العيش داخل الهاتف

العيش داخل الهاتف

كنا عائلة والمودة جاراتنا ، التراحم صاحبنا، والسعادة قريبتنا، كنا نحيا حياة جميلة على رغم بساطتها، نلتقي يوميا ونتحاور كثيرا نتحاب ونتهادى ونجتمع على مائدة العشاء بنشاط وفرح، نعرف طعم كل شيء نتقاسم الأفراح والأشجان، ونعرف معنى الاستقرار والدعة.

إلى أن طرق بابنا ضيف غريب لم نعرفه من ذي قبل، توجسنا منه خيفة وقلنا لن نتكلف استقباله يبدو عليه التفاخر غير المبرر وقد لا يليق بنا الرياء والمباهاة وأدرنا ظهورنا له، لكنه كان لبقا وبمظهره الجميل اللائق تواضع إلينا وعكس شعاعا من النور والأمل وفتح باب الفضول علينا فسمحنا له بالدخول.

في البداية كان متحفظا يجلس في مكان بعيد عنا ولا نخالطه إلا لحاجة، شيئا فشيئا بدأ يغرينا بالاقتراب منه أكثر وفي كل مرة يطلعنا على شيء جديد ومن غير وعي صرنا منجذبين إليه مهتمين به أشد ما اهتمام، بل غدونا نجالسه صبح مساء ونصطحبه معنا إلى كل مكان نقصده وإن صادف أن نسينا أخذه وخرجنا نسارع بالعودة إليه… وهكذا مرت الأيام وتبدلت أحوالنا وأصبحنا لا نسلم على بعضنا إلى عن طريقه ولا نرى الملامح إلا من خلاله ولا نعرف أخبارنا إلا منه، لقد تغير مظهرنا واعتلى الشحوب وجوهنا وأحاطت الهالات السوداء عيوننا وقلّ تركيزنا ونال منا التعب، لأن ساعات نومنا قلت بسبب الانهماك بالضيف الذي صار الحاكم الناهي بيننا، ووجدنا أنفسنا عالقين داخله فهل عرفتم من هذا الضيف الثقيل الذي ادعى الخفة ليستحوذ على حياتنا وأوهمنا أنه سييسر أعباءنا فحملنا رهقا، بلا أدنى شك هو ” الهاتف” …نعم من غير مبالغة لقد صرنا نعيش محاصرين داخل الهاتف.

أثر علينا بسطوته ودعانا للتخلي عن القيم الدينية والتقليدية وحثنا على التمرد مدعيا أنه انفتاح ومنتهى الحرية، غير اهتماماتنا ودعانا للاهتمام بالموضة والاندماج في العصرنة، معتبرا ذلك مقياسا للحضارة، وحتى لا نشك أغرانا ببعض المكاسب المادية وتحقيق الأرباح والشهرة ولو بفتح قنوات لا فائدة مرجوة منها أو نشر فيديوهات لا قيمة لها بتصرفات مخالفة شرعا أو مرفوضة عرفا، المهم تحقيق أكبر عدد مشاهدات والحصول على الاعجابات أي اللايكات حسب منطق الهاتف، وفتح الباب على عالم براق جعل الجميع يتمنى السفر إليه ويرى الهجرة للخارج حلما يجب أن يتحقق.

 ولأن القيم والمعايير تراجعت صارت العلاقات تتسم بالفتور وغدا التماسك الأسري هشا فحتى عند اللقاءات العائلية وفي المناسبات كل واحد منزو في ركن ويعبث بشاشة هاتفه، يتفاعل معه تماما وإن حدث وكلَّمّ أحدهم الآخر فسيكون لتقاسم ما يعرضه الهاتف الذي أوجد البديل بخلق علاقات وهمية أباحت واستباحت الخصوصيات وحتى المحظورات مع الغرباء من جنسيات مختلفة وبثقافات ومعتقدات مغايرة تماما.

  لم ندرك بعد أننا نستهلك الزمن في استثمار اللاشيء، وغدا الهاتف يسيطر علينا تماما بل هي حالة إدمان بحجة أنه يسهل الحياة ويقرب المسافات ويوفر المعلومات، لكن الحقيقة أننا بتنا سجناء نعيش داخله إناثا وذكورا، صغارا وكبارا ولا نتحكم بما يحدث لنا وحولنا لتعلقنا الشديد به وما يعرضه من ماديات.

 في صغري قرأت قصة رجل يعيش في قارورة بعنوان ” LIFE IN A BOTTLE” بدت لي القصة خيالية فيستحيل أن يعيش الإنسان داخل قارورة لكن رمزية التصوير تحققت اليوم في عصر التكنولوجيات الحديثة، وصار الناس يعيشون محاصرين داخل الهاتف الذي يسبب أغلب حوادث المرور المميتة ويدمر أكثر الأبنية الاجتماعية تماسكا لنبقى نعيش حالة فوضى وشتات واغتراب مع الذات والمجتمع.

والأدهى أن الهاتف استوطن بعدما كان ضيفا ودعا كل أقرابائه من ألواح رقمية وحواسيب محمولة وغيرها من الأجهزة التي يسيء الإنسان استخدامها فتنقلب عليه وتعلنه غزوا تكنولوجيا يصعب إيقافه.

326 مشاهدة

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *