تمايز الوحي القرآني عن النصوص الدينية – الحلقة 5 –

تمايز الوحي القرآني عن  النصوص الدينية – الحلقة 5 –

هذا تقديم لكتاب سيتم نشره على حلقات على موقع معين المعرفة للكاتب محمد بنعمر :

يعد محمد عابد الجابري من أبرز الوجوه العلمية التي قدمت مقاربة جديدة في قراءة التراث العربي الإسلامي ، بحيث اختار قراءة التراث العربي الإسلامي بمعايير جديدة تختلف هذه المعايير عن القراءات السائدة و المعهودة بين اغلب الدارسين العرب ،واعني تلك القراءات التي اختارت البعد الاحتفالي التمجيدي للنص التراثي ،وبدون أن تكلف نفسها عناء الفحص والحفر والبحث والتقصي على الآليات المنتجة لمضامين ونظم ومعارف التراث العربي الإسلامي ،وبدون أن تعمد إلى تحكيم المرجع السياقي الذي ينطلق من هذا المعطى وهو أن الأفكار والنظريات والاجتهادات البشرية تظل دائما محكومة بسياقاتها وبظرفيتها الزمانية والمكانية. وما مكن محمد عابد الجابري وأهله للقيام بهذه المهمة ، هو تمكنه من العلوم التي أنتجها التراث العربي الإسلامي في جميع نظمه و قطاعاته المعرفية زيادة على اطلاعه الواسع على المناهج الجديدة ، مما جعله يقف على مدى النقص المعرفي وعلى الخلل الابستملوجي والمنهجي في الدراسات المعاصرة حول التراث. وهذه الدراسة هي محاولة لإدراك وإظهار الآليات التي أنتجت معارف و نظم التراث العربي الإسلامي بجميع قطاعته وفق رؤية الدكتور محمد عابد الجابري ،لان من شان إظهار وتجلية هذه الآليات المنتجة لهذه النظم أن يفضي بالمتابع والدارس إلى تدارك السقطات والوقوف على العوائق والعثرات التي وقعت فيها مجموعة من القراءات التي اختارت قراءة النص التراثي بدون أن تتكلف بحمل مواصفات القراءة النقدية و العلمية و الموضوعية الجادة التي تستحضر المنهجية و تراهن على الآليات أكثر رهانها على المضامين .

 حوار جريء  مع المفكر المرحوم محمد عابد الجابري

 من الإشكاليات الكبرى التي يقف عندها المفكر المرحوم محمد عابد الجابري إعلان هذا المبدأ بشكل واضح وبلغة صريحة وهو  تميز النص القرءاني عن  النصوص الدينية القديمة ،وانه لا مجال للمقارنة بينهما  إطلاقا.

لان علم نقد النص الديني الذي نشا عند المسلمين، واستمر مع علماء الغرب  حديثا مع الفيلسوف الهولندي باروخ سبنوزا في رسالته : رسالة في اللاهوت والسياسة ،جاء بنتائج مؤكدة للتحريف والتصحيف الذي اعترضت وأصابت النص الديني القديم اليهودية والنصرانية  .

أما النص القرءاني وموضوع تحقق سلامته فهو من المسلمات المجمع عليها بين جميع علماء الإسلام قديما وحديثا، فما يتعلق بهذا المستوى المتعلق بتحقق السلامة  فإن علماء الإسلام، بذلوا جهودا مضنية  وصارمة  في خدمتهم للنص القرآني على مستوى التوثيق والتحقيق .

 وحتى ينقل النص  سالما و مصونا  لكل جيل ، وتحقيقا  لصيانة النص القرآني من كل أشكال التبديل التحريف والتصحيف، فقد اتجه الاشتغال إلى تحقيق النص القرءاني بمقتضى هذه المرجعية وهي  أن سلامة النص القرءاني من الثواب والمسلمات التي وقع عليها الإجماع قديما وحديثا.

فسلامة النص القرآني أمر مجمع عليه بين جميع علماء الإسلام قديما وحديثا رغم تعدد مذاهبهم وتنوع نزعاتهم، واختلاف منازعهم ، إذ لا خلاف-كما قال ابن حزم – “بين أحد من الفرق المنتمية إلى المسلمين من أهل السنة والمعتزلة والخوارج والمرجئة والزيدية في وجوب الأخذ بما في القرآن”[1].

وحتى ينقل القرآن الكريم كما أنزل إلى جميع الأجيال ،فقد قيض الله حفظه بحيث كما قال أبو إسحاق الشاطبي: “لو زيد فيه حرف واحد لأخرجه آلاف من الأطفال الأصاغر فضلا عن القراء الأكابر وهكذا جرى الأمر في جملة الشريعة”[2].

فلا احد يشك في  هذا الموقف الحاضر الجريء والثابت  للمفكر المرحوم محمد عابد الجابري .

ودرءا للشبهات وللإساءة وللاتهامات  التي ألصقت   بالمفكر المرحوم محمد عابد الجابري تبقى هذا المحارة التي نشرت على نطاق واسع  اكبر تأكيد على هذا الموقف الواضح ، وهذه المحاورة هي: “حوار في الفكر والدين  ” المنشورة في كتاب مواقف العدد:-28 وفي مجلة فكر ونقد العدد-10-واصل المحاورة هي مقابلة أجرتها مجلة مقدمات في عددها التاسع مع  الدكتور محمد عابد الجابري.

وقد تناقلت هذه المحاورة كثير من المنابر الثقافية لأهميتها ولمضامينها وللمواقف التي  عبر عنها المرحوم.

ومما صرح به الدكتور محمد عابد الجابري أن البحوث  والدراسات الأخيرة  أسفرت  عن نتائج مثيرة ومدهشة و هامة إذ تبين أن النصوص الدينية اليهودية والمسيحية لم يكتبها مؤلف واحد في عصر واحد لجمهور واحد، بل كتبها مؤلفون كثيرون في عصور متعاقبة لأناس عاشوا في ظروف مختلفة وأحقاب متباعدة ،وأن تدوين هذه النصوص يمتد على مدى قرون… وبالتالي فهي تعكس أو تعبر عن تجارب في الحياة مختلفة. ومن هنا ضرورة اختلاف التفسير وتنوعه وعدم التقيد بوجهة نظر واحدة أو الرضوخ لأية سلطة أخرى غير سلطة العقل والمنهجية العلمية، والسؤال الآن هو: هل النصوص الدينية الإسلامية، أعني القرآن والحديث، هي في حاجة إلى مثل هذا النقد التاريخي…. لكن النص القرءاني ظل سالما محفوظا من كل أشكال التحريف والتصحيف التي أصابت الكتب السماوية السابقة   وهذا أمر مسلم به.

رغم هذا التصريح  العلني والصريح فقد أساءت كثير من الدراسات الجامعية لشخصية وللمفكر محمد عابد الجابري لا سيما في مواقفه المتعلقة بالعلوم الإسلامية.

ومن هذا القبيل أطروحة الزميل و الصديق محمد الناسك من القطر الموريطاني الشقيق الذي قدم أطروحة بعنوان :القراءات المعاصرة للقرآن الكريم، الجابري نموذجا ،وقدمها  إلى كلية الشريعة بفاس سنة :2015 .لكن للأسف فاتته كثير من الدراسات والمحاورات والملفات المتعلقة بالموضوع. 


المراجع

[1]– الإحكام في أصول الحكام (ابن حزم) 1-92.

[2]– الموافقات لأبي إسحاق الشاطبي: 2/59.

335 مشاهدة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *