الزهراء ..آثار وأصداء
سلسلة من آثار قصور فخمة وعمارة راقية تحدت أساساتها ضراوة الطبيعة ولم تستسلم لوطأة الزمن، ما زالت لليوم تحتفظ بشذرات ذكرى العتق والانشراح، وتفتح أحضانها لكل وافد يبحث عن إنجازات العظماء على أراضي أوروبا الغربية، أين تتراءى العظمة والجمال جنبا إلى جنب، وتختصر ما تحمله من صور وآثار وأحاسيس موحدة على عقيدة التوحيد من عهد الفاتحين في مراقي مدينة الزهراء الموسومة بحروف عربية مزخرفة بإتقان لتظل شاهدة أن الحضارة بكل مقاييسها عمرت هنا ولم تمت، تنبعث منها أعرق الأصداء لتملأ الأرجاء.
الزهراء أبهى المدن
تقع مدينة الزهراء على بعد 6 كيلومترات غرب مدينة قرطبة، شيدت لتكون عاصمة الخلافة في عهد عبد الرحمن الثالث الملقب بالنَّاصر لدين الله وهو ثامن خلفاء بني أمية (الدولة الأموية) في الأندلس، تم البناء ما بين (936 و 940)م في سفوح جبل الشارات (سييرا مورينا) المطلة على أو النهر الكبير الذي يجري في منطقة الأندلس ويصب في المحيط الأطلسي غربي مضيق جبل طارق.
أطلق الخليفة اسم “الزهراء” على المدينة الناشئة تيمنا بالزهور، وتمنيا أن تكون مزهرة ومزدهرة مشرقة وضيئة، أما الروايات التي تشير إلى أنه اسم جارية محظية عند الخليفة أو أنه اسم زوجته فلا دليل لها، ولم يرد هذا الاسم في قائمة النساء اللواتي عشن مع الخليفة.
تم تصميم المدينة لتعمل كمركز إداري للبلاد، فضمت القادة وعوائلهم مع عدد كبير من القوات والسكان، فنالت المباني الفخمة للشخصيات الهامة المساحة العليا، وضمت مرافق مجهزة للعيش برفاه، وعدد من الفضاءات مفتوحة مثل الأفنية والنوافير.
جلبت مواد بناء الزهراء من مدينة قرطاجنة (تونس)، وأنشئت على أرضية مستطيلة الشكل بمساحة 1500 متر في 750 متر بتصميم مثمن الأضلاع، قسمت إلى ثلاث مناطق تفصل بينها أسوار محيطة بالأبنية، كما تحتوي على شبكة واسعة لإمدادات المياه، وقنوات الصرف الصحي.
هندسة معمارية مذهلة ما زالت تحتفظ بأسماء الفنانين المهرة الذين أبدعوا في التعمير وتركوا أسماءهم العربية بمعانيها العميقة مدونة عليها مثل: فتح، نصر وطارق.
بحلول عام 945م تم بناء القصر الملكي على أعلى مستوى في المدينة برؤية استشرافية شاملة، في حين لم يستكمل إنشاء الجزء المتبقي من المدينة مع إعادة تشييد بعض الأبنية إلى غاية 980م.
مركز المدينة هو جناح استقبال الخليفة عبد الرحمن الثالث، ويضم أروقة ممتدة، أساسها أعمدة رخامية ملونة بالأزرق والوردي تناوبا، وتم إضفاء الطابع الرسمي للرقعة الجغرافية بنصب أقواس على شكل حدوة حصان.
في الأسفل بني مسجد ذو مخطط عربي، بخمس بلاطات متعامدة مع القبلة، وهو الجامع الرئيسي، وهناك المنازل، والحمامات والحدائق الكبيرة.
المدينة الراقية كانت محاطة بسور حصين يمنحها خصوصية الحماية، وعبر طريق الوفود من قرطبة أقيمت دار الجند، وهي مبنى ضخم مصمم بزخارف متنوعة.
كان فن العمارة في مدينة الزهراء نموذجيا بزخارف شكلية ولغوية احتوت مضامين راقية، فبين الزهور والنباتات والأشكال الهندسية، انسلت إضاءات لآيات قرآنية عظيمة، وإشراقات حكم أصيلة، كتبت بحروف عربية لخطوط متنوعة، كنموذج آخر لقصر الخلاقة الأموي في دمشق.
زوال المدينة الملكية
توفي الخليفة عبد الرحمن الثالث عام 961م وخلفه ابنه الحكم الثاني حتى عام 976م، وخلال هذه المدة تم توسيع مجمع القصر ليصير أكبر وأجمل، ولكن بعد وفاته بفترة وجيزة بدأ نجم الزهراء في الأفول، وتم عزل المدينة ونقل كل ما هو هام منها بعد اعتلاء الخليفة هشام المؤيد الحكم وتغلب الوزير محمد بن أبي عامر عليه وتعطيله عن الخلافة، ثم قام الخليفة المنصور بن أبي عامر باقتفاء أثر الخليفة عبد الرحمن الناصر وشرع في بناء مدينة خاصة به سنة 368 ه/978 م وسماها الزاهرة خلفا للمدينة الملكية الزهراء التي لم تزدهر سوى 40 عاما، لتضيق بأسوارها على الخليفة الأسير وأهله إلى أن طالها النهب والتدمير لتتحول لمدينة أشباح خاوية.
اندثرت المعالم التاريخية للمدينة، وتم بيع ما تبقَّى فيها من أنابيب الرصاص وآلات الحديد، وبقايا القصور لكبار تجار قرطبة، وجُمعت التيجان والأثريات المرمرية المنزوعة من الجدران ولوحات الرخام والعاج والبلور واللوحات الخشبية ومصاريع الأبواب للاتجار بها، فأقبل ملوك الطوائف والأثرياء في الأندلس على شرائها، واستخدمت في وأُعيد استخدمت في قصور بني عبَّاد في إشبيلية، وعمران بني ذي النون في طليطلة، وما تبقى من الزهراء إلا ذكرى طيبة دفنت أساساتها لاتحت الردم.
عودة المدينة المفقود
دفنت آثار مدينة الزهراء طويلا لكن جزءا منها عاد للظهور مجددا عام 1910، ونقلت بعض قطعها الأثرية لتعرض في قصر الحمراء بغرناطة، لاسيما حوض السقي المزخرف.
ففي عام 1911م، تواصلت الأشغال للبحث عن آثار المدينة المفقودة، واستمر التنقيب عن مكنونات الأرض المحفوطة، وحُفر ما يقرب من ثلث المدينة، وجُمعت بعض أعمدتها، واُعيد ترتيب النقوش.
تم إعلان مدينة الزهراء ضمن مواقع التراث العالمي لليونسكو في 1 يوليو 2018.
تتواصل عمليات الحفر البحثية على أمل اكتشاف المزيد من المعالم، وكشف أسرار أخرى مستقبلا للتعرف أكثر على مدينة حضارية ملكية راقية عجزت أعرق المدن وأكبرها عن مجاراة ازدهارها وما بلغته من رقي وتقدم.