من وراء تعاظم ظاهرة الحراڨة؟

من وراء تعاظم ظاهرة الحراڨة؟

تقديم

 كل مرة يعود النقاش حول ظاهرة “الحراڨة”، تنظم المؤتمرات الأكاديمية وتقام المشاورات الدبلوماسية فضلا عن عرض إغراءات ومنح مادية من أجل إيقاف السيول البشرية المتدفقة من إفريقيا نحو أوروبا طيلة فصول السنة، ورغم كل الظروف حتى في ظل جائحة كورونا.

 لكن كل هذه المساعي لإيجاد حلول فعالة وعاجلة تبقى شكلية ما لم يتم دراسة الظاهرة بعمق والتحقيق الميداني بالتقرب من أصل المسألة وهم الحراڨة أنفسهم ومحاولة جمع أكبر قدر من المعلومات عن واقعهم وتناولها بالعرض والتحليل.

ظاهرة الحراڨة

أطلقت تسمية الحراڨة على فئة من المهاجرين ينتقلون من بلد لآخر بصفة غير قانونية ويحرقون الحدود الجغرافية من غير المرور بنقاط رسمية والخضوع للتفتيش من قبل هيئة الجمارك ومراكز المراقبة.

بعد غلق المنافذ الجوية والبحرية والتضييق على منح تأشيرة الدخول إلى الأراضي الأوربية منذ قرابة العقدين جاءت ظاهرة الحراڨة كإجراء مواز للتنقل وولوج البوابة الأوربية عبر البحر بحثا عن مستوى معيشي أفضل.

في الحقيقة الحراڨة ليسوا سوى  مجموعة شباب يعانون من أوضاع اقتصادية صعبة ويعيشون حالة اجتماعية مزرية، يرون الحياة في قوارب الموت ولا يهتمون بالعواقب، ولو أنهم يدركون خطورة خوض غمار البحر بطريقة غير شرعية، إلا أنهم يفضلون المحاولة حتى لو خسروا حياتهم بعدما آمنوا بمقولة “ياكلني الحوت وما يكلنيش الدود” بمعنى ” أكون طعاما للحيتان ولا أبقى مقصيا حتى أهلك وتتعفن جثتي وتأكلها الديدان”.
الآلاف من الحراڨة فقدوا خلال رحلات الهجرة السرية، انطلاقا من المياه الإقليمية لدول الشمال الإفريقي  نحو السواحل الأوربية، لتظل عائلاتهم تبحث عنهم وتقدم الشكاوى للسلطات والاستفسار عن الإختفاءات القسرية التي طالت بعضهم وتبقى هي الأخرى لغزا لم يحل بعد.

أزمة الهجرة غير الشرعية لم تلق بظلالها على الإتحاد الأوربي فحسب كما يروج له الإعلام، فمأساة البلدان المصدرة للظاهرة أعظم، لأنها لم تعد حكرا على الشباب دون الثلاثين عاما بل طالت الكهول، النساء والأطفال ومن مختلف المستويات بما فيهم حملة الشهادات الجامعية.

سن القوانين لن يوقف الحراڨة

  الموت غرقا هو أسوء ما يواجه المهاجرين اللاشرعيين، وفي حالة النجاة منه فالمشاكل لا تنتهي بدءا بالتوقيف من قبل خفر السواحل قبل عبور المتوسط والتعرض للملاحقة القضائية ودفع غرامة مالية مع أحكام متفاوتة بالسجن، مثلا في الجزائر ووفقا لنص المادة 175 مكرر 1 (القانون رقم 09-01 المؤرخ في 25 فبراير 2009) دون الإخلال بالأحكام التشريعية الأخرى السارية المفعول:” يعاقب بالحبس من شهرين (2) إلى ستة (6) أشهر وبغرامة من 20.000 دج إلى 60.000 دج أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل جزائري أو أجنبي مقيم يغادر الإقليم الوطني بصفة غير شرعية، أثناء اجتيازه أحد مراكز الحدود البرية أو البحرية أو الجوية، وذلك بانتحاله هوية أو باستعماله وثائق مزورة أو أي وسيلة احتيالية أخرى للتملص من تقديم الوثائق الرسمية اللازمة أو من القيام بالإجراءات التي توجبها القوانين والأنظمة السارية المفعول”

وكذا “تطبق العقوبة نفسها على كل شخص يغادر الإقليم الوطني عبر منافذ أو أماكن غير مراكز الحدود”

أما من ينجح في الوصول إلى الحدود الأوربية فالاعتقال هو الاحتمال الأول على القائمة، وبعقوبة السجن والتغريم وبعدها الترحيل للبلد الأم، وقد يعيد الكرة مجددا لأن الظروف لم تتغير.

فرنسا الاستعمارية أهم أسباب الهجرة السرية

أول سبب لظهور ظاهرة ” الحراڨة” هو السياسة الفرنسية في إفريقيا، فرغم نيل كل المستعمرات السابقة لها استقلالها الذاتي إلا أنه لم يكن مكتملا، حيث تمكنت من المحافظة على علاقاتها وبتعبير أدق نفوذها، فظاهرها علاقات تعاونية على أساس السيادة والمساواة والاحترام المتبادل إلا أنها مبنية على أسس ومعايير قوامها الاستعلائية والتميز بالفوقية، تضمن لها التأثير المباشر في شتى المجالات الاقتصادية الاجتماعية والثقافية حتى العسكرية والسياسية، بتنظيم الانقلابات وتعيين الرؤساء، مهددة استقرار الدول ومعيقة تنميتها حفاظا على مصالحها حيث:

  1. تشكل قارة إفريقيا منجم ذهب لفرنسا، فالعجز الفرنسي الداخلي ونقص مواردها الطبيعية جعلها تستغل كل ما تزخر به بلدان إفريقيا من موارد وثروات طبيعية لتوفير المواد الأولية للصناعة، فهي تستورد المواد الخام وتصدر السلع المصنعة، كما تستغلها في تنمية الصناعات الثقيلة والنووية، ومن أجل ذلك يمكنها إشعال حروب مثلما حدث سنة 2013 بدعوى التدخل لمحاربة الجماعات الإسلامية في مالي والحقيقة أنه تدخل من أجل تحصيل مخزون اليورانيوم بها فضلا عن باقي الخيرات والشراكات التجارية.
  2. وجدت فرنسا في الدول الإفريقية أسواقا مفتوحة لعرض منتجاتها وخاصة تلك التي لا ترقى إلى مصاف جودة السلع العالمية المنافسة.
  3. الاستثمارات الفرنسية من أهم الاستثمارات الأجنبية في الدول الإفريقية وفي شتى الميادين حتى التعليم إذ تسعى فرنسا لفرض سيطرتها بمنح امتيازات وتسهيلات، مثلما هو حال المدارس الخاصة في المغرب على حساب التعليم في القطاع الحكومي.
  4. رفع القيود عن رؤوس الأموال وتحويلها من إفريقيا إلى فرنسا في حين تفرض الصرامة في خروج الأموال من فرنسا وتطالب بمستندات وتبريرات حتى على المبالغ البسيطة الموجهة للمساعدات الطبية مثلا.
  5. السيطرة على المواقع الإستراتيجية الإفريقية، مثل إنشاء قاعدة عسكرية فرنسية في دولة جيبوتي، حيث تتمكن من فرض رقابة على المدخل الجنوبي للبحر الأحمر الذي يعد رابطا هاما لخطوط التجارة العالمية بين جنوب وشرق آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط.
  6. 6-     عقد اتفاقيات للتعاون في المجال العسكري يصب دائما في الصالح الفرنسي إذ تصدر السلاح وتفتح باب التدخل العسكري في النزاعات الإفريقية الداخلية ولفائدة أنظمة ديكتاتورية فاسدة، أو لمساندة أقليات أو تمويل وتحريض المتطرفين والانفصاليين منها حركة الماك لفرحات مهني، 
    وكذا تشجيع فصيل سياسي معين بدافع الحفاظ على مصالحها والتمكين لوجودها منذ العهد الاستعماري، فهي لا تسمح مطلقا بتجسيد إرادة التغيير ولو بالوقوف ضد رغبة شعوب بكاملها تبقى تعاني العوز والفاقة في بلدان غنية.
  7. جهاز المخابرات الفرنسي يعمل بجد للحفاظ على المصالح الفرنسية السياسية والاقتصادية بحماية الأنظمة الإفريقية الموالية ومحاولة السيطرة على الوضع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، وتوجيه الأزمات أو خلقها بتسريب ملفات سرية أو إخفاء حقائق صادمة، ضاربا كل القيم الإنسانية والأعراف الدبلوماسية عرض الحائط.
  8. تحت غطاء الانفتاح والتعاون الثقافي ودعم القيم الإنسانية تسعى فرنسا للسيطرة ونشر ثقافتها، وذلك من خلال منظمات ومؤسسات ذات صبغة قانونية واعتماد رسمي منها “نادي الروتاري” المشبوه في ضلوعه في عمليات جوسسة والمساس بالمقدسات، وتعيين متشبعين بثقافتها التغريبية في مراكز حساسة، نورية بن غبريط أنموذجا.
  9. التمكين للغة الفرنسية وجعلها الأكثر استعمالا ولكن ذلك بدأ يتراجع لتوجه الشعوب الإفريقية نحو تعلم الانجليزية رغم محاولة الحكومات الإبقاء على الاتجاه الفرانكفوني وفرضه في المؤسسات الرسمية، مثلما هو معمول به في الجامعات الإفريقية حيث مازالت العلوم تدرس بالفرنسية.
  10. محاربة الإسلام على أراضيها وخارجها، ومحاول تشويه صورته إعلاميا حيث تستغل التلاعب بالألفاظ في إطلاق تسميات موجهة مثل “الإسلام الأصولي” وتغذية ظاهرة “الإسلامفوبيا”  لأنها تخشى إنهاء نفوذها في حالة عودة الحكم الإسلامي للواجهة ونجاحه في توحيد الدول وتقدمها.

مما سبق يظهر الدور الرئيسي الذي تلعبه فرنسا في القارة الإفريقية وإبقائها تحت السيطرة، معارضتها لأي تحول أو تغيير للحكومات المتواطئة معها.

“حكومات فاشلة” تصنع اليأس

تعاني أغلب الدول الإفريقية من أنظمة سياسية دكتاتورية أو عسكرية تفتقد لإستراتيجية ناجحة في إدارة البلدان ومواردها.

ومن أجل إخفاء هذا الفشل والاحتفاظ بنفوذها تعمل على الولاء للغرب وتحديدا فرنسا لتلقي الدعم، مما يوجب عليها تنفيذ الإملاءات الخارجية وأهمها:

  1. عدم اعتماد الدين في تشريع القوانين وفي دستور الدولة ولو كان لزاما فسيبقى شكليا ففي التشريع الإسلامي تقطع يد السارق ولكن القانون لا يسمح بذلك أبدا رغم أن في هذا الحكم حكمة إلهية للحد من الظاهرة وحفظ الحقوق.
  2. عدم الاهتمام بالتعليم وتطويره السعي لتهديم المنظومة التربوية بتغيير المناهج والتمكين للتيار التغريبي وإقصاء الكفاءات وتهميش البحث العلمي.
  3. 3-    خلق طبقة سياسية هشة ومعارضة ضعيفة.

2- غياب الرقابة وسيطرة المصالح الخاصة للطبقة الفاسدة وتحييد المصلحين، من أجل بقاء أنظمة فاشلة في الحكم لعشرات السنين وإخراج فزاعة الإرهاب والجماعات الإسلامية المتشددة ونظرية المؤامرة والأيادي الخارجية من أجل تغييب إرادة التغيير.

  1. غياب البنى التحتية وتأخر في النمو الاقتصادي، تبديد الموارد وعدم استغلال الثروات الطبيعية.
  2. انتشار البطالة، ضعف الدخل الفردي، غلاء الأسعار.
  3. غياب منظومة صحية متكاملة.
  4. 4-    مشاكل اجتماعية عويصة ضاعت معها القيم أخلاقية والمعايير السامية.
  5. استشراء ظاهرة الفساد وعلى أعلى المستويات.

وغيرها من المشاكل التي تسببت في استنزف الطاقة وهجرة الأدمغة وكذا تفكير شريحة واسعة  في الهجرة ولو بطرق ملتوية.

توصية إلى الإتحاد الأوربي لمحاربة ظاهرة “الحراڨة”

عمليات مكافحة الهجرات غير المشروعة وعمليات تهريب المهاجرين لن تثمر ما لم تراع مصلحة الطرف المتضرر أكثر وهم المهاجرين أنفسهم.

إن كانت ظاهرة الحراڨة تؤرق القارة الأوربية فهي تدمر البلدان الإفريقية بصمت، ومن أجل مصلحة الجميع  على الإتحاد الأوروبي التدخل لإنهاء النفوذ الفرنسي في إفريقيا وتوقيف سياستها الاستغلالية، باعتباره مركز القوة المهين.

حان الوقت لتحقيق الاستقلال التام والفعلي وترك الشعوب الإفريقية تقرر مصيرها وتختار بكل حرية من يتولى قيادتها لتحقيق النمو والرقي.

أما غير هذين الإجراءين فيعد مضيعة للوقت والجهد وهدر للمال.

فبالتقرب من بعض عوائل الحراڨة والتواصل مع مهاجرين مقيمين في أوروبا أكدوا أنهم سيعودون لبلدانهم لو تحسنت الأوضاع، لكنهم لم يلمسوا هذا لحد الساعة، في حين أكد بعض المتواجدين على الأراضي الفرنسية أنهم يعيشون في خيرات بلدانهم التي تنهبها فرنسا وليسوا عالة على أحد إنما هو حق لهم.

ليس من حق فرنسا الاستغلالية طرد المهاجرين الأفارقة وحرمانهم من الإقامة الرسمية وهي سبب هجرتهم، وسيخرجون من أرضها فور خروجها الفعلي من أراضيهم.

 أما عن النخبة الإفريقية المتواجدة في الغرب فكلها استعداد لخدمة أوطانها لو وجدت تشجيعا وإرادة حقيقية للإصلاح الذي يناشده أبناء هذا الوطن وقاموا من أجله بأعظم حراك.


القراءة من المصدر : موقع زاد دي زاد .

413 مشاهدة

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *