البيانو السحري

البيانو السحري

هذه السلسلة القصصية تنشر حصريا بالتعاون مع موقع معين المعرفة والكاتبة سيرين أحمد الغصاونة، جميع الحقوق محفوظة (يحظر نسخ القصص ونشرها على مواقع أخرى أو طباعتها).

وسطَ بلدةٍ تقعُ بين السّهولِ المنبسطة، كانت تعيشُ الجدّة “ألين” وحفيدتها “فيكي” في منزل صغير متواضع الحال.

وفي كلّ صباح، كانت “فيكي” تستيقظُ نشيطةً استعداداً للذّهاب إلى عملها، وهو بيع الورود.. تغسلُ وجهها، وتبدّل ثيابها، وتضع إبريق الشاي على النّار لتشربه برفقة الجدّة.

وفي أحد الأيام، وبينما كانت “فيكي” والجدّة تشربان الشاي، لاحظت الجدّة شرود حفيدتها، وانشغالها بأمرٍ ما، فسألتها لتطمئنّ على حالها: “ما بكِ يا صغيرتي؟”.

البيانو السحري 1

ردّت “فيكي” يساورها قلق خَفيّ: “لا شيء يا جدتي، أفكّر فقط بما سيحمله اليوم لي، وأدعو الله أن يكون خيراً”.

وضعت الجدّةُ كأسَ الشّاي جانباً، ودَعَت لحفيدتها قائلة: “ليسدد الله خطاك يا صغيرتي ويحفظك لي من كلّ سوء”.

دَقّت الساعةُ معلنةً أنها السابعة صباحاً، تركت “فيكي” كأس الشاي، ثم قبّلت جدتها التي قالت لها وهي تربت على ظهرها بحنان: “تفاءلي خيراً تجديه يا فيكي الغالية”.

ابتسمت “فيكي” لمقولة جدتها التي ترددها لها كلّ صباح، ثم حملت سلّتها المليئة بالورود وانطلقت لتبيع ما فيها.

جابت “فيكي” الطرقات مناديةً: “ورود.. ورود.. من يشتري منّي الورود الجميلة”، كان بعض المارّة يقتربون منها ويتناولون وردة أو اثنتين، ثم ينقدونها ثمنها ويكملون طريقهم بتفاؤل، وهذا ما كان يبعث في قلب “فيكي” السعادة، فهي كانت تحبّ كثيراً أن تسعدَ الآخرين بأيّ شكلٍ من الأشكال.

ومع دخول وقت العصر، جلست “فيكي” على حافّة الرّصيف، وصارت تعدّ بالنّقودِ لتتأكّد إن كانت ستتمكّنُ من شراء الدواء لجدّتها المريضة، ومن توفير حاجيات المنزل من الطعام والشّراب.

البيانو السحري

ومع اقترب وقت الغروب، حملت “فيكي” سلّتها” وقفلت عائدة إلى منزلها.. وفي الطّريق استوقَفَها صوتُ عزف لمقطوعة موسيقية على البيانو.. تلفّت تبحث عن مصدرِ الصّوت وسط هدوء الطريق المؤدية إلى منزلها، لكنّها لم تعثر عليه.. فقررت الجلوس على الأرض والاستمتاع بالموسيقى التي تَذَكّرُها بوالدتها التي كانت تعزف لها وهي طفلة، وتمسك أحياناً بأصابعها الصغيرة لتعلّمها العزف.

تنهدت “فيكي” مستذكرة والديها، وقالت محدثة نفسها: “آه.. لو كان والديّ يعيشان معي لكانت حالي أفضل بكثير، ولتمكنت من الاعتناء بجدتي بشكل أفضل، لكنّه القدر الذي شاء أن يرحلا بحادث سير مؤسف”.

وعندما توقف الصوت، نهضت “فيكي” ونفضت التراب عن ثيابها، وقبل أن تحمل سلّتها تريد مواصلة السير، سمعت صوتاً يطلبُ النَّجدة، فهرعت باتّجاه الصّوت، حتى وصلت إلى جرفٍ هاوٍ.. نظرت إلى الأسفلِ بِحَذَر فوجدت رجلاً عجوزاً يبدو أنه انزلقَ عن حافّة الجرف، وتمكّن بأعجوبةٍ من الإمساك بجذع شجرة ناتئ”.

قالت “فيكي” بقلق شديد: “لا تتحرّك يا عم.. سأحضر من يساعدك حالاً”.

قال الرجل بخوف: “لا وقت يا ابنتي.. لقد بقيت حقيبتي في الأعلى، وفيها حبلٌ طويلٌ فهل تربطيه بجذع شجرة قوية وتُدَلّي طرفه لي لأمسك به وأصعد؟!”.

قالت “فيكي” من دون تفكير: “سأربطه حالاً”.

تمكنت “فيكي” من تنفيذ المهمّة على أكمل وجه، ونجح الرّجل العجوز في الإمساك بالحبل والنجاة من سقوط كان مؤكداً.

شكر الرجل “فيكي” التي أنقذت حياتَهُ، ثم سألها: “ما أسمكِ يا صغيرة؟ وماذا تفعلين هنا في هذا الوقت المتأخّر؟”

ردّت “فيكي” وقد تنفست الصعداء بعد أن تمكنت من إنقاذ حياة الرجل العجوز: “اسمي فيكي.. وأعمل بائعة ورود”.

سأل الرجل باستغراب: “تعملين؟! لماذا لا تذهبين إلى المدرسة؟! فأنتِ ما زلتِ صغيرةً على العمل”.

قالت “فيكي” بصوت فيه حسرة وألم: “كيف أذهب إلى المدرسةِ وأنا لا أملكُ النّقود، ولا أحد يُنْفِقُ عليّ سوى عملي”.

واصل الرجل أسئلته: “مع مَنْ تعيشين يا ابنتي؟”.

ردّت “فيكي” وهي تهمّ بحمل سلّتها والمغادرة: “أعيشُ مع جدّتي، ليس لي في الدّنيا سواها، أحبّها كثيراً وأخافُ عليها، فهي كبيرة في السّن ومريضة، وإن لم أعمل بجدّ فلن أستطيع أن أحضر لها الدّواء.. والآن، إلى اللقاء يا عم لقد تأخّر الوقت وستقلق جدّتي عليّ”.

استوقفها الرجل العجوز قائلاً: “مهلاً يا ابنتي.. منذ اليوم ستذهبين إلى المدرسةِ وستتركين العملَ لأنّك ستملكين المالَ الذي يكفيك ويكفي جدّتك؟”.

ابتسمت “فيكي” معتقدةً أنّ كلامَ الرجل ضرب من الأوهام، بينما أكّد له وهو يقترب من حقيبته الكبيرة ويخرج منها بيانو صغير الحجم: “انظري..”..

بَرَقَت عينيّ “فيكي” فرحاً لرؤية البيانو، وعرفت أن الرّجل العجوز هو من كان يعزفُ تلك الموسيقى.

قال لها: “تأمّلي هذا البيانو.. إنه سحري”..

ووسط ذهول “فيكي” التي شعرت أنّ ما يحدث معها مجرّد حلم جميل وسينتهي، قال الرجل مؤكداً: “ستصبحين طفلة غنية تملكين النقود الكثيرة، وتبدلين ثيابك البالية، فهي لا تناسب جمالك”.

سألت “فيكي” بدهشة: “أحقاً ما تقول يا عم، أنا سوف أصبح ثرية وأملك النقود وأحقّق حلمي الجميل في الذهاب إلى المدرسة!”.

أكد الرجل العجوز بنبرةٍ واثقة: “نعم، وسوف تعيشين في منزلٍ جميل أنت وجدّتك بدلاً من المنزل الصّغير القديم الذي تسكنان فيه”.

أخذت “فيكي” تنظر بتعجّب إلى الآلة، ثم سألت: “كيف سيحدث ما تقول؟”.

أمسك الرجل العجوز بالبيانو وقال: “هذا صديقي، وأنا أحبّه جداً، فقد حصلتُ عليه هدية عندما كنت في مثل سنّك، وهو لا يشبه أي بيانو آخر، فهو سحري عجيب، واذا عزفتُ عليه معزوفتي السّحرية، وطلبتُ منه طلباً ما، حقّقه لي بسرعة”.

وفي ظلّ الحيرة التي تملّكت “فيكي”، بدأ العجوزُ العزفَ على البيانو، ثم صار يحدثه قائلاً: “أيها البيانو، بدّل حالَ فيكي من الفقر إلى الثّراء، ووفّر لها المالَ الذي يساعدها في تحقيق حلمها، واجعلها تجدُ ما يكفيها من النقود كلّ يوم تحت شجرة التوت في حديقة منزلها”.

لم تصدق “فيكي” كلمة واحدة مما قاله، واعتقدت أن ربما يعاني من الخَرَف بسبب تقدّم السّن، لكنّها لم تشأ أن تجرحه بكلمة، لذا شكرته على كلّ شيء، وحملت سلّتها وعادت إلى منزلها مودعة الرّجل وآلته.

عندما اقتربت “فيكي” من منزلها، لم تجد ذلك البناء القديم المتآكل، بل وجدت بناءً شبيهاً بالقصر، أسرعت لتدخله باحثةً عن جدّتها، وعندما وجدتها بادرت بالسّؤال: “ما الذي بدّل البناء يا جدتي”، أجابت الجدّة: “لا أعلم يا صغيرتي، كنت أجلسُ بانتظاركِ عندما خَطَفَ بصري نورٌ أضاءَ المكان بوهجه، وعندما اختفى وجدتُني في مكاني المعتاد، لكن المنزل تغيّر وأصبح على هذه الحال من القوة والجمال”.

ردّدت “فيكي” بسعادة بالغة وقد عرفت أن ما قام به الرجل العجوز ليس أوهاماً أو أحلاماً: “إنه البيانو السّحري.. البيانو السّحري..”.

ركضت لتتفقّد شجرةَ التوت، فرأت في أسلفها صندوقاً خشبيّاً، فتحته فوجدت القطع النقدية بداخله.

عادت “فيكي” المنزل، وبدأت تحدث جدّتها من دون انقطاع عمّا صادفته خلال طريق عودتها، وعن الرجل العجوز والبيانو السحري..

البيانو السحري 2
البيانو السحري 5

سعدت الجدة بما سمعته، وقالت بفرح واطمئنان: “الحمد لله يا صغيرتي أن يسّب لك هذا الرّزق الذي تستحقين”.

قالت “فيكي” بامتنان وهي تحتضن جدّتها: “شكراً يا جدتي.. ومعك كلّ الحقّ في أنّ الصّبرَ مفتاح الفَرَج دائماً”.

330 مشاهدة