تقديم
أريج تاريخ عريق مازال يُعَبِقُ نسائم هواء اسبانيا، وبشموخ ينثر صفحات المجد والعظمة المنحونة على جدران العمائر العتيقة من زمن الأندلس الراقي.
فبين قباب المساجد ومآدنها تتهادى روح التوحيد بعز، وفي زوايا القصور تسكن الفخمة تسكن ذكرى العظماء الفاتحين، ومن الحدائق الغناء ينبعث شذى العطر الأندلسي الطبيعي، وفي تحد للزمن تعود الذكرى طيعة على وقع حوافر الخيول العربية الأصيلة، فمهما اختلف الأمكنة وتباينت الأسماء من قرطبة أو إشبيلية، مجريط أو الزهراء تظل جمالية الصورة فوق التصور لآثار خالدة وشاهدة على أن الحضارة بكل مقاييسها وعلى مختلف المستويات قد عمرت طويلا هنا، منذ أن وطئ ثراها القائد طارق بن زياد -طيب الله ثراه- إلى لحظة سقوط مملكة غرناطة آخر معاقل الإسلام في الأندلس عام (1942م -897هـ).

غرناطة تاريخ حاضر
غرناطة هي عاصمة الحكم في عصر ملوك الطوائف لبني زيري في القرن الـ11 الميلاد، ثم حكمها المرابطون بعد توحيد الأندلس عام 1090، وبعدها صارت تحت حكم بني نصر تحديدا بين القرنين الـ13 والـ15 أي ما بين (629-897 هـ/ 1232-1492م)، وخلال حكم بني الأحمر كان بها 137 مسجدًا حتى سلمها الملك محمد الـثاني عشر الملقب بأبي عبد الله الصغير للملوك الكاثوليك بعد حصار خانق دام 9 أشهر سبقته عدة معارك طاحنة من 1482 إلى 1492، حقنا للدماء.

وتعد غرناطة من أشهر المدن الأثرية والمصنفة كتراث عالمي، ولهذا فإن السياحة في هذه المدينة تشكل موردا اقتصاديا هاما للسكان، فضلا عن الزراعة التقليدية لخصوبة المنطقة التي تزخر بحقول الفواكه الطازجة ومنها الرمان.

أين تقع غرناطة؟
تقع مدينة غرناطة في جنوب شبه الجزيرة الأيبيرية، على سفح سلسلة جبال “سييرا نيفادا”، على ارتفاع 738 مترا عن سطح البحر، وتلتقي بها ثلاثة أنهار “الشنيل”، “بييرو” و “الدارو”، مما يجعل المياه وافرة بها، والحظي بمناخ متوسطي، صيف حار وشتاء ماطر.
أصل التسمية
غرناطة أو أغرناطة هو ترجمة للكلمة اللاتينية (ڤراناتوم) (Granatum ) بمعنى الرمانة، وورد في معجم ياقوت أنه نسبة لكلمة أندلسية الأصل وهي (ڤرانادا) (Granada) وسميت كذلك لجمال المنطقة وغلبة اللون الحمر عليها.

وتشير بعض المصادر أن تسميتها تعود لموقع انشائها الذي كان أول موضع زرع فيه الرمان القادم من شمال إفريقيا، كما يقال أن انقسامها على التلين وتوضع منازلها على الجانبين له شبه كبير بالرمانة المقسومة نصفين والتي يصبغها عادة اللون الأحمر، ومازالت تلك الحمرة البهية تكسو المعالم الأثرية بغرناطة.

قصر الحمراء..فن..شرف وبهاء
“قصر الحمراء” معلم تاريخي حضاري سياحي، يعد قبلة للزوار الأجانب ومن أكثر الأماكن زيارة من قبل السكان المحليين في اسبانيا.
أما عن تسمية القصر بالحمراء فالغالب أنه لدولة بني الأحمر، ولو أن هناك من ينسبون التسمية إلى لون تربة الأرض المشيد عليها البناء والضارب للحمرة.
ويعد القصر وما جاوره موقعا أثري، إذ يحظى الصرح معماري الفخم الذي شيده الملك أبو عبد الله محمد الأول الملقب بـ”ابن الأحمر”في النصف الثاني من القرن العاشر للميلاد بمكانة مميزة على قائمة التراث العالمي.

ودام بناؤه حوالي القرن والنصف، ليكون تحفة فنية مزخرفة بأشكال هندسية متداخلة ونقوش دقيقة للفظ التوحيد فضلا عن آيات قرآنية كريمة.




تتزين باحات القصر بالحدائق الغناء والنوافير المائية الجارية والأحواض حيث تشكل مصدرا هاما للحياة، فقد اهتم المسلمون بالزراعة دوما فلا تخلو مساكنهم من أشجار الفواكه ومختلف أنواع الأزهار ونبات الزينة فضلا عن الأعشاب الطبية.
هناك عدة مرافق في القصر من أجل حياة متكاملة، فتم توفير أماكن مجهزة لأداء النشاطات اليومية وأخرى للعبادة وهذا ما يظهر في بيوهع الوضوء داخل كنيسة ” القديسة مريم” أو “سانتا ماريا” التي هي في الأصل مسجد تم تحويله.

قصر جنة العريف
“جنة العريف”أو ” Alcazar Genil ” وصفها لسان الدين ابن الخطيب في كتابه “الإحاطة في أخبار غرناطة” على أنها واحدة من بين سبعة عشر بستان تنتمي للتراث الملكي، بها أشجار كثيفة تمتد ظلالها وتحول دون أن انسلال أشعة الشمس، هعخللها مياه نقية صافية تتدفق بعذوبة.
و تقع جنة العريف على مقربة من قصر الحمراء في سفح”ربوة الشمس”،تنبع منها الأنهار والوديان تعزز شروط الحياة في جنبات المدينة، وقد كانت جنة العريف الهادئة ملاذا للملوك والأمراء لينعموا بالراحة والسكينة.
أنشئت “جنة العريف” في عهد حكم بني الأحمر على يد السلطان محمد الثانى (1273 – 1302)، و في عام 1319 قام أبو الوليد إسماعيل الأول بإعادة تهيئتها حيث حكم غرناطة ما بين (1314-1325 )م .



وفي الأندلس ككل يوجد مصلى في كل ركن والأمر لا يختلف في قصر العريف حيث خصصت به مصليات ما زالت محاريبها قائمة كحال المآذن الشاهقة في ربوع غرناطة التي ما زالت تحن لرفع نداء الصلاة.


قباب شامخة وحنين المآذن
بعد سقوط الأندلس، تم هدم عدد كبير من المساجد وتحويل بعضها إلى كنائس برفع الصلبان في محارب التوحيد، وقد عانى المسلمون لقرون من الاضطهاد والتهميش، وبفضل الله ومنته تم إنشاء “مسجد الجامع” بمدينة غرناطة في حى البيازين الأعلى، وافتتح رسميا برفع آذان الظهر يوم الثلاثاء 28 من شهر جويلية/ يوليو 2003م.
يطل المسجد على قصر الحمراء، وبتألف من ثلاثة مرافق وهي المصلى، الباحة (الحديقة والساحة) والمركز الإسلامى.




لم يكن بناء المسجد الجامع سهلا في ظل الحملات الشرسة على الإسلام والمسلمين في أوروبا وتذكية ظاهرة الإسلاموفيا، لكن الله أبى إلا أن يتم نوره، فبعد شراء قطعة أرض فلاحية تتواجد بين دير وكنيسة عام 1980م أصدر مجلس المدينة قرار بحظر بناء المباني الدينية عليها، بتخصيصها للمنشآت السكنية فحسب منعا لإقامة مسجد عليها.وبعد نضال طويل تمت الموافقة على إنشاء هذا الصرح الإسلامي الذي يحتضن بشوق وود مسلمي إسبانيا، ولم يختلف تصميم المسجد الجديد عن سابقيه حيث يشابه مسجد بمرافقه الرخامية والمزينة بأحجار الموزاييك بين الأشجار والنباتات المخضرة .
مساجد، قصور وحدائق كلها آثار تستقطب السياح من كل أنحاء العالم لأجل الوقوف على أنوار الحضار الإسلامية المشعة في أوروبا من زمن العصور الذهبية للمسلمين المهرة المبدعين.

يتقدم موقع معين المعرفة بالشكر والتقدير لكل من أندريا، جافيي و كونسويلو من اسبانيا لمساهمتهم القيمة في إنجاز هذا العمل.
التعليقات