متاهة ما بين دروب الحياة

متاهة ما بين دروب الحياة
بين عود الدرج ونزوله وبعد رحلات من الداب والإياب لتحصيل شهادة الإجازة، شعرت بسعادة لا توصف، ظننت أن جميع الأبواب ستفتح في وجهي، حضرت ملف ترشحي لاجتياز مسابقة الدخول لتحضير الماستر، ثم بحثت عن عمل مؤقت لكسب بعض المال كي أتمكن من إكمال دراستي.
كنت أستيقظ صباحا ومن الساعات الأولى أجوب شوارع مدينتي باحثة عن لقمة عيش، وبعد بحث مضن أعود إلى المنزل مجهدة خاوية الوفاض.
توالت الأيام وتتابعت الأحداث، إلى أن جاء اليوم الذي اتصل بي أخي يخبرني أن مكتبا للمحاماة يبحث عن مساعدة لتعمل فيه.
بكل حماس اتجهت إلى ذلك المكتب، وفور وصولي ، وبعدما ألقيت التحية وسألت عن نوع الوظيفة كانت المفاجأة : سأشتغل كاتبة ومنظفة ومراقبة ومسؤولة عن المكتب بثمن زهيد وإن شئت فقل : بثمن بخس دراهم معدودات …
أحسست بغصة كبيرة في حلقي ، تيبست شفتاي ، واغرورقت عيناي ، سنوات وأنا أدرس بجد واجتهاد ؛ طامعة في الحصول على وظيفة كريمة تنسيني سنوات من بؤس مضت، أيعقل أن تكون هذه مكافأتي ؟ أحسست بأن أحلامي تتبخر أمامي وأنا أشاهدها ذاهلة لا أملك غير دموع أذرفها حزنا وحسرة ..
وبعد تردد كبير، لم يكن باليد من حيلة،  لم يكن أمامي غير الاستسلام والموافقة ، على الأقل شيء قليل خير من لاشيء ..
في اليوم التالي باشرت عملي، حملت المكنسة ونظفت أرضية المكتب بدموعي التي كانت تأبى التوقف رغم كل محاولاتي .
صرت أرى الحياة بلون واحد ، فبعدما كانت وردية ، زاهية الألوان ، صارت سوداء كالحة السواد ..
أكفكف دموعي جاهدة ، وبابتسامة صفراء مزيفة ، أستقبل زبناء المكتب ..
كنت أستمع لشكواهم وتذمرهم وأحيانا شتائمهم وما يعانونه من مصاعب في مجاراة ملفاتهم …أخذت إذن المحامي  بأنني لدي مباراة الماستر وعلي الذهاب لإجرائها، أجاب بالنفي، ولحسن حظي كانت عن بعد، اجتزتها في المكتب، بعد صدور النتائج كان إسمي ضمن لائحة الناجحين النهائية، فرحت فرحا شديدا، وتهللت أساريري ، واستنار وجهي الشاحب حتى صار من الفرحة كأنه القمر ليلة البدر ، فرحة انتبه لها كل من رآني ، فكنت أجيبهم عن سؤالهم بابتسامة عريضة : لقد نجحت …
بعد مرور السنة الأولى، توفقت فيها، قلت في نفسي علي أن أبحث عن عمل ريثما تبدأ السنة الثانية ، كانت عطلتي الصيفية ليست إجازة للترفيه والسفر بل عبارة عن مباراة أخرى في الحياة ، مباراة أشد وأقسى من مباريات الدراسة ..
بعد بحث شاق ومتعب ، وجدت أخيرا معملا للخياطة، وبعد ما سألني صاحبه عن تجربتي، سردت له تجاربي منذ سنوات، لم أذكر له جانب الدراسة، لأنها نقطة سوداء في عيون أرباب المعامل ،  لا أدري أهو حقد أم شيئ آخرَ ..لست أدري! كل ما عرفته أنهم يكرهون الإنسان المثقف ، لا يريدونه عندهم وبين عمالهم ..
حملت معي مقصا صغيرا ووزرة بيضاء كنت قد احتفظت بها لهذا الغرض، قضيت ست ساعات متواصلة من العمل،
تورمت فيها قدماي ، وتقوس فيها ظهري ، حاولت أن أجلس على حافة المائدة ثم أتمم العمل، ولكن المسؤولة عن ذلك رفضت ، بعدها نعتتني بأقذع الألفاظ وأقبح الكلمات …
 تذكرت عزة نفسي علي ،  وعرفت أن تلك المسؤولة هي أحق بتلك الكلمات والأوصاف مني ، فقلت لها بكل شجاعة :  هنيئا لك الشقاء أيتها الأفعى الرقطاء ، ثم حملت أغراضي، وعدت أدراجي أجر ذيل الخيبة،ولكنها خيبة بطعم الانتصار لنفسٍ تأبى الضيم ، عدت نعم ، لكن دفاعا عن عزة نفس أبية ، ودفاعا عن كرامة من أن تُهان أو تداس …
 دخلت المنزل، ألقيت بجسدي المنهك على سريري  واستسلمت لنوم عميق ، لم أستيقظ منه إلا وآذان العشاء يملأ الأرجاء ويصل الأرض بالسماء ، لا أدري كم نمت ، لكنها كانت ساعات طويلة بكل تأكيد .. توضأت وصليت ما فاتني من صلوات ، ثم عدت إلى النوم حتى الصباح ،
 وفي الصباح ذهبت إلى الكلية لحضور آخر ندوة في آخر السنة الدراسية، وبعد الانتهاء حصلت على شهادة المشاركة، ثم غادرت الكلية عائدة إلى المنزل من جديد .
ذات صباح يوم مشرق،  خرجت كما العادة للبحث عن عمل، وأخيرا وجدت معملا يصنعون فيه الحلويات والمثلجات، بدأت العمل فيه منذ ذلك الحين، أيضا لم أسلم من توالي الضربات المفجعة من السيدة التي تديره، ولكن ثمة شيء في داخلي يجعلني أخيط من الصبر المعجزات، فبعد الانتهاء من العمل، تأمرني بالتنظيف، ثم تنظيف أدراج منزلها، بعد متم ذلك الشهر، حصلت على ثمن بخس، لن يكفيني في الكراء ولا مصاريف العيش.
وجدتني من جديد أبحث عن عمل آخر، هذه المرة اشتغلت منظفة في مطبخ المقهى…
 في المقاهي عالم آخر من الحياة، مغاير لحياة المعامل، كنت أثني ركبتي وأنظف الأرضية وصاحب المقهى يتلذذ بالنظر إلي، كنت أنظف ودموعي كالأنهار تجري كالأنهار حتى حفرت كالأخاديد على وجهي ، فاستحالت نضارته وإشراقته ذبولا وتيبسا لا يخفى على ناظر ينظر إليه ،  أهذه هي المناصب التي كنت أحلم بها ؟ أهذه هي الأحلام التي كنت أنسجها خيطا خيطا كما ينسج العنكبوت بيته ؟ أيعقل أن يكون مصيري المكنسة والتنظيف؟ مادور الفصول التي أرصدها بميزة؟ بماذا نفعني التميز في الوحدات الدراسية مقابل المكنسة والأواني؟
عندما كنت أعمل نهارا، كنت أبيت أذاكر إلى أن أغفو ويغفو الحزن الذي بداخلي، وعندما أعمل ليلا، كنت أذاكر نهارا الى أن انتهت العطلة الصيفية.
ابتدأت السنة الدراسية الثانية ، غادرت ذلك المقهى ، وأقسمت أن أدرس بجد، بدرجة قصوى، أقصى من الدرجة التي كنت أدرس بها، تمكنت من اجتياز مباراة التعليم بنجاح، أذكر عند ولوجي للمركز الجهوي للتربية والتعليم كم ذرفت من دموع الفرح والسرور، ارتديت الورزة وكلي فخر واعتزاز، قلت في نفسي أنا فتاة عصامية، لابد  أن أكون أستاذة عصامية أيضا.
بعد مرور أشهر قليلة، بدأ الضغط يتسرب إلي، شعرت بإرهاق شديد، وكدت أن أنسحب من الفصل الأخير من الماستر، ولكن طنين الذكريات الحزينة  كان يصرخ في دواخلي حاثا إياي على البقاء والاستمرار  ، تذكرت المحطات العسيرة التي قطعتها، ثم بدأت أنجز بحثي، في الصباح كنت أحضر الحصص، وفي المساء أنجز العروض والورشات، وأما  الليل؛ فكنت أقضيه في إنجاز البحث حتى تمكنت من إنجازه في الوقت المحدد…
العمل الشاق لايضر، طالما هو شريف، إنه محطة تدريبية فعالة في حياة كل طالب، يجعل من فكره ذهبا ويكون له كالوقود ، يذكي ويغذي النار المستعرة في دواخله ، نار التحدي والإصرار على التفوق والتألق والنجاح ….
 فيمضي متحديا كل الصعاب ، وبين عينيه الحكمة المشهورة  ” إن الذهب لا يعرف إلا بالحرق بالنار ” .. وبين الألم والأمل ها أنا أواصل الاستيقاظ مبكرا والسعي قدما وثقتي بالله كبيرة أنه يحتفظ لي بما هو أفضل..

104 مشاهدة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!