نبش في العالم الآخر

نبش في العالم الآخر

وجدت نفسي طريحة الفراش وزوجي الحنون واللطيف يداعب جفني ، كان حدسي إذ ذاك يخبرني أني على وشك الرحيل ، الرحيل الأخير، وبما أني أكره الوداع، هممت بالنهوض من مكاني لمغادرة غرفتي، أردت حينها تلطيف الجو بنسيم الصبى العليل، ولكن كنت أضمر في نفسي الرحيل المفاجئ.

تدحرجت على الدرج وهناك لفظت أنفاسي بعد سقوطي من أعلاه، كنت أتألم كثيرا، لكن دون حراك ولا مقاومة، لم أكن أقوى على على الصراخ، فوجدت بناتي يصرخن ويبكين بحرقة، وأنا من داخلي أطبطب عليهن وأربت على كتفهن، لكنهن لن يشعرن بلماستي بعد، وجدت زوجي يحمل هاتفه وقلبه مكسور، يا لطيبتك يا زوجي كم أحبك لكنني لم أكن أشعرك بحبي، ولم أكن أما صالحة لبناتي، في حين كنت زوجا صالحا لي فشكرا لك، ولدموعك التي كانت تنزل على وجنتي لعلها تغسل خطاياي اتجاهك، انا أتألم وأخاطبك أرجوك يا أحمد لاتفعل بي هكذا، فحزنك يحرقني، فقط أدع لي بالرحمة والمغفرة التي قد لا أستحقها، فلطالما كنت سيئة خبيثة نتنة، حادة الطباع، قاسية على أهلي وأهلك وبناتنا وبالأحرى عليك أنت، لم أكن أطيعك أو أحترمك، لذلك توقف عن البكاء يا أحمد.

حملوني لغرفة نومي بغية تغسيل جثتي الميتة، وسمعت زوجي يحكي لأمه أنني كنت نوره، وهو يحدثها بحنين:” زوجتي نورة كانت تحبني وأنجبت لي ثلاثة بنات جميلات وجههن يشع براءة ونورا، كاسم أمهن”، فردت عليه أمه أنها كانت تحبني وقلبها مليئ بالحب والرحمة رغم قسوتها والدليل الشاهد هو البنات، و في نفسي أخاطبه، لا يا أحمد، فأنا لم أحمل من اسمي النور للبتة، كنت عار عليك وعلى عائلتك، فأنا التي لم أحبك ولا أمك.

فجاة ظهرت أختي أسماء وهي تصرخ، نورة حبيبتي التي طال هجرانها وغيابها رحلت، نعم هذه أختي أسماء التي قمت بسبها وشتمها ولم أرضَ بأخت عفيفة مختمرة، وأنا التي كنت أتباهى بجمالي وبملابسي و أغلى ماركات الزينة والتجميل، وارى في تبرجي سموا ورفعة والآن أدركت أنه خطيئة عظمى.

وحملوني على مهل، رجال أقوياء أشداء، وأنا أكاد أجن من الصراخ والبكاء، لكن لا أحد يعد يسمعني، كل عائلتي تبكي لفراقي، كلهم يرددون ويهتفون خلف بحة صوتية حزينة جدا: نورة ..نورة..نوووووراااااا، انطفأ اسمي بعدما، وضعوني في لحدي، و لاحت الظلمة في الأفق، ويا لوحشة المكان وضيقه، تراب أسود وظلام دامس، وانحدار حاد جدا، وبعد هنيهة وجدت نفسي داخل مكان جديد لا أعرفه ولم أكن أسمع عنه من قبل، ولا أحد حدثني عنه، وليتني جالست الصالحين كي أعد لرحيلي هذا، وبقيت أتمتم بكلمات لا تغني ولا تسمن من جوع في هذا المقام.

وهنا استعدت روحي وأوعيت نفسي جيدا، لكن ذاك المكان لم أفقه دلالته بعد، وجدت شخصا خلفي يقول لي: حسنا يانورة، هذا مقامك الآن حتى يوم البعث، وحاولت استفساره عن هذا المكان وكيف ذلك؟ ولماذا؟ فقال لي بلطف وطيبة كلطافة زوجي أحمد الذي افتقدته قبل قليل: عند مفارقة الروح الجسد أي ما بعد الموت تستقر في مكان اسمه البرزخ، وستمكثين فيه لوهلة ريثما تحاسبين على أعمالك إلى يوم الدين، ولمحت بابا يشع منه النور والبهجة، فخاطبت نفسي: ياله من نور جميل.

-فقال لي الملاك: لا ياسيدة نورة هذا ليس مكانك، أعمالك لا ترقى إلى المعدل المطلوب.

ورغبته أن يدلني على اسمه، فقال لي هذا باب الصالحين، وبينما أنا ماشية بجانبه وقعت عيني على مكان طيب الرائحة يهب منه ريح عليل منسم بقطرات ندى ماء زمزم، وسمعت صوت خرير مياه وتلألأ وادي الكوثر، فسألته باستغراب لمن هذا الباب؟

أهذا مكاني إذا!!!

وأخيرا سأدخل وأنعم بنعيمه فقال لي بأسف لا يا نورة فهذا باب الصائمين القانتين الركع السجود،ويدعى بباب الريان وهو ثامن أبواب الجنة، وأعلى درجاتها الفردوس.

وجدت نفسي أنني أحتاج لنقاط الحسنات، فذاك الزاد الذي حملته يحوي أدنى وأفقر النقط، ورجوته أن يمنحني فرصة الاستدراكية كي أعود للصلاة وأصوم وأصدق وألبس حجابي وأغض بصري وأستر جسدي وشعري، لأكون إمرأة حقيقية، لكن الوقت آنذاك انتهى. ووجدت نفسي على وشك الالقاء بي في الدرك الأسفل من النار، واستشعرت وجود حنان أمي، فبكيت بحرقة وتوسلت إليه كي يمهلني فرصة لقائها، فتفطر قلبه وطاوعه ثم ذهب بي إلى باب الريان، يا إلهي كم هو جميل نوره وعظيم فخامته وصنعه، كل ما لذ وطاب، أناسه محلون من أساور من ذهب واستبرق، متكئين على الأرائك؛ تجري من تحتهم الأنهار وهم فيها خالدين.

رأيت أمي منعمة مفعمة بالراحة والاستجمام والرفاهية والعيش المنبهر الكريم، وعانقتها بحرقة، فبكيت لفرحها وسعادتها الأبدية، وبكت لحالي وما ينتظرني من عذاب شطيط، واحتراق ورماد، ثم احتراق في احتراق إلى يوم البعث المعلوم،فقالت لي بتأسف واستغراب: أهكذا ربيتك؟، فأجبتها بحسرة وندامة: إنه الشيطان يا أمي، دائما ما كان يوسوس لي، ويقول لي لا تطيعي ربك وأمك، خالفيهم وعيشي حياتك واخلعي ثوبك واطلي أظافرك وصففي شعرك، صافحي الرجال وعانقيهم، وإياك أن تركعي أو تسجدي فذاك ضعف لك أمام الرب، لا تسجدي لأحد فلا أحد خلقك، فأنت مجرد صدفة وأنثى جميلة، عليك أن تشعري بأنوثتك وتجالسي الشباب كي توقعينهم في شراكك، وإياك أن تصومي وتستقيمي، فقط ازني واطلقي العنان لغرائزك وشهواتك، أرجوك يا أمي فلطالما أوصيتني بتجنب الكبائر والتحلي بالطاعات، أن تعيريني حسناتك كي يتسنى لي الدخول إلى هذا النعيم، فأجابتني بحسرة: لقد كنت أجوع وأطعمك، كنت أشعر بالبرد ولأدفئك، كنت أمرض وأعتني بك، كنت أحمل الثقال وأخففك، فعلت المستحيل من أجلك، وكنت أومن أنه لا مستحيل تحت الشمس بغية إسعادك، والآن يا ابنتي ليس باستطاعتي فعل أي شيء من أجلك، فباب فعل المستحيلات أغلق، وقد أحكم الحداد قفله وأحسنه.

فجأة رأيت جارتنا سهام، هذه المرأة ما تركت معصية إلا فعلتها وجهرت بها، فقلت للملاك لماذا هي تنعم بالمكان الذي توجد فيه أمي وأمثالها، فقال لي هذه السيدة أعرضت عن طريق الفسق والزنا والرياء واستقامت وصلت وصدقت وصامت، ثم تابت توبة نصوحا، وتوفتها المنية وقد تحولت سيئاتها إلى حسنات كثيرة، فوقفت لبرهة أبحث في أرشيف الماضي الخاص بي، فلم أجد أي دليلا يعتقني من النيران، فاستسلمت وضعفت وأنا القوية المتكبرة المتجبرة التي لم تضعف ولم ترض بالمتواضعين قط، وتم إلقائي في النار،وتحول جسمي الناعم الذي كان فتنة للشباب إلى رماد، أما شعري الأسود اللامع فاحترق للوهلة الأولى، وتعلقت به لأنني كنت أريه للشباب ولعامة الذكور والرجال.

و ما عاد يسمع لي صوت رغم صراخي وغذا بيد زوجي أحمد تسحبني وهو يقول:” نورة ..نورة استيقظي.. ما بك ياعزيزتي؟

لحظتها لم أدرك ماذا يحدث معي، أكاد أجزم أنه لم يكن حلما لقد عايشت الأحداث بكل التفاصيل، لكني أحمد الله على العودة..نعم إنها العودة وفتح باب التوبة الذي أدعو الله أن يختم لي به.

254 مشاهدة