إذا شحت السماء..

إذا شحت السماء..

إذا شحت السماء، وعزّ المطر، وقست الأرض فلا بد أن ذلك انعكاس لشح النفوس وقسوة القلوب، فداء الجفاف والقحط من الذنوب والمعاصي، وداوؤه التوبة والاستغفار بصدق وإخلاص،  وقد قال الله تعالى:” فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا” (سورة نوح/ الآية: 10).

مما يروى عن مالك بن دينار -رحمة الله عليه- أنه قال:

دخلت البصرة يوما فوجدت الناس قد اجتمعوا فى المسجد الكبير يدعون الله من صلاة الظهر إلى صلاة العشاء لم يغادروا المسجد فقلت لهم مابالكم؟

فقالوا: أمسكت السماء ماءها وجفت الأنهار ونحن ندعوا الله أن يسقينا.

فدخلت معهم وهم يصلون الظهر ويدعون، والعصر ويدعون، والمغرب ويدعون، والعشاء ويدعون، ولا تمطر السماء قطره، وخرجوا ولم يستجب لهم، ثم ذهب كل منهم إلى داره وقعدت في المسجد ولا دار لي.

فدخل رجل أسود، أفطس (أي صغير الأنف)، أبجر (أي كبير البطن)، عليه خرقتان ستر عورته بواحدة وجعل الأخرى على عاتقه من شدة فقره، فصلى ركعتين ولم يطل، ثم التفت يمينا ويسارا ليرى أحدا فلم يراني، فرفع يديه إلى القبلة وقال: إلهي وسيدى ومولاي، حبست القطر عن بلادك لتؤدب عبادك، فأسالك يا حليما ذا أناه، يا من لا يعرف خلقه منه إلا الجود أن تسقيهم الساعة الساعة الساعة..

يقول مالك: فما إن وضع يديه إلا وقد أظلمت السماء وجاءت السحب من كل مكان فامطرت كأفواه القِرب، فعجبت من الرجل، وخرج من المسجد فتبعته فظل يسير بين الأزقة والدروب حتى دخل دارا، فما وجدت شيئا أعلّم به الدار إلا من طين الأرض فأخذت منها وجعلت على الباب علامة.

فلما طلعت الشمس تتبعت الطرق حتى وصلت إلى العلامة فإذا هو بيت نخّاس يبيع العبيد، فقلت: ياهذا إني أريد أن أشترى من عندك عبدا.

فأرانى الطويل والقصير والوجيه، فقلت: لا لا أما عندك غير هؤلاء؟

فقال النخاس: ماعندى غير هؤلاء للبيع.

يقول مالك: أنا خارج من البيت وقد أيست رأيت كوخا من خشب جوار الباب فقلت: هل في هذا الكوخ من أحد؟.

فقال النخاس: من فيه لا يصلح، أنت تريد أن تشترى عبدا ومن في هذا الكوخ لا يصلح.

فقلت: أراه .

فأخرجه لي، فلما رأيته عرفته،  إذ هو الرجل الذى كان يصلي بالمسجد البارحة، وقلت للنخاس: أشتريه.

فأجابني: لعلك تقول غشّني الرجل، هذا لا ينفع فى شيء، هذا لايصلح في شيء.

فقلت: أشتريه.

فزهد في ثمنه وأعطاني إياه، فلما استقر بي المقام في بيتي رفع العبد رأسه إليّ وقال: ياسيدي لم اشتريتن؟، إن كنت تريد القوة فهناك من هو أقوى مني، وإن كنت تريد الوجاهة فهناك من هو أبهى مني، وإن كنت تريد الصنعة فهناك من هوأحرف مني!

قلت: يا هذا، بالأمس كان الناس فى المسجد وظلت البصره كلها تدعو الله من الظهر إلى بعد العشاء ولم يستجب لهم، وما إن دخلت أنت ورفعت يديك إلى السماء ودعوت الله واشترطت على الله حتى استجاب الله لك وحقق لك ما تريد.

فقال العبد: لعله غيري؟ وما يدريك أنت لعله رجل آخر؟.

فقلت: بل هو أنت.

فقال العبد: أعرفتني؟.

فقلت: نعم.

فقال: أتيقنتني؟.

قلت: نعم.

فيقول مالك: فوالله ما التفت إليّ بعدها، إنما خرّ لله ساجدا، فأطال السجود، فانحنيت عليه فسمعته يقول:

يا صاحب السر إن السر قد ظهر                                              فلا أطيق حياة بعدما اشتهر

ففاضت الروح الى بارئها.

480 مشاهدة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *