حكم و أقوال فى الحياة

لحظة الشعور بالغيرة

لحظة الشعور بالغيرة 1

الغيرة شعور فطري قد يظهر بصفة لا إرادية لدى الأفراد، في أي زمان ومكان، وبين المذموم منها والمحمود تختلف المواقف وتتباين الآراء من التوجس والتوجع إلى التحفيز والهمة.

وعن تجربة وجدت أن الغيرة إحساس رهيب مختلف عن ما كنت أشهده من حولي من فشل واكتئاب وكيد وعداء لأني بعد كل لحظة غيرة وإحباط أجد دافعا للغبطة.

أذكر في صغري موقفا ما زلت أتذكره كأنه حدث بالأمس، وكان ذلك عندما ذهبت لصلاة الجمعة في مسجد أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- وهو مسجد بعيد عن منزلي لهذا لم أكن أقصده إلا نادرا بصحبة الكبار، وعند انقضاء الصلاة رأيت مجموعة من الفتيات يتحلقن حول سيدة وقورة لتدارس القرآن وبقيت أنظر إليهن وكأني أستشير المعلمة بالانضمام، فبادلتني النضرات ودعتني لمشاركتهن، كانت فرحتي كبيرة، وطلبت مني قراءة بعض الآيات وفعلت وقالت:” جيد الآن نستخرج الأحكام”، وبدأت بالأسئلة، تبارك الرحمن على هاتيك البنات كن يجبن الواحدة تلوى الأخرى إجابات دقيقة وسريعة وهو ما عجزت عنه، فرغم أن قراءتي كانت بالأحكام إلا اني لم أكن أعرف استخراجها بالأسماء الصحيحة، وهذا لأن حفظي بالتلقين مباشرة لم يكن بالتعليم والتطبيق، والأذن السماعية في الطفولة تلتقط الكلمات بدقة، وما كنت أعرف سوى أنواع المدود، لحظتها شعرت بغيرة مريرة، كيف حرمت أن أكون مثل هاتيك الصغيرات، تأسفت لما فاتني من حضور  إلى مثل هذه المجالس ونيل كل تلك الدرر الثمينة، وأخذت الغيرة تدفعني لحضور حلقات المعلمة آسيا –حفظها الله- (والتي تخرجت وصارت طبيبة) والبحث عن من يصطحبني ولو بإلحاح حتى أنال من هذا الخير العظيم.

إقرأ أيضا:وا شوقاه إليك يا أبي..

ومرة التقيت بشابة في مركز امتحان رسمي، كانت ترتدي زيا شرعيا ساترا ميزها عن البقية وعلامات الحياء بادية عليها، عجبت كيف تقربت مني رغم أنها لا تعرفني، وقد تعاطفت معها كثيرا لما يظهر عليها من فقر، فملابسها قديمة ولكنها نظيفة وحقيبة يدها وحذاؤها كلها أشياء تبين مدى عوزها، فبدأت الحديث معها بلطف في محاولة لجعلها لا تشعر بالفارق المادي مع من حولها، وبعد انتهاء الاختبار وجدتها في ساحة المركز تبحث عني وما إن رأتني حتى سارعت إلي بسعادة، كنت أرى السرور في عينها وأخبرتني أنها لا تدري إن كانت التقتني من ذي قبل ولكنها تشعر أنها تعرفني جيدا، فتجاذبنات أطراف الحديث، وبثقة أسرت لي أنهم كانوا من ملاك الأراضي في منطقة المدية ولكن ظروف العشرية السوداء دفعت بهم للنزوح إلى العاصمة، مما قلب حياتهم رأسا على عقب، فحاولت التخفيف عنها فوجدتها غير ما كنت أتوقع، لقد كانت راضية كل الرضا عن وضعها وقامت بموقف جعلني أشعر بحجمي الصغير أمام عظمة قناعتها، أخذت يدي وربتت على كتفي ونظرت في عيني وقالت :” هوني عليك الأمر لا يستحق.. فمصيبة المرء في دينه، والحمد لله الذي وفقنا لحفظه”، نعم وهو كذلك مصيبة المرء الحقيقية هو فقدان دينه، فالمال والصحة والجمال وغيره رزق يساق للمسلم والكافر لكن الإيمان لا يناله إلا كل ذي حظ، فلو لم تكن هذه الأرزاق هينة لما منحها الله للكافر في حين حرم من الرزق القيم، لحظتها شعرت بغيرة كبيرة، لأني غفلت عن أعظم مصيبة وقدمت عليها مصيبة الفقر، غرت من الشابة بديعة التي أبدعت في تعليمي أحد أهم دروس الحياة، وأدركت أن العين تخطئ إن لم يقوّم البصر بالبصيرة الحقة، فأي مصاب في الدنيا ومهما بلغ لن يكون أشد من مصيبة الدين وذاك البلاء الأعظم.

إقرأ أيضا:هوس التسجيل والتصوير في عصر الرقميات

ما دفعني للكتابة عن الغيرة الآن هو حادثة لم تستغرق بضع دقائق لكنها هيجت غيرتي من حيث لا أدري، إذ كنت أمشي في الطريق، وسمعت شابة كانت تمشي أمامي تنادي:” أبي ..أبي” استوقفني النداء فهذه الكلمة عزيزة علي، وإذا بي أرى في الرصيف المقابل رجلا يلوح للشابة”، ومن فوره قطع الطريق فهرعت إليه بكل ود سلمت عليه واحتضنها ورأيت الابتسامة على وجهيهما – اللهم بارك وزدهما- لقد كان الموقف ذاته الذي عشته مع أبي منذ ما يقارب الثلاث سنين، وسبحان الله في المكان ذاته وكأن الزمن أعاد نفسه والحدث يتكرر لكن الوجود تغيرت، لحظتها شعرت بالغيرة وملأني الحنين لحضن أبي الدافي وابتسامته الرائعة، وفي محاولة بائسة كنت أقاسم الفتاة إحساسها وأختلس من نظرات أبيها ذكرى نظرات أبي -أكرم الله مثواه-

إقرأ أيضا:عبرة من حبة خردل

حاولت مرارا تجاهل شعور الغيرة أو تفاديه وتجاهله لكنه يعود في كل مرة ألتقي التقاة الأنقياء الأصفياء وأرى ضآلة نفسي أمام عظمة هممهم وإنجازاتهم، وأغار بشدة من رؤية المسلمين الجدد ويقينهم وكيف يفرون بدينهم من الغرب وشبابنا وشيبنا يركبون قوارب الموت للذهاب إلى هناك، أموت غيرة لحظة إبحاري في الكتب والآثار وغوصي في عمق التاريخ وتعرفي على الإنسان الحقيقي بإنسانيته، زمن كان الرجل رجلا والمرأة مرأة بحق في بيئة حية يرقق بها ماء الوجه برفعة وشرف، بمكارم الأخلاق والمروءة، أغار وأغار وأدعو الله دوما أن يجعلها غيرة محمودة بعيدة عن الحسد واستبطاء النعم أو استقلالها، لأدرك أن الغيرة رزق أيضا ويمكن إنفاقها لتحسين الكفاءة النفسية والجسدية والتطوير المستمر للقيم والمكتسبات.

السابق
بلاغة تشبيه التمثيل في القرآن الكريم ووظيفته الإقناعية
التالي
الحمامة والسنداوة الشقراء
مقالات تهمك

اترك تعليقاً