تقديم
كثيرا ما يتعرض الإنسان لمواقف صعبة قد يتحرج من الرد أو الرفض أو حتى مجرد الإنكار، فيجد نفسه مقيدا وتحت سيطرة الآخرين، وعليه فهو يحتاج إلى التصرف بحكمة وإيجاد مخرج مناسب بأقل ضرر، ومن ذلك إتقان فنون الأخذ والرد والإلمام بأساليب الحديث مع سرعة البديهة كما كان حال العرب قديما.
فنون الرد عند العرب
اشتهر العرب بالفطنة والذكاء والنباهة، وكثير منهم يتقن فن الرد وحسن التصرف للتخلص من المآزق، وقد تميز الخطباء والأدباء والشعراء بتطور مهاراتهم في هذا المجال وسرعة ردهم لسعة معرفتهم وجاهزيتهم للمواقف العصيبة واختيار ردود قوية ومقنعة.
ومن أمثلة ذلك أن فصيح مضر خالد بن صفوان قال: رأيت رجلا شتم عمرو بن عبيد -يرحمه الله- فما ترك شيئا.
فلما سكت عن الشتم، التفت إليه عمرو وقال: آجرك الله على الصواب، وغفر لك الخطأ، وما زاد.
قال خالد: فما حسدت أحدا حسدي له على حلمه ورده.
ووقف إياس بن معاوية يوما بين يدي قاضي دمشق وخصمه رجل كبير، فعنف القاضي إياسَ وأمره بالسكوت، فقال إياسُ: فمن ينطِقُ بِحُجْتي؟، قال القاضي: إنه رجل كبير، رد إياس: الحقُ أكبرُ منه، فقال القاضي: ما أراكَ تقولُ حقًا!، قال إياس: لا إله إلا الله، أحقٌ هذا أم باطل؟.
وأراد رجل إحراج الشاعر أبو الطيب المتنبي فقال له: رأيتك من بعيد فظننتك امرأة، رد عليه المتنبي: وأنا رأيتك من بعيد فظننتك رجلا!.
وفيما يلي فيديو جميل يجمع أجمل القصص من فنون الرد بلغة رقية وسرد ممتع:
يمكن ملاحظة أهمية هذه الردود وأثرها على الفرد والمجتمع أيضا، وعليه يجب تدريب النفس والعقل على التأقلم مع المواقف وإثراء الرصيد اللغوي والفكري بما يمكن استعماله وقت الحاجة.
قواعد أساسية للرد بقوة ولباقة
أساسيات التصرف الصحيح لإيجاد رد مناسب من غير صدام أو مشاحنة هي:
- يجب السيطرة على الحالة النفسية وتجاوز مرحلة الشعور بالاحراج أو الخجل أو الخوف، فأي اضطراب يجعل الانسان في موقف ضعف وقد يتفوه بما قد يندم عليه لاحقا، أو ما قد يجعله هو نفسه يتأذى.
- تمالك الأعصاب والمحافظة على الهدوء نقاط قوة تضع حدا للآخرين، تجعلهم يرتبكون بل ويتراجعون إن كان هدفهم الإساءة أو التقليل من شأن الغير.
- من الأفضل إظهار عدم التفاجئ بالكلام وإن كان قاسيا أو جارحا فإن ذلك يجعل المسيء يغتاظ، ومن الجيد الاستدلال عليه بقول الرسول صلى الله عليه وسلم:” ومَنْ كانَ يُؤمنُ باللَّهِ واليومِ الآخرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُت” (رواه بخاري ومسلم).
- التدريب على تقوية الشخصية وذلك باستحضار البديهة وإعمال الذكاء وأسلوب الإقناع، يعني إيجاد الرد السريع والمفاجأة به.
- في حالة العجز عن الكلام واستحضار ألفاظ مناسبة يمكن اللجوء لاستعمال لغة إيحائية، مثل إظهار التعجب والاستنكار بفتح العيون والتحديق مباشرة في عين الآخر أو تقطيب الحاجبين مع ابتسامة خفيفة قصد تهوين الأمر.
- تحويل الموقف الجدي إلى موقف سخرية ولكن من غير سماجة أو انتهاك خصوصية الغير وإيذائهم، كالتهكم على الشكل أو الخلقة مثلا.
- في حالة التطاول والمساس بالمقدسات أو تخطي المحظور، يجب الرد بحزم ووضع حد للكلام، لقوله تعالى:” وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا” ( سورة النساء/ الآية140).
- وأفضل ما يجب التحلي به هو الحِلْم لأنه يكسب المرء هبة ووقارا ومكانة لاتنال لا بالمال ولا بالجاه، وأصدق مثال على ذلك حلم قيس بن الأحنف حيث قيل أن رجلا خاصمه وقال: لئن قلت واحدة لتسمعن عشرا، فقال: لكنك إن قلت عشرا لم تسمع واحدة، فهذا رد مفحم لكنه راق ولبق.
- ويجب على الإنسان أن يتذكر دائما أنه عبد لله ويقدم خشيته على الانتصار لنفسه بالباطل أو التعدي على الحقوق ولو وجد في ذلك لذة، فمن ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه.
تقنية الرد المبهم
غالبا ما لا يرغب الإنسان في الرد على بعض الأسئلة المحرجة أو التي تكون بدافع الفضول والتطفل على الحياة الشخصية وغيرها، وما له من سبيل إلى الكذب فمساوؤه كثيرة وهو محرم في المقام الأول، وعليه من الأنسب البحث عن جواب مبهم، فظاهره إجابة عن الاستفسار وحقيقته أنه من غير تأكيد أو نفي، وقد يقال عنه أحيانا جواب دبلوماسي أي يكون لبقا لكنه لا يوفر أية معلومة ويعمل على حلحلة الوضع فقط.
مثلا: إذا سأل أحدهم عن الراتب بقوله: كم راتبك؟ الإجابة الأنسب: بقدر ما يكفيني لضروريات الحياة، كما يمكن الرد عليه بالقول : أظنه يقارب راتبك والاختلاف في بعض الفواصل فحسب، أو بطرح سؤال مضاد: وماذا عن راتبك؟، وبهذا يكون تجنب الصدام أو الفضاضة مع عدم إعطاء إجابة مقنعة.
أما الرد بقسوة وتجاوز حدود الأدب بألفاظ مخالفة، فهذا يعني الانحدار إلى مستوى أقل، ويتساوى الجميع في الدونية وإن كان البعض يعيب ذلك ويقدم عليه، إذ يجب الترفع وعدم قبول مشاركة من هو أحقر في خلق ذميم خاصة أن البديل موجود، وفي سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم مواقف عطرة في حسن الرد والتعامل الطيب ومنها ما جعل الكافر يسلم، واليهودي يذعن والجاهل يقر والعالم يعجب، والعدو يُقَدِر ويتراجع.