غير بعيد عن مقهى “الناقوس”، يجلس “المدني” مضطربا حزينا على كرسي خشبي وسط قارعة الرصيف المحاذي لمقهى “الميزان” يراقب الشارع والمارة و”الشادة والفادة”، ويتحول بين الفينة والأخرى لاقتفاء سلوك لقلاق حط مؤخرا على جهاز دفع صبيب شبكة شركة متخصصة في مجال الاتصال والانترنت وهو يزود لقلاقة متغنجة بما لذ وطاب من قوارض وحشرات الحي.
يتوقع “المدني” وهو يتضور حنقا وغضبا حجم الأذى الذي سيطاله من قرار تمديد الحكومة لحالة الطوارئ والحجر الصحي، ومنع التنقل والتجول وإغلاق المقاهي وكل مرادفات قطع الأرزاق، تجارته تكاد تبور، وكل زبائنه توقفوا عن التردد على محله الكائن بمنطقة “النجارين”.
يقبع وهو مصلح الساعات الأشهر بدائرة القرويين لساعات طوال بمقهاه المعتاد، تلتصق خلالها مؤخرته الضامرة بخشب الكرسي المتهالك، ويهيم مقتفيا مؤخرات خبر أسماء مالكاتهن حتى دون أن يلقي طيف إطلالة على سحناتهن، بطاقة تعريف جديدة أبدع وأصدقاؤه المتلصصين في فك شفرات أبعادها البيومترية، وإيجاد الفروق السبعة بين متنافسات الحي في هذا الشكل الجديد من التحدي. يشهد له الجميع أنه راكم خبرة غير مسبوقة في التمييز بين الهزة والهزهزة والاهتزازة، بين التموج والرجة والارتجاجة…
فعل الاشتراك في “الفرجة ” والتلصص الجماعي وتعقب تموجات شحوم النساء والرجال، وحل مسهمات “أبو سلمى” والسودوكو، وتوقع نتيجة الديربي والكلاسيكو يشعر “المدني” وزملاؤه بنوع من التضامن الكاذب والتخلص من ضغوطات الحياة والعمل والأسرة، ويهيم بهم في عوالم من وهم أنس وسعادة مؤقتة وزائفة.
يظهر طيف “المكي” بساعته الذهبية المغشوشة من بين ركاب سيارة أجرة اقتسم مع اثنين آخرين تعرفتها، يهرول صوب المقهى في انصياع إشراطي معتاد، يلقي التحية على “المدني” ويردف:
ـ أغيب عن فاس ستة أشهر، وأعود لأجد عشرات المقاهي وقد أينعت كالفطر، بين المقهى والمقهى تنبث مقهى جديدة، لماذا لا تفكر في تحويل حانوتك الماخور لمقهى؟.
ـ حانوتي يصلح لبيع الساعات والخمر الفاخرين فقط، والمراهقات يعشقن التداري والتجديد. يصمت برهة ثم يستطرد:
ـ ثروة “كتامة” لا تنضب، كما أن تبييض الأموال صار حكرا على تدشين المقاهي الفارهة بقرار من وزير الداخلية الراحل”البصري”. يعلق “المكي” على تسديدة “المدني” الصباحية.
يلقي “المكي” إطلالة سريعة على ساعة يده ويعاتب المدني:
ـ رغم ثمنها الباهض، ميزان ساعتك مغشوش، مرة يقدم دقيقتين ومرة يؤخر ثلاثا.
ـ ميزان الإنسان الحقيقي هو قلبه ولسانه وضميره، الساعة مجرد إكسيسوار، والميزان الحاسم عند الله حين توضع حسناتك وسيئاتك على كفتي الجنة وجهنم.. فيما تضر دقيقيتن أو ثلاثا وأنت تضع ساعة لم يسبق لأحد من أعيان المنطقة أن حضي بشرف رؤيتها ولمسها. يبرر “المدني” بيعه الغرر وتجارته النجش.
نوازع وجدانية متضاربة تلتهم نفسية “صوفيا” كما تطلق على نفسها، أو “الصافية” التي ألهبت حماسة كل أعيان الدرب، ورجال أمن منطقته، وتجاره وحتى فقيه المسجد وهي تترقب عند المحطة وقوف سيارة أجرة بين ردفيها سيقسم سائقها وهو يهرول ليفتح لها الباب على عدم تسلم الأجرة، وعدم إشراك أي راكب نتن مع مقامها العطر.
تتأفف من لحظة عرض شفرة بطاقة تعريفها البيومترية على أعين شاخصة نطت من محجرها وهي تشيع قوامها حتى آخر لحظة تغيب فيها عن الأنظار، تخطط بجدية لاقتناء سيارة أو تغيير مقر سكنها المتواضع بمنطقة “جنان الشامي”، لكن تبعات الحجر حالت دون ظهور “ضحية” قادر على إحداث هذا النوع من التغيير، فاكتفت “الصافية” بضحايا تلتقط منهم مصروف حياتها اليومي.
ـ عشرون سنة.. خمس سنوات من التجديد والعمل الجاد والدؤوب.. أجود أنواع المراهم والعطور.. ولم تحن بعد ساعة الخلاص من هذا العفن..
تتذمر من تضرر مداخيل حرفتها وهي تحشر عجيزتها في سيارة بوجو 205 رفقة أحد زبائنها المخلصين.
يتصاعد دخان كثيف من فضاء مقهى الميزان، ينتشر في كل الأرجاء ويختلط بقهقات متفرقة وطلبات من هنا وقفشات من هناك، وفي ركن قصي من المقهى ينشغل “طه” المعلم المتقاعد بقراءة جريدة يحتكر كل صفحاتها. لا يزال متأثرا بتبعات شجار البارحة مع نصف رواد المقهى بعدما انتزعوا حاملة ملفاته من مدخل جهاز التلفاز وقذفوا بها بعيدا، مستنكرين إغراق المقهى في أغاني تتخذ من كورونا والتوحد والهجرة السرية وأضواء المرور وأطفال الشوارع وجبال الأطلس وطائر اللقلق والمدينة القديمة تيمة لها، صرخ أحد أقوياء المقهى في وجهه:
ـ جئنا لننعم بسويعة طرب وهدوء “السي طه”، وليس من أجل اجتياز امتحان الباكلوريا عند الأستاذ “نعمان لحلو”، دعنا نحترمك قليلا وتوقف عن فرض ذوقك الفاسد علينا.
غير بعيد عنه يجلس حرفيو الحي على طاولات متفرقة يتقاذفون بيادق “الضامة” وأوراق “الكارطة” ويتناوبون على قذف مربع نرد في مشهد يتكرر منذ الأزل، وكأن القوم في لحظة انتظار لا تنتهي. يتصنع “المختار” وهم انتشاء كاذب وهو يرتشف قهوته السوداء المحروقة، ويتابع أطوار مباراة حامية الوطيس للعبة “البلوط” بين عمال نظافة الحي، ينتفض من مكانه ويخبر الجمع حتى دون أن يسأله أحدهم:
ـ لا تنسوا مد المقدم بنسخ من بطاقات تعريفكم، هذه السنة أيضا سينعم علينا “سيدنا” بمعونة رمضان.
ثرثرة تعلو في الأفق، ولغو لا يسمن ولا يغني من جوع، حديث عن الجنس والحجر وكرة القدم والانتخابات والقمار والخيانة الزوجية وإلغاء العمرة، وأباريق الشاي وكؤوس “النص نص” و”السيباري” وسجائر التقسيط تؤثت المجالس.
يخوض “المكي” و”المدني” في نقاش سوفسطائي تافه، يتعالم أحدهما على الآخر وينتصر العناد والتشبث الأعمى على وجهة نظرهما.
تفر فيالق الرجال من تعاسة المنزل، وكآبة المعشر ورتابة العمل صوب سعادة زائفة، يطيل “عبد الجبار” المكوث بالمقهى لآخر رمق، لا يطيق العودة لبيت أحكمت “الباتول” قبضتها على كل تفاصيله، لم يعد يتحمل عنفها اليومي تجاهه، ولم يقدر بعد على الجهر بمآسيه لأحد من أصدقائه برأس اقليعة أو أفراد أسرته بمنطقة عين النقبي، تعوزه الحيلة والقوة لتجاوز هذا المصاب، إدمانه وضمور عضلاته جعل “الباتول” تحكم قبضتها على كل القرارات، كل القرارات…
لا يزال يتردد كلما سنحت له الفرصة على ضريح “سيدي حرازم البارد “، يقبل يد والدته القيمة على المزار، يستغل انشغالها بإعداد كأس شاي منسم بنعناع هياكل الجثت، يستل كعادته أجورة كبيرة من الحائط المطل على مقبرة مسيجة ومحجوزة لأسرة ميسورة لم يتوفى بعد أي من أفرادها، ويتحسس بشغف وأمل كبيرين ميزانا نحاسيا زينته نقوش إيرانية وطلاسيم عبرية، وغطت أسفل قاعدته نجوم سداسية وثمانية، إلى جانب توقيع ذهبي علته حروف لاتينية وحرف ضاد أحاط بكل الوسم، يقبل الميزان وينفض عنه غبارا خفيفا وهو يتمتم:
ـ هذا ما يزيدني تعلقا بك يا رأس قليعة، بل رأس الخيمة، بل رأس الرجاء الصالح…
يصل “المهدي” للمقهى منهكا بعد نصف يوم من حراسة بوابة مؤسسة ثقافية مهجورة، يفك ربطة عنقه، يخرج رجليه من حذاء جلدي عال ويفك أزرار جاكيطة كتب على ظهرها اسم شركة الأمن والنظافة والبستنة المشغلة، بقيت أمامه سويعة قبيل الإغلاق الرسمي للمقهى، يمده “عبد الكريم” نادل مقهى الميزان بقهوته السوداء المعتادة، يتناولها بفرحة طفولية، يحشر جسده المنهك داخل كرسي صار هزازا من كثرة تهالكه هو الآخر، تمتد يده الثانية لهاتفه النقال ويستهل ساعته المعتادة فرارا من ضغط عمل رتيب وإرهاق عمل ورسميات غارقين في الاستعباد.
تباغته “مي هنية” بعلبة مناديل صينية وقطعة شوكولاطة تركية حتى دون أن يبدي رغبته فيهما، يخرج درهمين من جيب سرواله ويدعو لها بالصحة وطول العمر، تبتسم نصف ابتسامة شاحبة وهي تتمتم:
ـ راني عايشة غير مع الجواد بحالك.
على طاولة جلوس أخرى تبعثرت مراجع ومطبوعات، علبة سجائر رخيصة شبه فارغة وولاعة صينية سريعة التلف، تساءل “رفيق” من وراء زجاج مقهى الميزان وهو التواق لاجتياز امتحان ولوج سلك الماستر:
ـ كيف السبيل لاقتناص هذه الفرصة؟ أصدقا ما يروج في كواليس الكلية من سيطرة المحاباة والوساطة في انتقاء اللائحة النهائية؟ أبمقدوري أنا الطالب الفقير المنبوذ أن أحضى بهذه الفرصة وأكمل مشوار تعليمي العالي؟…
يدور ببصره في كل أرجاء المقهى، يستشعر نوعا من التعايش والتوازن بين مختلف فئات مرتاديه، يلتحم المعوز بالفقير بناشد الكفاف والعفاف بالبورجوازي الحالم، يجالس عون السلطة تاجر المخدرات، ويتحدى الموظف الجماعي سمكري الحي في “طرح ضامة احترافي”، طبقة مجتمعية جديدة قيد التشكل ذكرت “رفيق” بـ”الهيئة الثالثة” التي قادت الثورة في فرنسا سنة 1789م.
المقهى جزء لا يتجزأ من الحياة اليومية لساكنة “درب الجروندي” و”جنان الشامي” و”باب الخوخة” وكل دروب العدوتين المتجاورتين، جزء من صميم نبض حيوات ساكنة أضنتها الفاقة والفقر، امتداد للحياة، بل لعلها الحياة والملاذ الجديد لساكنة لم تعرها كل الحكومات المتعاقبة الاهتمام الذي يليق بهشاشتها وحاجتها، فصنعت لنفسها ميزانا جديدا لتحقيق توازن اقتصادي واجتماعي ونفسي مضطرب…
ـ نور الدين شكردة ـ
التعليقات
التعليقات مغلقة