تقديم
الحقوق مضمونة للخلق منذ بداية خلقهم، وبالمقابل فرضت عليهم واجبات لتكفلها وتضمن استمرارها، فمن تهاون في واجباته لا بد وأنه سيضع حقوقه، ودين الإسلام السمح ارتقى بالإنسان لأسمى المراتب وأعطاه أولى الحقوق، حيث جعل المساواة بين البشر على اختلاف ألوانهم وألسنهم وأجناسهم ولا مفاضلة بينهم إلا بالتقوى التي من شأنها أن تجعل المرء مستقيما يحقق مصالحه ومصالح غيره، نعم إنها التقوى وخشية الله التي توجب التزام تعاليمه واتباع ما جاء به سيد الخلق محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي قال :”إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”، فأين هي أمة محمد من قوله وفعله وهل حق فيها اليوم ما تركه منذ أربعة عشر قرن خلت حينما تساءل -عليه الصلاة والسلام-: “أَتَدْرُونَ مَا الْـمُفْلِسُ؟”، قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: “إِنَّ الْـمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ”، (رواه مسلم).
تهاوي المنظومة الأخلاقية
من أخطر الظواهر التي استفلحت في المجتعات العربية ظاهرة الإنحلال الأخلاقي، والمشكل أنها باتت أمرا اعتياديا أو واقعا يعاش تم تطبيعه، لا مفر منه ولا يمكن تغييره، مظاهر مخلة بالآداب، وتصرفات تجاوزت الإساءة البصرية والتلوث السمعي لتتجسد على شكل كتابات ورسوم حائطية، في ظل غياب المحاسبة، فالقوانين الوضعية لا تجرم أفعالا كثيرة وتعتبرها حريات شخصية، الضمير الجمعي استقال أو أقيل منذ فترة وفق خطة مدروسة، وتهاوي البناء الاجتماعي سيضر بالصالح والطالح معا.
مواقف تتكرر يوميا في الشوارع وعلى مرأى العامة رغم مخالفتها الصارخة للنظم والقيم في مجتمعات محافظة، حيث يستعرض كثيرون عضلاتهم بالمجاهرة بالمعاصي، ومن غير تورع يتطاولون بكلمات نابية وتصرفات خادشة للحياء، ولا أحد يعارض أو يستاء، البعض يكتفي بالفرجة، آخرون يتظاهرون باللامبالاة، وهناك من يرد بكلام مماثل أو بألفاظ أغلظ وأفحش أو يومئ بحركات لها دلالات أسوء مستمدة من قاموس الإنحطاط والرذيلة.
والأدهى أن هذه الأفعال والأقوال المحرمة والمخزية تصدر من الجنسين ومن كل الفئات حتى النساء والأطفال والشيوخ، كأنه وباء انتشر واستفحل، في المرافق العامة، المدارس، الإدارات، البرلمانات، وحتى البيوت بعدما كانت هذه المصائب حكرا على الملاعب والأماكن المشبوهة من أوكار الفساد في الزوايا بعيدا عن العيون.
نفوس ملوثة بالدنايا تتباهى وكأن حلة الملبس والمركب في غنى عن تزكية النفس وترفعها عن الخطايا.
تهديد الكيان الأسري
بدأت بوادر طمس الهوية في الظهور مع تراجع القيم وانهيار الأخلاق بعد تمييع المجتمع عن طريق هدم الكيان الأسري وإضعاف دور مؤسسات التنشئة والتعليم، بدس برامج دراسية هزيلة وحتى مخالفة، وسن قوانين باطلة كالخلع لأتفه الأسباب والمطالبة بالمساواة في الميراث، والخلط بين الحرية والتحرر من كل ضابط أو قيد فقط من أجل إرضاء الغرب وتصنيف الوطن العربي في قائمة البلدان المنفتحة الداعمة للحريات ولو خالف ذلك الفطرة السليمة وخرج عن شرع الله؟
نساء يهملن بيوتهن وتربية أطفالهن ويتنازلن عن مبادئهن ليعملن وسط احترام غائب من أجل أجور لن تعيد كرامة مهدورة، بعدما استبدلت الأدوار، ونالت ربة البيت نصيبا كبيرا من حملة التشوية، حيث تم تعميم النظرة الدونيةللمرأة التي تبقى في بيتها لتربية أبنائها ورعاية أسرتها، وهذه مهمة سامية إذ أن عملها في بيتها ليس بالأمر الهين أو اليسير، بل هو أنبل المهن وأشرفها ومدخوله تعدى كل المداخيل، واعتبار دورها سلبي لا قيمة له وأنها معطلة وغير منتجة باطل لأنها تحفظ الكيان الأسري وهو نواة المجتمع.
كانت السلطة للأب الذي يحرص على تصرفات أبنائه ويعلمهم مبادئ دينهم ويفرح بتعلمهم القرآن الكريم، والولاء للأم التي تهتم بحماية أسرتها وراحتها، وانقلبت الموازين فأهمل الأب واجبه كراع حقيقي عليه تحمل مسؤوليته أمام أم أوكلت أسمى مهماتها لدور الحضانة، في حين اختلت موزاين الذكورة والأنوثة، وصار كل محظور مباح للجميع.
غابت قوامة الرجل وبات من غير هيبة ولا شهامة ولم يعد ذلك الأسد الجسور الذي يذود عن محارمه، وبالموازاة تراجعت مكانة المرأة ولم تعد تنال ذاك الاحترام والوقار الذي اقترن باسمها منذ مجيء الإسلام، فهناك نساء نزعن برقع الحياء وتجاوزن كل الحدود وبات الشارع بيتهن الدائم، وللأسف صار المنكر يمشي على رجلين وما من ناه عنه، أو حق فينا اليوم قول الله تعالى: “كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ” [المائدة: 79]؟.
وقد روى عبد الله ابن مسعود- رضي الله عنهما- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: {إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال: “لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا”}. [أخرجه الترمذي وحسنه].
حمّى التحرر المزعوم
مظاهر التبرج والسفور غزت كل الأمكنة، ملابس تصف وتشف وتكشف، مساحيق صارخة، ترفل وتبختر لأجساد مبتذلة، وبكل فخر هذه هي الموضة والتحضر حسب مفاهيم العصرنة والتقدم لكن إلى الخلف.
عجبا كيف يغيب عن ذهن امرأة مسلمة أنها تخالف أمرا إلهيا عنوة، ولا ترى نفسها من زمرة المؤمنات التي خصهن القرآن الكريم بالستر والعفاف لتكون امرأة حقيقية، ومن أي طينة هو الرجل الذي يعرض مفاتن محارمه على الملأ وكله سعادة وبهجة رغم أنه لن يرى الجنة ولن يشم ريحها، فيكفيه أنه سيسأل عمن يعيل؟
اختلاط فاضح، وحالات تزاحم في الطرقات والمواصلات والأسواق وغيرها من المساحات، نساء تخلين عن حيائهن وحشمتهن ففقدن مكانتهن الطيبة، وصرن في متناول الأيادي والألسن، والمخجل أنهن فخورات بهذا الوضع ظنا منهن أنهن قطعن شوطا في ميدان الحرية والانعتاق بعيدا عن الفضيلة والستر، وفي ذلك خراب بيوت وتهديد كيان أسر عدة.
حمى التحرر المزعوم جعلت مناصب العمل متوفرة لذوات الغنج والدلال، والامتيازات لا تعطى إلا لمن تحقق مقاييس التحضر والهندام الغربي، فالمظهرية الجوفاء هي أساس التعاملات ولو خالفت نصوصا شرعية تحرمها قطعا.
والخلل يزداد اتساعا من أرض الواقع إلى العالم الافتراضي الذي انتهك الخصوصيات ومضت دعوات الاباحية تشهر على وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي.
الانحلال البواح على شبكات التواصل الاجتماعي
من خلف شاشات الهواتف والحواسيب والألواح الرقمية يرسل بعض المستخدمين ما يعكس مستواهم المنحط ومعتقداتهم الباطلة، محظورات وأسرار تنشر، ومحاولات لمد عمر الفساد والانحلال، وعلاقات مشبوهة ومحرمة.
حملت التكنولوجيا مشاكل أخلاقية عديدة، بسبب سوء استغلالها، فبمجرد الدخول على شبكة الأنترنت تنهال الإعلانات المخالفة مما يستوجب إنزال تطبيق لمنعها، وهذه مشكلة حلت، وحبا في الاستفادة والإفادة تبدأ عملية البحث وهنا تظهر الصور والفيديوهات والتعليقات بكل قبيح ودنيء من قبل أناس لا يخشون الله ولا يراعون قيمة ولا خلقا، حتى أن بعض الصحفيين الذين يراجعون التعليقات المرسلة لتمحيصها قبل نشرها أصيبوا بأمراض نفسية من جراء الكم الهائل من الشتائم والمحظورات التي تردهم يوميا.
مواد يعجز كل ذي لب وعقل عن مشاهدتها فكيف بتقبلها، والمحزن أن نسبة كبيرة منشغلة بوضع إعجابات عليها وتعاليق كلها من أقبح الكلام وأحقره، وتمجيد للضلال والفسوق، وإشادة بالإجرام وحتى المخدرات.
انتشار رهيب للمخدرات
انتشرت منذ سنوات عدة أنواع من المخدرات بين كل الفئات ومن كلا الجنسين وعلى مستوى مختلف الطبقات الاجتماعية في المجتمع العربي، ولكل صنف زبائنه حسب الإمكانيات المادية فمستهلك الكوكايين والهرويين عادة ما ينتمي لطبقة الأثرياء في حين يتقاسم البقية الحشيش والمهلوسات وما يتوفر للعامة بأسعار أقل من سلعة قشدة المجتمع.
في مداخل العمارات وأقبيتها وحتى على أرصفة الشوارع ومواقف السيارات في العديد من الأحياء والمدن يقف مروجو المخدرات والباعة ليسوقوا أنواعا قوية من المؤثرات العقلية مثل الأقراص المهلوسة، والكيف المعالج مقابل مبالغ مالية معتبرة، فالتجارة مربحة والمكسب وفير، فضلا عن النشوة التي من شأنها تقريب البعيد وتخفيف وطأة الواقع المرير والأزمات على مختلف الأصعدة النفسية منها والمادية.
الغريب أن أحداث السن صاروا يفرضون منطقهم، لم يتجاوزوا السابعة عشر من العمر وقد ولجوا عالم الانحراف من بابه الواسع، حتى غذت شبكات منظمة تمتد خيوطها على نطاق واسع، وجدت من الاستثمار في المشاكل التي يواجهها المجتمع فرصة للكسب السريع، وعادة ما تنفذ من العقاب لما لها من حصانة.
تجاوزت المخدرات مرحلة التهديد وتشكيل خطر إلى مرحلة الكارثة، فما يحدث من إجرام وتشكيل عصابات أفرادها لا يتحملون أي مسؤولية ولا يهمهم الحلال من الحرام ولا قيم تضبطهم هو نتيجة مباشرة لانتشار الإدمان هذه الجريمة المسكوت عنها لتتحول لمأساة قومية.
غدت المخدرات كأي سلعة عادية أخرى تتداول علنا أمام الناس، بالقرب من أبواب المنازل وتحت الشرفات، والجميع صامتون كأن الأمر عادي يجب تطبيعه إنه الهلاك الشامل، ومفسدة عظيمة وجب درؤها.
حل مشكلة الانحدار الأخلاقي
لقد صار الولاء للمنصب والسلطة للمال وبدأت الأجيال تنشأ في الانحراف، فوجب تطبيق الشروط الضرورية لحفظ الوجود المادي والمعنوي للمجتمع ورقيه وأهمها العقيدة السليمة والضوابط الشرعية والأخلاق الفاضلة.
يجب تدارك ما تراجع من دور عظيم للدعاة، وتغييب فعالية المساجد وحصر مهامها في الصلاة وإلقاء الخُطب الجاهزة، فقد تضعضعت أركان المنظومة التربوية واستبدل النسق القيمي المدرسي، أما عن الأسرة ودورها في التنشئة َفالخَطب جلل، والحلول الموازية لا تعوض الأمومة ولا الأبوة أبدا، فالتربية الصحيحة استثمار ناجح على المدى الطويل.
تضييع الحقوق وإهمال الواجبات، نشر المجون، وشتم الغير، وأكل أموال الناس بالباطل والتضييق على معايش الناس، وغيرها من المظالم ستزيد من تفكك المجتمع وتهاوي أركانه، وقد يعجل في الجزاء بها، وما وباء كورونا إلا عقاب إلهي لن يزول إلا بالتوبة والاستغفار والرجوع إلى الله، أما التمادي فلن يجلب معه سوى النقم، وها هي الزلازل والفيضانات إنذارات أخرى فهل من معتبر.
على كل مسلم أت يستذكر ويستحضر قول الله تعالى : “قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين” (سورة الأنعام/ الآية 162).
Say: “Truly, my prayer and my service of sacrifice, my life and my death, are (all) for Allah, the Cherisher of the Worlds”.
Dis:” En vérité, ma prière, mes actes de dévotion, ma vie et ma mort appartiennent à Allah, Seigneur de l’Univers. ”
Sourate (6) Al Anaam, verset 162.
فكل إنسان اختار دين الإسلام طوعا، قبل أن يحمل لقبا أو يحصل على شهادة تجعله شخصية هامة أو عامة، كأن يكون سفيرا أو وزيرا، صحفيا أو طبيبا، بناء أو نجارا أو حتى رئيسا أو عاطلا عن العمل، فهو ملزم بتحصيل شهادة التوحيد وتقديرها، فالمسلم خلق لعبادة الله وحده، وعليه من المعتقد الصحيح أن يجعل كل عمله خالصا لله، ويرجع دائما لكتابه العزيز وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فكيف تكون آراء ستيفن هوكينج الملحد، وأقوال نعوم تُشُومِسْكِي أبلغ مما نزل من وحي رباني مقدس؟.
ديننا كامل متكامل في السياسة والحرب في الحكم والقضاء في الاقتصاد والصحة في تنظيم العلاقات والتعاملات لم يغفل شاردة ولا وادة إلا ذكرها، جاء داعيا لأفضل الأخلاق وأنبلها، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ولكنها سفاهة الإنسان التي تبحث في قوانين وضعية لإيجاد حلول لمشاكل وضيعة، وتخلت عن البحث في العلم النافع من منبعه الأصلي وتبعت نظريات وفلسفات أثبتت فشل أصحابها الذين مات أغلبهم منتحرا.
سيسأل كل واحد عما قدم، ولا شيء سيضيع من الكتاب المحفوظ، لذا مراقبة النفس في السر والعلن هي أعظم خطوة لتقويمها، والحذر.. الحذر من غياب المعايير الخلقية ومراعاة الآداب وباختصار تعد حدود الله.
فائدة
وكفائدة فقط هذه حادثة وقعت منذ أشهر تبين أن المرء يموت على ما كان عليه في الدنيا وخاتمته من جنس عمله:
كان هناك شاب يقود سيارته مخمورا، وفجأة ركنها جانبا على الطريق السريع ونزل ليفتح دولابها، فمرت سيارة مسرعة لم يره سائقها فصدمه وقطعت أطرافة السفلية، فسقط أرضا وهو ينزف بشدة، ولحقت به سيارة الإسعاف وهو ما يزال على قيد الحياة، فنقل للمستشفى على الفور، أخذ الحضور حوله يحثونه على الشهادة، ويقولون له هيا تشهد.. عليك ترديد الشهادة، فقد كان يحتضر لكنه ما تلفظ من وقت الحادث إلا بالسب والشتم، وبذيء الكلام وهو يتألم، ولم يتوقف حتى فاضت روحه.
هكذا ما يشتغل به الانسان طيلة حياته سيجده حاضرا في لحظاته الأخيرة، وأول من سيجني ثمرة الخلق الحسن هو صاحبه قبل غيره.
التعليقات
التعليقات مغلقة