بحث حول البنيوية

بحث حول البنيوية

بحث حول البنيوية 1

تعريفها ، تاريخها ، أبرز من عمل على تطويرها ، مفاهيمها ، أنواعها ، أفكارها ومعتقداتها ، جذورها الفكرية ، رواد البنيوية في أوروبا ، تقييمها ، أهم الانتقادات الموجهة لها ، البنيوية في العالم العربي.

تعريف البنيوية:

هي منهج فكري وأداة للتحليل، تقوم على فكرة الكلية أو المجموع المنتظم. اهتمت بجميع نواحي المعرفة الإنسانية، وإن كانت قد اشتهرت في مجال علم اللغة والنقد الأدبي، ويمكن تصنيفها ضمن مناهج النقد المادي الملحدة.
اشتق لفظ البنيوية من البنية إذ تقول: كل ظاهرة، إنسانية كانت أم أدبية، تشكل بنية، ولدراسة هذه البنية يجب علينا أن نحللها أو نفككها إلى عناصرها المؤلفة منها، بدون أن ننظر إلى أية عوامل خارجية عنها.
والبنيوية أساساً هي منهج بحث مستخدم في عدة تخصصات علمية تقوم على دراسة العلاقات المتبادلة بين العناصر الأساسية المكونة للبنى فيمكن أن تكون: عقلية مجردة، لغوية، اجتماعية، ثقافية، وبالتالي فإن البنيوية تصف مجموعة نظريات مطبقة في علوم ومجالات مختلفة مثل الإنسانيات والعلوم الاجتماعية والاقتصاد؛ لكن ما يجمع جميع هذه النظريات هو تأكيدها على أن العلاقات البنيوية بين المصطلحات تختلف حسب اللغة والثقافة، وأن هذه العلاقات البنيوية بين المكونات والاصطلاحات يمكن كشفها ودراستها، وبالتالي تصبح البنيوية مقاربة أو طريقة (منهج) ضمن التخصصات الأكاديمية بشكل عام يستكشف العلاقات الداخلية للعناصر الأساسية في اللغة، والأدب، أو الحقول المختلفة للثقافة بشكل خاص مما يجعلها على صلة وثيقة بالنقد الأدبي وعلم الإنسان الذي يعنى بدراسة الثقافات المختلفة. تتضمن دراسات البنيوية محاولات مستمرة لتركيب “شبكات بنيوية” أو بنى اجتماعية أو لغوية أو عقلية عليا.
من خلال هذه الشبكات البنيوية يتم إنتاج ما يسمى “المعنى” من خلال شخص معين أو نظام معين أو ثقافة معينة، ويمكن اعتبار البنيوية كاختصاص أكاديمي أو مدرسة فلسفية بدأت حوالي سنة 1958م وبلغت ذروتها في الستينات والسبعينات.(1)

تاريخ البنيوية:

برزت البنيوية في بدايتها في مطلع القرن التاسع عشر ضمن حقل علم النفس، لكن نجمها سطع فعلاً في منتصف القرن العشرين حين لاقت شعبية منقطعة النظير مخترقة جميع أنواع العلوم والتخصصات. ظهرت البنيوية كمنهج ومذهب فكري على أنها ردة فعل على الوضع (الذري .. من الذرة أصغر أجزاء المادة) الذي ساد العالم الغربي في بداية القرن العشرين، وهو وضع تغذى من وانعكس على تجزؤ المعرفة وتفرعها إلى تخصصات دقيقة متعددة تم عزلها بعضها عن بعض لتجسد من ثم (إن لم تغذ) مقولة الوجوديين حول عزلة الإنسان وانفصامه عن واقعه والعالم من حوله، وشعوره بالإحباط والضياع والعبثية، ولذلك ظهرت الأصوات التي تنادي بالنظام الكلي المتكامل والمتناسق الذي يوحد ويربط العلوم بعضها ببعض، ومن ثم يفسر العالم والوجود ويجعله مرة أخرى بيئة مناسبة للإنسان.
ولا شك أن هذا المطلب مطلب (عقدي) إيماني، إذ أن الإنسان بطبعه بحاجة إلى (الإيمان) مهما كان نوعه. ولم يشبع هذه الرغبة ما كان وما زال سائداً من المعتقدات الأيديولوجية، خاصة الماركسية والنظرية النفسية الفرويدية، فقد افتقرت مثل تلك المذاهب إلى الشمول الكافي لتفسير الظواهر عامة، وكذلك إلى (العلمية) المقنعة، ظهرت البنيوية (ولعلها ما زالت) كمنهجية لها إيحاءاتها الإيديولوجية بما أنها تسعى لأن تكون منهجية شاملة توحد جميع العلوم في نظام إيماني جديد من شأنه أن يفسر علمياً الظواهر الإنسانية كافة، علمية كانت أو غير علمية. من هنا كان للبنيوية أن ترتكز مرتكزاً معرفياً (إبستيمولوجيا).
فاستحوذت علاقة الذات الإنسانية بلغتها وبالكون من حولها على اهتمام الطرح البنيوي في عموم مجالات المعرفة: الفيزياء، والرياضيات، والأنثروبولوجيا، وعلم الاجتماع، والفلسفة والأدب. وركزت المعرفة البنيوية على كون (العالم) حقيقة واقعة يمكن للإنسان إدراكها. ولذلك توجهت البنيوية توجهاً شمولياً إندماجياً يعالج العالم بأكمله بما فيه الإنسان.(2)

أبرز من عمل على تطوير البنيوية:

كانت البنيوية في أول ظهورها تهتم بجميع نواحي المعرفة الإنسانية ثم تبلورت في ميدان البحث اللغوي والنقد الأدبي وتعتبر الأسماء الآتية هم مؤسسو البنيوية في الحقول المذكورة:
– ففي مجال اللغة برز “فريدنان دي سوسير” الذي يعد الرائد الأول للبنيوية اللغوية الذي قال ببنيوية النظام اللغوي المتزامن، حيث أن سياق اللغة لا يقتصر على التطورية، أن تاريخ الكلمة مثلاً لا يعرض معناها الحالي، ويمكن في وجود أصل النظام أو البنية، بالإضافة إلي وجود التاريخ، ومجموعة المعاني التي تؤلف نظاماً يرتكز على قاعدة من التمييزات والمقابلات، إذ إن هذه المعاني تتعلق ببعضها، كما تؤلف نظاماً متزامناً حيث أن هذه العلاقات مترابطة.
– وفي مجال علم الاجتماع برز كلا من: “كلود ليفي شتراوس” و”لوي التوسير” الذين قالا: إن جميع الأبحاث المتعلقة بالمجتمع، مهما اختلفت، تؤدي إلى بنيويات؛ وذلك أن المجموعات الاجتماعية تفرض نفسها من حيث أنها مجموع وهي منضبطة ذاتياً، وذلك للضوابط المفروضة من قبل الجماعة.
– وفي مجال علم النفس برز كل من “ميشال فوكو” و”جاك لاكان” اللذين وقفا ضد الاتجاه الفردي في مجال الإحساس والإدراك وإن كانت نظرية الصيغة أو الجشتلت التي ولدت سنة 1912م تعد الشكل المعبر للبنيوية النفسية.(3)

مفاهيم البنيوية:

تستند البنيوية إلى مجموعة من المصطلحات والمفاهيم الإجرائية في عملية الوصف والملاحظة والتحليل وهي أساسية في تفكيك النص وتركيبه كالنسق والنظام والبنية، والداخل والعناصر والشبكة والعلاقات، والثنائيات وفكرة المستويات وبنية التعارض والاختلاف، والمحايثة والسانكرونية والدياكرونية، والدال والمدلول والمحور التركيبي والمحور الدلالي، والمجاورة والاستبدال والفونيم والمورفيم والمونيم والتفاعل، والتقرير والإيحاء، والتمفصل المزوج ….الخ.
وهذه المفاهيم ستشتغل عليها فيما بعد كثير من المناهج النقدية ولاسيما السيميوطيقا الأدبية والأنثروبولوجيا والتفكيكية والتداوليات وجمالية القراءة والأسلوبية والموضوعية.(4)

أنواع البنيوية:

إذا تأملنا البنيوية جيداً وبعمق دقيق باعتبارها مقاربة ومنهجاً وتصوراً فإننا سنجد بنيويات عدة وليس بنيوية واحدة:(5)
– البنيوية اللسانية: مع “دوسوسور” و”مارتنيه” و”هلمسليف” و”جاكبسون” و”تروبوتسكوي” و”هاريس” و”هوكيت” و”بلومفيلد”.
– البنيوية السردية: Narratologie مع “رولان بارت” و”كلود بريمون” و”جيرار جنيت”.
– البنيوية الأسلوبية: stylistique مع “ريفاتير” و”ليو سبيتزر” و”ماروزو” و”بيير قيرو”.
– البنيوية الشعرية: مع “جان كوهن” و”مولينو” و”جوليا كريستيفا” و”لوتمان”.
– البنيوية الدراماتورجية: أو المسرحية Dramaturgie مع “هيلبو”.
– البنيوية السينمائية: مع “كريستيان ميتز”.
– البنيوية السيميوطيقية: مع “غريماس” و”فيليب هامون” و”جوزيف كورتيس”.
– البنيوية النفسية: مع “جاك لاكان” و”شارل مورون”.
– البنيوية الأنثروبولوجية: مع زعيمها “كلود ليڤي شتراوس” الفرنسي و”فلاديمير بروب” الروسي.
– البنيوية الفلسفية: مع “جان بياجيه” و”ميشيل فوكو” و”جاك دريدا” و”لوي ألتوسير”.
– البنيوية التكوينية: (Genetie Structuralism) والبنيوية التكوينية، أو التوليدية، فرع من فروع البنيوية نشأ استجابة لسعي بعض المفكرين والنقاد الماركسيين للتوفيق بين أطروحات البنيوية، في صيغتها الشكلانية، وأسس الفكر الماركسي أو الجدلي، كما يسمى أحياناً، في تركيزه على التفسير المادي الواقعي للفكر والثقافة عموماً.
أسهم عدد من المفكرين في صياغة هذا الاتجاه منهم المجري “جورج لوكاش”، والفرنسي “بيير بورديو”. غير أن المفكر الأكثر إسهاماً من غيره في تلك الصياغة هو الفرنسي الروماني الأصل “لوسيان غولدمان”. وكانت أطروحات “غولدمان” نابعة وبشكل أكثر وضوحاً من أطروحات المفكر والناقد المجري “جورج لوكاش” الذي طور النظرية النقدية الماركسية باتجاهات سمحت لتيار كالبنيوية التكوينية بالظهور وعلى النحو الذي ظهرت به، في الوقت الذي أفاد فيه أيضاً من دراسات عالم النفس السويسري “جان بياجيه”، وقد أشار “غولدمان” إلى تأثير “بياجيه” تحديداً في استعماله لمصطلح (البنيوية التكوينية): (لقد عرّفنا أيضاً العلوم الإنسانية الوضعية، وبتحديد أكثر المنهج الماركسي بتعبير مماثل تقريباً استعرناه، علاوة على ذلك، من طجان بياجيه”، وهو البنيوية التكوينية.

أفكار النظرية البنيوية ومعتقداتها:

إن دراسة أي ظاهرة أو تحليلها من الوجهة البنيوية. يعني أن يباشر الدارس أو المحلل وضعها وبحيثياتها وتفاصيلها وعناصرها بشكل موضوعي، من غير تدخل فكره أو عقيدته الخاصة في هذا، أو تدخل عوامل خارجية (مثل حياة الكاتب، أو التاريخ) في بنيان النص. وكما يقول البنيويون: “نقطة الارتكاز هي الوثيقة لا الجوانب ولا الإطار.
وأيضاً: “البنية تكتفي بذاتها. ولا يتطلب إدراكها اللجوء إلى أي من العناصر الغريبة عن طبيعتها”.
وكل ظاهرة – تبعاً للنظرية البنيوية – يمكن أن تشكل بنية بحد ذاتها؛ فالأحرف الصوتية بنية، والضمائر بنية، واستعمال الأفعال بنية وهكذا.
تتلاقى المواقف البنيوية عند مبادئ عامة مشتركة لدى المفكرين الغربيين، وفي شتى التطبيقات العملية التي قاموا بها، وهي تكاد تندرج في المحصلات التالية:
– السعي لحل معضلة التنوع والتشتت بالتوصل إلى ثوابت في كل مؤسسة بشرية.
– القول: بأن فكرة الكلية أو المجموع المنتظم هي أساس البنيوية، والمردُّ التي تؤول إليه في نتيجتها الأخيرة.
– لئن سارت البنيوية في خط متصاعد منذ نشوئها، وبذل العلماء جهداً كبيراً لاعتمادها أسلوباً في قضايا اللغة، والعلوم الإنسانية والفنون، فإنهم ما اطمأنوا إلى أنهم توصلوا، من خلالها، إلى المنهج الصحيح المؤدي إلى حقائق ثابتة.
– في مجال النقد الأدبي، فإن النقد البنيوي له اتجاه خاص في دراسة الأثر الأدبي يتخلص: في أن الانفعال والأحكام الوجدانية عاجزة تماماً عن تحقيق ما تنجزه دراسة العناصر الأساسية المكونة لهذا الأثر، لذا يجب أن تفحصه في ذاته، من أجل مضمونه، وسياقه، وترابطه العضوي، فهذا أمرٌ ضروري لا بد منه لاكتشاف ما فيه من ملامح فنية مستقلة في وجودها عن كل ما يحيط بها من عوامل خارجية.
– إن البنيوية لم تلتزم حدودها، وآنست في نفسها القدرة على حل جميع المعضلات وتحليل كل الظواهر، حسب منهجها، وكان يخيل إلى البنيويين أن النص لا يحتاج إلا إلى تحليل بنيوي كي تنفتح للناقد كل أبنية معانيه المبهمة أو المتوارية خلف نقاب السطح. في حين أن التحليل البنيوي ليس إلا تحليلاً لمستوى واحد من مستويات تحليل أي بنية رمزية، نصيّة كانت أم غير نصيّة. والأسس الفكرية والعقائدية التي قامت عليها، كلها تعد علوماً مساعدة في تحليل البنية أو الظاهرة، إنسانية كانت أم أدبية.
– لم تهتم البنيوية بالأسس العَقَديَّة والفكرية لأي ظاهرة إنسانية أو أخلاقية أو اجتماعية، ومن هنا يمكن تصنيفها مع المناهج المادية الإلحادية، مثل مناهج الوضعية في البحث، وإن كانت هي بذاتها ليست عقيدة وإنما منهج وطريقة في البحث.(6)

الجذور الفكرية والعقائدية للنظرية البنيوية:

تعد الفلسفة الوضعية لدى “كونت”، التي لا تؤمن إلا بالظواهر الحسية – التي تقوم على الوقائع التجريبية – الأساس الفكري والعقدي عند البنيوية.
فهي تؤمن بالظاهرة – كبنية – منعزلة عن أسبابها وعللها، وعما يحيط بها وتسعى لتحليلها وتفكيكها إلى عناصرها الأولية، وذلك لفهمها وإدراكها ومن هنا كانت أحكامها شكلية كما يقول منتقدوها، ولذا فإن البنيوية تقوم على فلسفة غير مقبولة من وجهة نظر تصورنا الفكري والعقدي.
ويرى بعض المنظرين لتاريخ النظرية السوسيولوجية أن البنيوية ترتبط بصورة كبيرة بالنظرية الماركسية التقليدية، حيث أن البنيوية كنظرية سوسيولوجية جاءت كرد فعل للأفكار الأيديولوجية الماركسية التقليدية وفشلها في تفسير الواقع المتغير، ولعدم ملاءمتها لتفسير هذا الواقع الذي اختلف من حيث الزمان والمكان عندما وضع “ماركس” وزملائه نظريتهم المادية التاريخية، فالواقع السياسي والاجتماعي للمجتمعات الغربية وما حدث خلال الربع الأخير من القرن العشرين، يبرهن على مدى عمق النظرية الماركسية التقليدية وما استطاعته من تفسير للواقع الجديد.
فالنظرة الشمولية والأيديولوجية الماركسية سواء في الممارسة السياسية أو النظرية المجردة كانت في مواجهة مستمرة للانتقادات، ولذا فهي لم تخل من الجدل المستمر في داخل أوساطها وهو ما برز بالفعل في الواقع الحالي للأحزاب الشيوعية الغربية أو الشرقية وحتى في دول العالم النامي، والبنيوية جاءت لتفسر الواقع الاجتماعي الحديث وذلك بتركيزها على العوامل الثقافية والمعرفية والسياسية والاقتصادية قي نفس الوقت، وهي بذلك تحاول وضع نظرية سوسيولوجية تفسر هذه العوامل وطرح البدائل النظرية والأطر المرجعية الماركسية البنيوية، ويطلق عليها أيضاً اسم الماركسية أو الشيوعية الأوروبية.(7)

رواد البنيوية في أوروبا:

من أبرزهم : (😎

1 – “لوكاتش” (lukace ) و الوعي الطبقي:

“جورج لوكاتش” عاش بين 1885م – 1971م مجري الأصل، مفكر ماركسي أيد الماركسية كنظرية ومنهجا وأسلوبا في الحياة، وأيديولوجية شيوعية، أعماله الأولية لم تكن مرتبطة بالماركسية كأيديولوجية عالمية، بل شملت الأدب والفن، والفلسفة والسياسة، وأيضاً علم الاجتماع، تبنى الماركسية بعد الحرب العالمية الأولى مع مجموعة من العلماء الشبان “كارل منها يم”، و”ارنولد هوسر”، و”بيلابارتوك”، “كودالي” وركز هؤلاء على دراسة مشاكل الديمقراطية والثقافة، عام 1918م التحق بالحزب الشيوعي كتب عدت مقالات حلل فيها الماركسية والرأسمالية البرجوازية.
نشر كتابه المميز (التاريخ والوعي الطبقي) مع بداية العشرينيات الذي تم نقده بواسطة الماركسيين أنفسهم ،لأنه انتقد “ماركس” و”انجلز”، والذي كان في رأي “انجلز” قد حول الماركسية من نظرية جدلية إلي نظرية اجتماعية متغيرة، وعالج الوعي الطبقي فيها على أنه نوع من الإنتاج السلبي الذي ظهر نتيجة لمجموعة من القوى الخارجية، و”ماركس” ركز على الظروف الاقتصادية في تشكيل الوعي والصراع الطبقي.
وحاول في كتابه هذا إعادة تحليل النظرية السوسيولوجية عند “ماركس” وربطها بأصولها الهيجلية واستعان “لوكاتش” بالمسلمة الأساسية في المنهج الجدلي (الكل سابق على الأجزاء) وهو بذلك يؤكد على نفسه المسلمة الهيجلية، وهو بذلك يحاول إثبات أن الحركة الاشتراكية الماركسية لا يمكن أن تفهم إلا من خلال الكل الذي تنتمي إليه، ألا وهو المجتمع الخارجي والذي يعطيها كل مظاهر التطور والاتصال والصراع الدموي.
انتُقد بخروجه عن المسلمات والمبادئ الماركسية لكنه حاول إظهار الماركسية على أنها ممارسة ثورية يكون الفرد ذاته عنصراً هاماً وليس مادة لفهم العملية المادية التاريخية، سعى لعقد مقارنة بين الوعي الطبقي للطبقة العاملة، وبين البرجوازية أو الطبقة الرأسمالية، كون الأولى تنظر إلى المجتمع باعتباره ككل مترابط ووحدة واحدة، أما البرجوازية فإنها تنظر إلى حقيقتها وفهمها ذاتياً من خلال وعيها الزائف.
أما اجتماعياً فاهتم بمعالجة قضايا الاغتراب والتشيؤ باعتبارهما من أهم العناصر التي تسهم في عملية تكوين الوعي، وهذا ما حاوله بالفعل في عقد مقارنة بين كل من الفكر البرجوازي والبروليتاري وتحليلهما لمثل هذه القضايا، وأفكار “لوكا تش” تعكس بعده عن التفسيرات المادية الماركسية التقليدية كلية وخاصة تفسيره لكل من الاغتراب والتشيؤ.

2 – “جرامش” (Gramsci) والزعامة السياسية والثقافية:

تكمن أهمية إسهامات المفكر الايطالي “انطونيو جرامش” (الذي عاش ما بين عام 1891م – 1937م) في إعادة تحليل الأفكار الماركسية التقليدية كما تعكس وجهة نظر الماركسية الأوربية التي ظهرت خلال العقود الأولى من القرن العشرين، حرص “جرامش” على إبراز أهمية الصراع حول الأفكار، واعتباره عنصراً هاماً في الحياة الاجتماعية، مثل المصالح الاقتصادية، وفي الواقع يرى “جرامش” أن الصراع من أجل المصالح الاقتصادية يعتبر في حد ذاته موجهاً من خلال معركة الأفكار، وأفكار “جرامش” ركزت على ضرورة توظيف العلم وتفسيره للحياة الاجتماعية، وفي حدود مفاهيم العلم ذاته، الذي من خلاله أيضاً ركز “جرامش” على نسق الأفكار والمعرفة كأساس لإعادة تقييم وتفسير الدور الرئيسي الذي يملك أن يلعبه الصراع في التغير الاجتماعي، وإن كان هذا الصراع يوجه عموماً من أجل الزعامة أو ما يعرف بالقيادة الثقافية في المجتمع فهي تعتبر عاملاً مهماً مثل القوة الاقتصادية.
وأهم أفكار “جرامش” تتجلى في فكرتين هما:
– فكرة الزعامة.
مفهوم الزعامة عند “جرامش” هو: مجموعة الأنشطة الفكرية والثقافية التي تعمل فقط كوظيفة للمتغيرات الاقتصادية، ولكنها تعمل لخلق مجال جديد للصراع الاجتماعي والسيطرة والمقاومة، علاوة على ذلك، إن صراع الأفكار يعتبر جزءاً هاماً في النظام العام للصراع.
لقد أصبح هذا التصور من الأفكار العامة التي تطرح ذاتها على مجالات علم الاجتماع والمتخصصين فيه، لا سيما بعد زيادة نفوذ التحليلات المرتبطة بالدراسات الإعلامية والمعلوماتية، التي استقلت كثيراً عن مجال العمل الأكاديمي وخاصة بعد زيادة نفوذ طبقة المثقفين والمفكرين من خارج هذا المجال، وهذا ما هو ظاهر بالفعل في المجتمعات الرأسمالية وحتى المجتمعات ذات الطابع الاشتراكي.
تبنى “جرامش” الزعامة كقوة وأسلوب للتغير والتحديث والوعي الطبقي للعمال عن طريق خلق نوع من القبول والموافقة بين جميع الطبقات الاجتماعية مع استخدام أيضاً أنواع من القهر إذا أمكن ذلك.
– صفوة المثقفين.
أكد “جرامش” على الدور الفعال للمثقفين في تكوين وبناء الأيديولوجيات وتدعيم عناصر الموافقة أو القبول التي تؤدي إلى ظهور الزعامة السياسية للطبقات الاجتماعية العمالية، كما تظهر وظائف أخرى للمثقفين ممثلة في دورهم لدعم عناصر التماسك الاجتماعي، وهذا ما جعله يعرف المثقفين (بأنهم من يقومون بمجموعة من المهام أو الوظائف داخل مجال الإنتاج والثقافة والإدارة العامة) فـ”جرامش” سعى لتحليل الدور الوظيفي للمثقفين باعتبارهم يقومون بوظائف التنظيم داخل مؤسسات العمل، والإنتاج، والإدارة العامة، إذاً فطبقة المثقفين تلعب دور العنصر الفعال والمنظم لظهور مجتمع الزعامة، والايدولوجيا الموحدة عن طريق خلق الوعي الطبقي وما اسماه الاتفاق أو القبول، وميز “جرامش” بين نوعين من المثقفين:
أولاً: النموذج العضوي:
يمثل ذلك مجموعة الخبراء الذين يلعبون دوراً أساسياً في تغير وتحديث نمط الإنتاج، وبالتالي فهي تنتمي إلى جماعات اجتماعية مختلفة هدفها تحقيق نوع من الضبط والتوجيه في المجتمع عامة.
ثانياً: النموذج التقليدي:
المثقفين لا يرتبطون كلية سواء بأسلوب أو نمط الإنتاج، وإن كانت لهم خصائص طائفية ومهنية يمثل ذلك المثقفين الكنسيين، والمحامين والمدرسين وغيرهم من الفئات الثقافية المهنية، ولذا فهذه الطبقات تظل بعيدة عن الطبقات المسيطرة بالرغم من دورها البارز في خلق الزعامة والطبقة المسيطرة ذاتها.

3 – “التوسير” (Althusser) و البنيوية والفعل الإنساني:

ترتبط النظرية البنيوية بإسهامات الفيلسوف والمفكر الاجتماعي الفرنسي ” لوي بيير ألتوسير” (الذي عاش بين عام 1918م-1990م)، كما تنتمي تحليلاته إلى تبني الاتجاه النقدي لتحليل الماركسية التقليدية، كمحاولة منه لإعادة تحليلها بصورة ترتبط مع الواقع الاجتماعي الذي ظهر خلال النصف الأخير من القرن العشرين، ومن أهم كتاباته:
من “أجل ماركس”، “قراءة رأس المال”، “لينين والفلسفة”، ومقالات في النقد الذاتي، علاوة على مجموعة أخرى من المقالات، تتناول عدد من القضايا في مجال النظرية البنيوية وتطور السوسيولوجية المعاصر عامة.
من أهم أفكاره:
  • أولاً: النظرية العلمية والنظرية الاجتماعية.
  • ثانياً: البنيوية والفعل الإنساني.
  • ثالثاً: نمط الإنتاج.
  • رابعاً: نظرية إعادة الإنتاج الثقافي.

تقييم النظرية البنيوية:

جاءت النظرية البنيوية كرد فعل نقدي لكل من النظريات السوسيولوجية السابقة عليها، وخاصة ما يعرف بالنظريات الكبرى، وكانت محاولات النظرية البنيوية التركيز على:
– إعادة تقييم النظريات السوسيولوجية والإطار المرجعي والإطار التصورية التي تقوم عليها عند تفسير المشكلات الواقعية والمجتمعية.
– التركيز على إعادة تحليل الفكر الماركسي التقليدي.
– محاولة وضع نظرية بديلة تكون أكثر حداثة عن النظريات الكبرى، وتفسيرها خاصة للمجتمع الرأسمالي.
أما أهمية البنيوية فتكمن في محاولتها لتحديث المفاهيم والمصطلحات التي تستخدمها النظرية السوسيولوجية، كما حاول بعض الرواد الرجوع والعودة إلى المنهج الجدلي عند “هيجل”، وهو المنهج الذي سار عليه ماركس وطرح أفكاره التقليدية وبني عليه نظرياته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
استخدم رواد هذه النظرية هذا المنهج في مناقشة العديد من القضايا والمشكلات والمفاهيم المرتبطة بها دراسة الطبقة، والصراع الطبقي، والحقيقة الاجتماعية، والوعي، وعلاقات الإنتاج، والثقافة، والاغتراب، والايدولوجيا، والبناء والوظيفية الاجتماعية، والصفوة والسيطرة، والزعامة.

أهم الانتقادات الموجهة للنظرية البنيوية:

1- جاءت آراء البنيوية مرتبطة بالعديد من القيم الأيديولوجية السياسية التاريخية، وحاولت بناء تاريخ خاص بها بعيداً عن تاريخ البشرية، جعلها مليئة بالتناقضات في تحليلاتها.
2- فقدت الرؤى الواقعية والحقيقية عند تفسيرها للعديد من الظواهر أو المشكلات التي تم معالجتها بما فيها أفكار “ماركس” التقليدية التي سعت لإعادة تحليلها.
3- حرصت البنيوية في انتقادها لكل من المركسية أو البنائية الوظيفية أو غيرها من النظريات السوسيولوجية أن تتبنى النزعة العلمية، وهذا ما يجعل البعض يصفها بأنها نظرية دوجماتية (تدور حول معتقدات أو مبادئ معينة) وحاولت إبراز الحقائق الكامنة والظاهرة بصورة بعيدة عن الواقع التاريخي ذاته.
4- فقدت المصداقية والفعالية والرؤية العامة عند تحليلها للفاعل والوعي، باعتبارهما من المسلمات العامة.
5- اهتمت بالتحليلات النظرية الخالصة، في محاولتها لإعادة تفسير الفكر الماركسي، لكنها لم تتبن التحقيق من هذه التحليلات عن طريق إجراء بحث ميداني، هذا ما افقدها الكثير من قيمتها كنظرية سوسيولوجية مقارنة بالنظرية الماركسية التقليدية.
6- انتقدت كنظرية اجتماعية لأنها حرصت على ضرورة التأكيد على عدد من المقولات أو المبادئ الفكرية بصورة حتمية وهذا ما جعلها توصف بالنظرية البنائية الحتمية.(9)
البنيوية في العالم العربي:
لم تظهر البنيوية في الساحة الثقافية العربية إلا في أواخر الستينيات وبداية السبعينيات عبر الثقافة والترجمة والتبادل الثقافي والتعلم في جامعات أوربا. وكانت بداية ظهور البنيوية في عالمنا العربي في شكل كتب مترجمة ومؤلفات تعريفية للبنيوية “صالح فضل، وفؤاد زكريا، وفؤاد أبو منصور، وريمون طحان، ومحمد الحناش، وعبد السلام المسدي، وميشال زكريا، وتمام حسان، وحسين الواد، وكمال أبو ديب، لتصبح بعد ذلك منهجية تطبق في الدراسات النقدية والرسائل والأطاروحات الجامعية.
ويمكن اعتبار الدول العربية الفرانكوفونية هى السباقة إلى تطبيق البنيوية وخاصة دول المغرب العربي ولبنان وسوريا، لتتبعها مصر ودول الخليج العربي.
ومن أهم البنيويين العرب في مجال النقد بكل أنواعه: حسين الواد، وعبد السلام المسدي، وجمال الدين بن الشيخ، وعبد الفتاح كليطو، وعبد الكبير الخطيبي، ومحمد بنيس، ومحمد مفتاح، ومحمد الحناش، وموريس أبو ناضر، وجميل شاكر، وسمير المرزوقي، وصلاح فضل، وفؤاد زكريا، وعبد الله الغذامي.(10)
حقيقة البنيوية:
أن البنيوية منهج فكري نقدي مادي ملحد غامض، يذهب إلى أن كل ظاهرة إنسانية كانت أم أدبية تشكل بنية، لا يمكن دراستها إلا بعد تحليلها إلى عناصرها المؤلفة منها، ويتم ذلك دون تدخل فكر المحلل أو عقيدته الخاصة ونقطة الارتكاز في هذا المنهج هي الوثيقة، فالبنية، لا الإطار، هي محل الدراسة، والبنية تكفي بذاتها ولا يتطلب إدراكها اللجوء إلى أي عنصر من العناصر الغريبة عنها، وفي مجال النقد الأدبي، فإن الانفعال أو الأحكام الوجدانية عاجزة عن تحقيق ما تنجزه دراسة العناصر الأساسية المكونة لهذا الأثر، ولذا يجب فحصه في ذاته من أجل مضمونه وسياقه وترابطه العضوي، والبنيوية، بهذه المثابة، تجد أساسها في الفلسفة الوضعية لدى “كونت”، وهي فلسفة لا تؤمن إلا بالظواهر الحسية، ومن هنا كانت خطورتها.

الهامش:

(1) “التَشيُّؤ” ترجمة للكلمة الإنجليزية (reification)، ويعني تَحوُّل العلاقات بين البشر إلى ما يشبه العلاقات بين الأشياء (علاقات آلية غير شخصية) ومعاملة الناس باعتبارها موضعاً للتبادل (أي حوصلة البشر باعتبارهم أشياء).
وحـينما يتشيأ الإنسـان، فإنه سـينظر إلى مجتـمعه وتاريـخه (نتاج جهده وعمله وإبداعه) باعتبارهما قوى غريبة عنه، تشبه قوى الطبيعة (المادية) تُفرَض على الإنسان فرضاً من الخارج، وتصبح العلاقات الإنسانية أشياء تتجاوز التحكم الإنساني فيصبح الإنسان مفعولاً به لا فاعلاً، يحدث ما يحدث له دون أية فاعلية من جانبه، فهو لا يملك من أمره شيئاً. وقمة التَشيُّؤ هي تطبيق مبادئ الترشيد الأداتي والحسابات الدقيقة على مجالات الحياة كافة.
ويمكن القول ببساطة شديدة بأن التَشيُّؤ هو أن يَتحوَّل الإنسان إلى شيء تتمركز أحلامه حول الأشياء فلا يتجاوز السطح المادي وعالم الأشياء. والإنسان المُتشيِّئ إنسان ذو بُعد واحد قادر على التعامل مع الأشياء بكفاءة غير عادية من خلال نماذج اختزالية بسيطة، ولكنه يفشل في التعامل مع البشر بسبب تركيبتهم. والإنسان المُتشيِّئ إنسان قادر على الإذعان للمجردات المطلقة وأن يتوحد بها ويتصرف على هديها. وهذا وصف جيد للإنسان الطبيعي الراشد، الذي يعيش حسب قوانين الطبيعة والمادة والمطلقات العلمانية الأخرى التي تُعدُّ تنويعاً على الطبيعة والمادة.
(2) دوجماتية: وتعني التعصب الشديد بالرأي مع الترفع والتكبر.
_____________________________

قائمة المصادر والمراجع.

1- ما فوق البنيوية،فلسفة البنيوية وما بعدها، تأليف: ريتشرد هارلند، ترجمة: لحسن أحمامة. الناشر: دار الحوار للنشر والتوزيع سنة 2009م.
2- البنيوية وفلسفة اللغة، تأليف: عبد الوهاب جعفر. الناشر: دار المعرفة الجامعية سنة 2009م.
3- الأسس البنيوية لفكر الحداثة الغربية، تأليف: محمد عادل شريح. الناشر: دار الفكر المعاصر سنة 2008م.
4- خمسون مفكراً أساسياً معاصراً من البنيوية إلى ما بعد الحداثة، تأليف: جون ليشته، ترجمة: فاتن البستاني. الناشر: المنظمة العربية للترجمة سنة 2008م.
5- البنيوية والتفكيك، تأليف: مجموعة كتاب، ترجمة: حسم نايل. الناشر: دار أزمنة للنشر والتوزيع سنة 2007م.
6- الأسس الفلسفية لنقد ما بعد البنيوية، تأليف: محمد سالم سعد الله. الناشر: دار الحوار للنشر والتوزيع سنة 2007م.
7- في العبور الحضاري لكتاب البنيوية وما بعدها، تأليف: محمد علي أبو حمدة. الناشر: دار عمار للنشر والتوزيع سنة 2005م.
8- البنيوية فى الأنثروبولوجيا وموقف سارتر منها، تأليف: الدكتور عبد الوهاب جعفر. الناشر: دار المعارف 1998م.
9- البنيوية بين العلم والفلسفة، تأليف: عبد الوهاب جعفر. الناشر: دار المعارف، بدون تاريخ.
10- ويكيبيديا الموسوعة الحرة.
✓م.ق

402 مشاهدة