يطاق…

كنت أقضي الحصة في “همهمت” ما تيسر من الذكر الحكيم، وتلاوة الأدعية سرا و علنا كما علمني الأقران، وألوك “حصى حظ” صغيرة كنا نعتقد بسذاجة الأطفال أنها تساعد على دفع شر وبطش السي ” اليزيد”.. يوميا ينتابني خوف مرضي غريب من أن تخذلني الريشة، وتنكسر سنها فوق دفتر” سندباد ” أو ” النمر ” أو أنسى لوازم الدراسة أو أفقد التركيز… فيجد سي ” اليزيد” مبررا ليضيقني ” بركة ” غصن الزيتون الأليم. أتذكر أنه صفعني مرة صفعة مزدوجة مثل ” كريندايزر” لمجرد أني نسيت إحضار” المنشفة ” الورقية ففقدت السمع للحظات، وظلت طبلة أذني ” تطنطن ” مثل يعسوب شارد طيلة اليوم.

يخلق السي ” اليزيد” داخل الفصل جوا مكفهرا يجعلك تنهال بالسباب والشتائم على الملعون الذي أبدع فكرة “المدرسة”. فضاء رتيب بدون صور ولا ألوان … لا أنشطة ولا أناشيد … قسم تملأه الشياطين بالخوف، ويسوده صمت المقابر المسيحية . تشعر بالرعب وترتعد فرائسك تلقائيا عند مروره بين المقاعد، لأنه قد يباغتك بالسؤال عن نظافة يديك وحالة أظافرك. ينهال عليك بالضرب بدون إشعار لأنك لم تحترم فقط قواعد كتابة حرف L أو H
يملك سي ” اليزيد” غصن شجرة زيتونة هي عصاه السحرية المرفوفة بعناية وبهاء في خزانة القسم، لسعة واحدة منها تجعلك تلعن في قرارة نفسك اليوم الأسود، الذي جاءت فيه بك أمك إلى هذه الدنيا البئيسة، له طقوس خاصة في “الشحيط و المحيط” حدثنا عنها “با سى” رواة ثقاة من السلف ذاقوا مرارتها في الماضي، وخبرها الخلف بعد ذلك بالتجريب.


يبادرك السي “اليزيد” بوقار، ويطلب منك أن تتقدم إلى الأمام، وتقف ناحية الصفوف حيث يجلس زملاؤك بالضبط “قدام” السبورة السوداء بثبات. فتلتف الساق بالساق من شدة الخوف كأن إلى ربك حينها المساق… ثم يتقدم بخطوات متثاقلة مستفزة إلى المنضدة. يمد يده النحيلة ليفتح باب الخزانة الحديدية… يخرج لئم غصن الزيتون، يمسح عليه بالإبهام والسبابة متفقدا مرونته، وقبل أن ينهال عليك بالضرب يمسح براحته يدك الرعشاء ليطمئنك أنه يتفقد درجة نعومة الجلد، وقدرتك على التحمل حتى تناسب قوة ” الدقة” نعومة اليد. يدس العصا في قبضة يده ويتمكن منها ثم ينزل بها على الراحة الواحدة خمس مرات متتالية دون جهد يذكر وبسرعة، حيث لا تستغرق العملية نصف دقيقة.

خمس ” دقات” لاسعة تشعر بوخزها تدريجيا، فتبدأ راحة اليد في الانتفاخ السريع مما يفقدك الإحساس بها. في تلك اللحظة لن تعود يدك قطعة من جسمك. ثم يتحول لون اثأر اللسعات من الأحمر إلى الأزرق، يليه الإحساس بحرارة الأذنين و احمرار الوجنتين فتدمع عيناك من شدة الألم. الشعور بالألم الشديد يزداد مع مرور الوقت.
عصا السي ” اليزيد” خارقة وساحرة في ذات الوقت تجعلك تقضي الزمن المتبقي من الحصة في حالة ضياع ذهني مؤقت.

مرات كثيرة تألمت لآلام الزملاء و الزميلات، الذين ذاقوا و اللائي دقن لسعات الساحرة. كلما أومئ سي ” اليزيد ” بحركة “رأسه الشاقولية” لأحدهم بالتقدم إلى السبورة يرتجف قلبي الصغير وتسرع نبضاته من شدة الخوف. تنتابني فجأة قشعريرة برد ورغبة بالغثيان. كلما هم بالضرب أشعر بالدوار، وأفقد الإحساس بالزمان و المكان، وأضيع لحظات … مرات كثيرة تقاسمت معهم آلامهم وذرفت بدلا عنهم ومعهم الدموع خاصة عندما يفقد الأضعف منهم القدرة على التحكم في المثانة، من شدة الخوف، فيتدفق البول من بين الفخذين. حينها تنفرج أسارير سي ” اليزيد” فرحا بالانجاز الذي ستتناقله الأجيال.


كنت أبدل الجهد الجهيد لأنجز ما طلب مني وما لم يطلب من الواجبات المنزلية واحفظ المحفوظات و الحوارات، وقواعد الصرف والتحويل، واعتني بدقائق الأشياء من المقلمة إلى الوزرة وتسريحة الشعر العادية أصلا حينها لم تكن لنا ميولات إلى الموضة، وأتحامل على الطفل المشاغب بداخلي لأبدو هادئا في الساحة وداخل القسم، وأمام باب المدرسة ليس احتراما لسي ” اليزيد” أو التزاما بالقواعد وضوابط السلوك، ولكن خوفا من اللسعات الساحرة التي تصيبك في لحظات جنون سي ” اليزيد “.


ملاحظات لابد منها:

  • السي” اليزيد” ليس الاسم الحقيقي لهذا المعلم فقط استعرت الاسم تفاديا للإسقاط والإحراج.
  • “الفلقة” و “التحمال” واحدة من الأساليب المستعملة سابقا في العقاب المدرسي و التأديب التربوي.
  • الفلقة:عملية تقوم على تثبيت الشخص المعاقب وإلقائه إلى الأرض على ظهره، ورفع قدميه بعد خلع الحذاء والجورب، وتثبيتهما على كرسي أو على طاولة أو ربطهما على عصا يمسكها شخصان، ويتم ضربه أسفل القدمين بواسطة عصا خشبية أو قضيب بلاستيكي” التيو”.
  • التحمال: تقوم العملية على تمديد الشخص على بطنه ورفعه من الإطراف العلوية و السفلية من طرف شخصين، ويقوم المعلم بضربه على المؤخرة باستعمال العصا الخشبية أو القضيب البلاستيكي. وقد يطلب من التلميذ المعاقب أن يجلس على الكرسي بشكل عكسي ممددا إلى الوراء مؤخرته.
  • الشبيح: أن تمد الشخص لجلده أو ضربه مثل ” السليخ”.

355 مشاهدة

التعليقات

  1. هناك نسخ كثيرة من السي اليزيد الذين حولوا المدارس إلى سجون بدرجة غوانتانمو مثل معلمة الفرنسية التي جعلت حياتي جحيما ونحن في 2020ـ ولما ذهبت أمي لترفع عني هذا العذاب أقسمت أنها لم تضربني أو تفعل شيئا فحسبي الله فيهاـ وللتوضيح هي لا توضح الدرس ولا أحد يفهم عندها والزملاء بين الدروس الخاصة أو الأولياء المتعلمين يدرسون المادة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *