**بقلم محمد الشراط ** متصرف تربوي
ليسمح لي عالم الاجتماع الكبير “ماكس فيبر” أن أستعير منه مقولة ” لقد زال السحر عن العالم” التي استعارها هو بدوره من الشاعر الألماني ” فريدريش فون شيلر” من جهة أولى، ليسم بها العقلانية الكونية التي بشرت بها الحداثة الغربية. أما من جهة ثانية، فهي بمثابة إعلان عن وفاة الإيديولوجيات الدينية التي عمرت طويلا ولطالما أوهمت الإنسان بتصور مغلوط عن العالم والكون والمجتمع والتاريخ والمعرفة ولم لا عنه نفسه هو كذلك.
إذا كان عالم ماكس فيبر قد زال عنه السحر وجعل من العقل أساس كل معرفة ممكنة والوحيد الذي يحمل في ذاته إمكانية التعرف على الأشياء والواقع في عصر فقد فيه اليقين وتزعزعت كل الأساسات وافتقدت القداسة.
فإن سحر العالم المعاصر قد زال رغم كل التفوق العلمي والتقني الذي وصلت إليه البشرية إذ ما فتئت تتلقى الصدمات تلو الصدمات كان آخرها ظهور كيان بيولوجي نانومتري أعادنا إلى نقطة البدء: الدهشة، فعلا دهشة، بعد أن سكننا لقرون عدة وهم التغلب على كل شيء، مثلما سكنت فكرة مركزية الأرض إنسان ما قبل النهضة.
منتش بهدمه السابق للإيديولوجيات والحكايات الكبرى، انغمس الإنسان الحديث في تجسيد مركزيته من خلال هوسه بالتفوق العلمي والتقني، وكلما زادت فتوحاته العلمية زادت غربته عن نفسه.
فالتطور العلمي الذي كان سببا في تقدم الإنسان وزيادة رفاهيته وضمان أمانه، والذي بفضله استطاع الإنسان أن يجد الحلول لمشاكله صار هو نفسه مشكلة، حيث تحول العلم من أداة في يد الإنسان إلى صنم يخضع له ويقدم له فروض الطاعة. وكما أشار إلى ذلك كل من “بول ريكور” و”هانز يوناس”، صارت العلوم والتقنيات الحديثة تثير الفزع. فالتكنولوجيا الحديثة التي زادت من قدرات الإنسان زيادة ضخمة بحيث تحول من خالق هذه التقنيات إلى موضوع لها.
إننا لا ننكر أن الإنسانية قد قطعت أشواطا كبيرة في محاربة الجهل وحققت تراكما علميا وتقنيا هائلا إلا أن قدرها أيضا أن تفكر فيما هو أبعد مما هو مادي. إن قدر العقل أن يفكر فيما وراء الطبيعة – الميتافيزيقا- بل وينتج أفكارا حولها.
لقد وصف نيتشه عالمنا بالعدمية وهو ما ذهب إليه أيضا ليوتار حيث أظهر لنا أن موت الأيدلوجيات والحكايات الشمولية وغياب المنظومات الكبرى التى ظلت سائدة طويلا أفسح المجال لإضفاء شرعية على واقع انتهت فيه الغايات وتلاشت القيم العليا. واستتباعا لذلك تمظهرت الفردانية، بعدما طرد المتعالي المطلق، بشكل سافر ليتخذ المرء ذاته قيمة عليا ويتمرد على كل القواعد والالتزامات.
إن موت الإيديولوجيات والعدمية والفردانية السافرة خلف فراغا روحيا سرعان ما يتحول إلى تيه خصوصا في لحظات الأزمات والصدمات ولعل الوضعية الحالية التي نعيشها في زمن كورونا لخير دليل.
فرغم كل هذه التقنية والغطرسة البشرية، ظهر عجز الإنسان أمام كائن على حافة الموت مما فرض علينا أن نعود مندهشين إلى ذواتنا مرة أخرى ونتساءل في قرارة أنفسنا: كيف حدث هذا؟
طبعا إلى حد الساعة تتضارب الآراء والنظريات. بين مؤامرة وفعل فاعل وغالبا ما نضيع في متاهات من الكذب؛ يقول الفيلسوف الفرنسي “ألكسندر كويري” –بتصرف: ((لم نكذب كما نفعل اليوم، كما لم نكذب بكثافة وشمولية كما نفعل اليوم. يتلقى العالم يوما بعد يوم، ساعة بعد ساعة، دقيقة بعد دقيقة، موجات من الأكاذيب: الكلام والكتابة والجريدة والإذاعة والإشهار…أضحى الإنسان الحديث يسبح في الكذب، يخضع للكذب في كل حياته)).
تتسرب من بين أيدينا الحقيقة يوما بعد يوم، لنزداد عبودية يوما بعد يوم لوسائل الإعلام. ويزداد توجسنا من المستقبل يوما بعد يوم لأن الأسوأ لم يأت بعد كما تقول. عقولنا بها عشرات الأسئلة بدون أجوبة. ومن يمكنه أن يجيبنا؟ زعماء أعتى الدول يتخبطون ويلومون بعضهم البعض ولم تشفع قدرات دولهم العلمية في صناعة الصواريخ وغزو المريخ من تحقيق الاكتفاء الذاتي من الكمامات لمواطنيهم الهلعين. والغريب في الأمر، من خلال ملاحظات وإن كانت أقرب إلى الارتسامات منها إلى الدقة العلمية، أن الدول التي وسموها بالتخلف تمكنت، نوعا ما، من التصدي برزانة للأزمة هي ومواطنوها. ورغم تخلفها المزعوم تقدمت في مجال تخلفت فيه الدول الصناعية: لقد كان همها الأول حماية الإنسان ولو بمقدرات محدودة في حين سكن الثانية الاقتصاد واستمرار عجلته.
إن الشعور بالطمأنينة والرضا كانا عنصران حاسمان في مواجهة الأزمة، إذ سرعان ما تهاويا، عند معظم الأفراد، في الغرب الحداثي بعجز التقنية عن إيجاد الحلول وسقوط الضحايا تباعا. بينما الإيمان هو الآخر كان حاسما في تخفيف المواجهة بين كائنين فانيين في نظر ملايين مواطني الدول (المتخلفة) وبفضله استمر لديهم الشعور بالطمأنينة والرضا.
إن الفراغ وفقدان المعنى أظهرا أن الحياة التي تعيشها المجتمعات الغربية، وبدافع التأثر مجتمعات دول العالم الثالث، غير ذات أساس وأفرادها عراة محرومون من وجود غايات مطمئنة. يقول هانز يوناس ” إننا نرتعد الآن في عراء عدمية تتزاوج فيها أكبر قدراتنا مع الفراغ الذي نحيا فيه”.
وتلقاء هذا الوضع، فإنه مما لاشك فيه، وفي خضم هذا الفراغ الروحي والعدمية، وعجز تقنيتنا المقدسة، سنسعى إلى ترميم ذواتنا المنكسرة والمندهشة بالبحث مجددا لنفسر ما جرى، ولم لا نعيد لعالمنا بعض سحره.
امطث اللثام عن احاسيس وتراكمات من الافكار خالجتنا ولم نجد لها لسانا فصيحا ولا تعبيرا دقيقا ابلغ مما صورت. بوركت استاذ