البوراك.. أكلة أصيلة جابت أرجاء المعمورة

البوراك.. أكلة أصيلة جابت أرجاء المعمورة

البوراك أكلة مميزة في رمضان

وأنت صائم، ليس سهلا أن تتغلب على شهيتك المتفجِّرة كالبركان وأنت تنظر إلى بُورَاك طازج، يَغمز غمزًا إغوائيًا أمامك على المائدة في لحظة الإفطار، لِتتقمص دور المفكِّر والفيلسوف الوجودي المتأمل في نِعَم الله تعالى، وكأنك خرِّيج المدرسة الأفلاطونية أو الأرسطية، فـ: “العين تأكل قبل الفم” على حد قول المثل العربي.

رغم ذلك، هذه الأكلة ليست غريبةً عن عوالم الفلاسفة الكِبار كأفلاطون وأرسطو وبعدهم الفارابي والغزالي وابن رشد وابن طفيْل، لأن البُورَاك على بساطته يُرافِق موائدَ البشرية منذ آلاف السِّنين، ولَوْ كُنَّا نَعْتَقِد، أو بعضُنا، في الجزائر بتطرُّفنا المُعتاد في تمجيدنا لِعاداتنا وغُرُورِنَا، كالكثير من الأمم على كلِّ حال، أنَّه طبخةٌ جزائرية بَحْتَة لا تُعادِلُها في اللِّذة نظيراتُها التونسية والمغربية والمشرقية وحتى الأناضولية والبلقانية والقوقازية.

بوراك الجزائر… لُحُوم… أسْماك… بَطاطس… وتَوَابِل

في الجزائر، البوراك رغم كل قدره وجلاله ليس سوى أُكْلة لِفتح الشَّهية والانطلاق في الأكل بِنَهَم، لاسيَّما خلال الإفطار حول موائد رمضان.

وباستثناء فترة شهر الصِّيام، قد يُكرِّمُه البعض للرَّفع من شأنه ومقامِه بتحويله إلى الوجبة الرئيسية الدَّسمة عند الغذاء أو العشاء بعد البدء بسلاطة من السَّلاطات التي ورثناها عن أجدادنا في الأندلس والمغرب الإسلامي والمشرق، وما بعد المشرق، مثلما هي مُصَنَّفة في عِداد البَوَارِد في “فضالة الخوان من طيبات الطعام والألوان” لابن رزين التُّجيبي الأندلسي وفي “كتاب الطبخ” لابن سيَّار الوَرَّاق البغدادي و”كتاب الطبيخ” لمحمد بن حسن البغدادي.

البوراك في الجزائر منفتح على مَن يرغب في إثرائه بلمسات تُكيِّفُه مع الأذواق والعادات الغذائية لمختلف الحواضر والبلدات والأرياف. فهو في العاصمة، مدينة سيدي عبد الرحمن الثعالبي، محشو أساسا باللَّحم المَفْروم المتوبَل وبالبقدونس أو حتى بلحم الدجاج. وفي مدينة عَنَّابَة، في شمال شرق البلاد، يُفسِح في جوْفِ البوراك اللّحمُ المفروم المتوبَل، مضطرا، هامشًا غير ثانوي، بل مُعتَبَرًا، للبطاطا المعجونة أو المَرْحِيَّة تَكيُّفًا مع الذوق المحلي وإلا لَخاطر بفقدان شرعية الانتماء لهويته العَنَّابِيَة.

كمَا قد يتبنى لمسات أخرى متنوعة ومتعددة في جهات أخرى من البلاد كأن ينفتح على التُّونَة وعلى الجَمْبَرِي وعلى مختلف الأجْبَان وعلى الزَّيتون والبيض، وحتى على الهَرِيسَة والفلْفل والبَصَل في حال اقتضتْ ذلك أذواقُ الطَّابخِين المُبدِعين وإمكانيات المُسْتَهلِكين. كما قد يُقلَى في المقلاة مثلما قد يُطهَى في الفُرْن حسب هوى الطَّابِخ أو الطَّابِخة. كل ذلك، فضلا عن انفتاحه على عدة أشكال هندسية حيث قد يَتَّخِذُ شَكْلَ سَجائِر غليظة، وقد يُفَضِّلُ أن يكون مُرَبَّعًا أو مستطيلاً، كما قد يتصدرَ الموائد دائريًا أو نِصْفَ دائريٍ، وقد يُصبِح شَكْلُهُ ذاتَ يومٍ حَلزونيًا كما هو شأنه في بعض الأقاليم التركية وفي بعض جِهات البلقان.

لكنه، مهما تَنَوَّعَ وتَعَدَّدَ يَبقى هوَ هوَ ولا يَتبدَّد، البوراكَ، بمذاقه الطيِّب والمحبوب الذي غالبًا ما يُؤكَل في الجزائر مرفوقًا بالشُّوربَة أو الحَرِيرَة على موائد الإفطار بِمجرّد ما يُطلِقُ المؤذِّنُ العِنَانَ لِحنجرته بالآذان أو ما يُسمَع دَوِيُّ مدفَع الإفطار مثلما كان يَحْدُثُ منذ العهد العثماني على الأقل إلى غاية سبعينيات القرن 20م.

على كلٍّ، ما هو مؤكَّد هو أن البوراك شائع في مختلف جهات البلاد الجزائرية منذ العهد العثماني على الأقل. ويُحتمَل جدا أن انتشاره بها جاء مع العثمانيين الذين انضوتْ الجزائر تحت رايتهم في أعقاب سقوط غرناطة عام 1492م في تحالف قوي وثمين أنقذ الجزائر وأهلها من التهديدات الاستعمارية الإسبانية ومحاكمها التفتيشية الكاثوليكية…

البُورَاك الذي نَعْرِفُ في الجزائر، والذي اشتققْنا منه في بلادنا وفي دول الجوار المغاربي شبيهًا ينْحدِر من سُلالته يُعرَف بـ: البْرِيكْ، المُربَّع أو المستطيل الشَّكل عادةً، هو، دون أدنى شك وباستثناء بعض التفاصيل واللمسات المحلية، نفسُه البُورَاكْ (Börek) التركي ]على غرار (Sigara Böreği (سِيجَارَة بُورَاتْشِّي) أو Kalem Böreği ( أو قَلَمْ بُورَاتْشِّي)[، خرِّيج المَقالِي أو الأفْرَان والمُحضَّر بالعجين المُوَرَّق أو غير المُوَرَّق. وله عشرات بل مئات النسخ التي لا تتباين إلا في التفاصيل الطفيفة في بلاد البلقان وشرق ووسط أوروبا حتى أرمينيا وجورجيا وليتوانيا وأوكرانيا وروسيا…

أصْلُ البُورَاك

لا نريد أن نُضيفَ للنِّزاع اليوناني/التركي بشأن أصل هذه الأُكلة خلافًا إضافيا يُعقِّد الصراعَ بشأنه ويَزيدُه تَشابكًا، لكن يَتعيَّن علينا الاعترافُ على الأقل بإسهام العديدِ من الأمم والحضارات في إنضاجِه وإيصاله إلى ما هو عليه اليوم في الجزائر وفي غير الجزائر، لأن البوراك أكبر وأعظم من أن يَتَقَوْقَعَ في حدودٍ جغرافية ضَيِّقة ضِمْنَ سُلالة بشرية أو مجموعة ثقافية محدُودة.

كل المؤشرات التاريخية والاجتماعية تَصْدَحُ بِمِلْءِ فِيهَا مُؤكدةً أن البوراك انتشر، أو بالأحرى بدأ ينتشر، قبل أكثر من 500 سنة في العالم المتوسطي وفي آسيا الوسطى وشرق أوروبا على يد الأتراك عندما كانوا يُقيمون في آسيا الوسطى قبل انتقالهم إلى الأناضول وتحديدا إلى تركيا التي نَعرِف اليوم. وحتى الأسماء التي تُطلق على البوراك في كل البلدان التي رَسَّخَ فيها أقدامَه، من المغرب والمشرق العربييْن إلى جنوب أوروبا وآسيا الوسطى، كُلُّها اشتقاقاتٌ وتَكْيِيفَاتٌ، كما قُلْنَا، لاسْمِهِ التركي “بُورَاكْ” (Börek).
كما نَعرِف أن البُورَاك في البلدان العربية من المحيط إلى الخليج اقترن بالوجود العثماني في المنطقة، لاسيما البوراك ذو العجينة المورَّقة. ونَعرِف أيضا على الأقل أن البُورَاك السّْلوفيني دائريَ الشكل انتشر في صربيا انطلاقًا من مدينة نِيْش (Niš) التي كان أوَّلَ من أدْخَلَ إليها هذه الأُكْلة التاريخية خُبّازٌ تركيٌ ما زالتْ صربيا تَتَذَكَّرُ اسمَه وهو محمد أُوغْلُو الذي جاءها آنذاك من مدينة إسطنبول.

على كُلٍّ، تؤكِّد العديدُ من المصادِر أن البُورَاك عَرَفَتْهُ مناطق في آسيا الوسطى منذ القرن 9م. كما تؤكد مصادرُ متخصصةٌ في فنون الطَّبخ وتاريخِها أن أحدَ أقْدَم ذِكْر للبُورَاك موجود في نَصٍّ يَعُودُ إلى القرن 13م لِمولاَنَا جلال الدين الرومي، حسب بْرِيسِيلْيَا مَارِي إيشِين (Priscilla Mary Išin) في دراستها (Yufka : Food For The Cook’s Imagination) المنشورة عام 2013م في بريطانيا في الكتاب الجماعي (Wrapped & Stuffed Foods: Proceedings of the Oxford Symposium on Food and cookery 2012)، وفي اللغة التركية القديمة يعود ذِكْر البوراك على الأقل إلى القرن 14م. وتقول آيلَة آلْغَارْ التركية المحاضِرة في جامعة كاليفورنيا في كتابِها Classical Turkish Cooking (الطَّبْخُ التركي الكلاسيكي) الصادر عن مارْكْ مَاكْ وِيلْيَامْسْ (Mark Mc Williams) عام 1999م، للتدليل على الجذور التركية للبوراك من وجهة نظرها، إن استهلاكَه في وقتٍ معيَّن بَلَغَ من الشعبية في مدينةِ إسطنبول أن عددَ محلاّت بَيْعِ البوراك فاق نظيرَه من المَخَابِز بِنِسبة 4 آلاف محلّ بوراك مقابل 1000 مخبزة فقط. والكاتِبة مقتنعةٌ بعد عرْضِها للعديد من الشَّواهد والقرائن وبالاستشهاد بالعالِم الفنلندي جُورْغْ رَامْسْتِيدْتْ (Georg Ramstedt) تَمَامَ الاقتناع بأن البوراك تركيٌ مثلها جسدًا وروحًا. وهذا غيرُ مستغرَب وغير مُستبْعَد في بلدٍ حَضَرَ فيه البوراك قبل قرون معزَّزًا مكرَّمًا كوجبةٍ كاملةِ العضوية على الموائد في شهر نوفمبر/تشرين الثاني من العام 1539م خلال احتفالات خِتان نجْل السلطان سليمان القانوني بعد أن كانت هذه الأكلة الرفيعة قد اشتهرتْ بأرستقراطيتها ضِمْنَ مأكولات السلاطين وكبار رجال الدولة في البلاط العثماني، لاسيما البُوَراك المحْشُو بلحمِ الدَّجاج أو بالبيض. وربما هذا الاقتران بالمجالس والموائد السُّلطانية هو الذي يَقِفُ وراء المَثَل الشعبي الذي ما زال الأتراكُ إلى اليوم يرددونه بالقول: “لَسْتُ غنيًا بِمَا يَكْفي لِأتَنَاوَلَ البُورَاك والبَاقْلاَوَة يوميًا”.

تَذكُر المصادر التاريخية العثمانية والغربية أن البوراك في أوْج ازدهار فن الطبخ العثماني خلال القرنين 16م و17م، كان يتم حشوه باللحم المفروم وبالأجبان وبالأنشوفة، أو الآنْشْوَا كما يُقال له باللغة الفرنسية،، وبلحم الدجاج وبالبصل ومختلف الخضر، وحتى بالمشمش المُجفَّف والتَّمر والكسْتنَاء والتُّفَّاح حتى بَلَغَتْ أنواعُ البُورَاك في مُختلف الأقاليم التركية المِئَات وفْقَ ما تَتَضَمَّنُهُ هذه الأُكلةُ في جوْفها وحسب أشكالها الهندسية وأساليب طهيها بالقلي أو في الفرن أو حتى بالتَّغلية في الماء…

حينذاك، في أوج تَألُّق وازدهار المطابخ العثمانية، لاسيما في تركيا، كان قصر توبكابي السلطاني في العاصمة إسطنبول يتضمن 4000 شخص، من بينهم السُّلطان وأسرته والحاشية ومختلف رجال الدولة والخَدَم. ما لا يُعرَف اليوم، هو أن حوالي 1500 منهم كانوا يُشكِّلون فريق الطباخين بمختلف التخصصات.

اعتراضات فارسية، ونزاعات بين اليونان وتركيا بشأن البُورَاك

لكن هناك من يَحْتَجُّ ويزعم أن البُورَاكَ مِن بَقَايَا الحضارة البيزنطية في اليونان، وأن جذورَه قد تمتد إلى زمنِ نظيرتها الرُّومانية مثلما يَفْعَلُ اليونانيون اليوم في اليونان وفي شطرهم من جزيرة قبْرص ومثلما يقول كلُّ من يُجارُونَهم في عَدَمِ حُبِّهِم للأتراك وقبلهم العثمانيين. لكننا نعلم أن الإمبراطورية البيزنطية لم تكن جزيرة معزولة عن بقية العالم. التاريخ يؤكد، على سبيل المثال، أن الإمبراطورة ثيودورة زوجة الإمبراطور جستنيان كانت تستقدم إلى قصرها “الطباخين من بلاد فارس والهند وبلاد الشام واليونان” على حد تعبير الباحث التونسي محمد ياسين الصيد.

ولِم لا يكون البُورَاك آشوريًا أيضًا أو بابليًا، على الأقل في مراحله الجنينية الأولى، شاهدًا على عهد الملك آشُورْبَانِيبَالْ ونظيره البابلي حمُورَابِي؟ ألا يُمكِن أن يكون شَهِدَ الميلادَ في فترةٍ أبْعد من عهدهما قبْل أكثر من 4 آلاف سنة من عَهْدِنَا ما دُمْنَا نَعرِف أن من بين أنواع البُورَاك السائد في العالم اليوم نوعٌ يُعْرَفُ بـ: “البوراك الآشوري”؟. وهذا أيضًا غير مُستبعَد ما دُمْنَا “لم نخترع شيئا منذ آدم وحواء والبشر الأوائل” على حد تعبير عجوزٍ فرنسية التقيتُها في مدينة الجزائر عام 2000م امتهنت لسنوات طويلة تصميم الأزياء بالاستلهام من اللباس التقليدي الجزائري مؤكدةً أننا لا نزيد منذ آلاف السنين على اللَّعب على التفاصيل، فيما ابتكارات البشرية في أغلبها هي نفسها في جوهرها منذ قديم الزمان.

هذا هو البوراك إذن. غذاء، تاريخ، حظوة في مجالس الحُكَّام والسلاطين، مُرونة وانفتاح على كل الطبقات وعلى جميع الأمم والثقافات، استيعاب لكل الحضارات، وتَشَبُّثٌ لا يتزعزع بالأصالة والذَّات…فالبوراك يبقى البوراك حيثما ما ارتحل عبْر القارات والأعراق والديانات.

بقلم الصحفي الأستاذ: فوزي سعد الله / المقال نُشر بتاريخ 23 مايو 2018م.

465 مشاهدة

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *