تيمقاد وأسرار التاريخ

تيمقاد وأسرار التاريخ

تقديم

تيمقاد” المدينة المربعة التي صُمِّمَّت على شكل رقعة شطرنج، بها ممرين رئيسين متقاطعين تتخللهما ممرات فرعية داخلية، حيز التقائها خصص لبناء منازل سكنية، بالإضافة إلى وجود مرافق عامة منها الساحة العمومية حيث يجتمع الناس، والمعابد والحمامات والمحلات التجارية بالسوق العام، فضلا عن المسرح الروماني.

وأُحِيطَت هذه المدينة التاريخية بسور كبير لتكون حصنا منيعا، وجُعِلَت مداخلها أقواسا ضخمة منحوتة تدعمها أعمدة مزينة، ويقف في جهتها الجنوبية الغربية كواجهة بارزة “قوس النصر” أو “قوس تراجان” تخليدا لإنتصارات القائد الروماني “تراجان”.

تيمقاد وأسرار التاريخ 1
قوس النصر (قوس تراجان)

تاريخ مدينة تيمقاد

تعرض الشمال الإفريقي لهجمات كثيرة وعلى مراحل مختلفة مما جعل الأهالي ثوارا يقاومون الغزاة ولايتوقفون عن القتال، فأراضيهم الخصبة كانت مطمع الأقوام، وموقعهم الاستراتيجي المطل على البحر سهل المهمة أمام الدخلاء.

الغزو الروماني

دخل الرومان إلى الجزائر كمستعمرين، وحتى لا يدخلوا في حرب مع السكان الأصليين عملوا على كسب ودهم عن طريق استمالة العائلات الثرية ذات النفوذ في المنطقة، وبدؤوا في تشييد مستوطناتهم ومن بينها مدينة تيمقاد التي تبعد بـ 36 كلم شرق ولاية باتنة الجزائرية، وكان يسميها الرومانيون “تاموقادي” ويُقال أنها تعني الرخاء والهناء باللاتينية، ولكن بالبحث عن أصول الكلمة تبين أنه لا يوجد ما يوافقها في القاموس اللاتيني وقد قيل معناها أثرياء البربر، ولكن بالبحث اتضح أنها تحريف لكلمة أمازيغية “تاموغادي” المركبة من لفظين أولهما تامو ويعني حزمة العشب وغادي معناه هنالك أي حزمة العشب هناك كإشارة لاخضرار البقعة الجغرافية، كما تشير مصادر أخرى أنها تعني القمة.

بُنِيَت مدينة تيمقاد سنة 100 ميلادية في عهد الإمبراطور “تراجان” لتأوي العسكريين المتقاعدين ولكنها سرعان ما تحولت إلى مجمع سكني أهل تمارس فيه مختلف النشاطات اليومية من بيع وشراء، زراعة وغيرها.

وفي القرن الثالث للميلاد إزدادت المدينة توسعا وأنشئت بها مكتبة عمومية ومساكن جديدة نظرا لتزايد عدد سكانها.

وقد اهتم الرومان بزيادة الإنتاج الفلاحي، وهو النشاط الأول لسكان المنطقة كما حظيت الصناعة بعناية خاصة، وغدت روما تستفيد من المحاصيل الزراعية المنتجة مثل: الحبوب والفواكه، وكذا الحيوانات والمنتجات الأخرى كالزيوت والأقمشة وهذا هو الهدف الرئيسي للرومان بتحقيق مصالحهم وفك الأزمة الاقتصادية التي كانوا يعانون منها في أرضهم الأم.

الاحتلال الوندالي والبيزنطي

تيمقاد وأسرار التاريخ 7

ومع بداية القرن الخامس للميلاد بدأ الرومان يفقدون مراكز قوتهم وتراجع نفوذهم في عدة مواقع بسبب هجمات الوندال.

في عام 430 م قام الوندال بغزو المدن الرّومانية في الجزائر الواحدة تلو الأخرى ومن بينها تيمقاد، وألحقوا بها الدمار والخراب، إلى أن جاء البيزنطيون وبسطوا نفوذهم على المنطقة وطردوا الونداليين ثم استولوا على ما تبقى فيها، وقاموا ببناء قلعتهم على أنقاض أحد المعابد الرومانية الكبرى.

الفتح الإسلامي

لم يرض السكان الأصليين بوجود الغزاة على أراضيهم وقاموا بعدة ثورات ضدهم ولو كان الظاهر أن التعايش مع الرومان ميَّز فترة احتلالهم للموقع.

في البداية لم يعرف الأمازيغ حقيقة الدين الجديد الوافد عليهم ولا المشروع الحضاري الذي حمله الفاتحون معهم، وهذا بسبب التضليل الذي كان يمارسه أصحاب الأطماع في الزعامة والنفوذ السياسي وتحقيق الثراء والمكانة الإجتماعية التي سيفقدونها إن امتثلوا لدين المساواة وأكثرهم الملوك وأصحاب الطبقة الحاكمة، مما أدى لوجود مقاومة ونشوب حروب لمدة طويلة انتهت لصالح المسلمين بانضمام أغلب القبائل إليهم بعد دخولهم الإسلام طوعا، ونبذا لمعتقداتهم الباطلة سابقا، فاندمجوا مع الجيش الإسلامي بل صار منهم قادة له مثل القائد العظيم طارق بن زياد –رحمة الله عليه-  فاتح الأندلس ليكون عهدا جديدا بعيدا عن سيطرة الفينيقيين والرومان والوندال والبيزنطيين.

أسس المسلمون بعيدا عن النظام القبلي والعصبية حضارة إنسانية مزدهرة اهتمت بالعلم والعمل وأنشأت معالم دينية ثقافية وعلمية وتركت عمارة رفيعة، فبعدما حمل الفاتح عقبة بن نافع –رحمة الله عليه- الإسلام للبلاد سعى الوالي أبو المهاجر دينار – طيب الله ثراه وخلد ذكراه- بمرونته إلى نشر تعاليم دين الحق، فأسلم عدد كبير من الأمازيغ لتصير أرض الشمال الإفريقي حاضنة مجتمع إسلامي بامتياز من أبنائه علماء ومفكرين بارزين لعبوا دورا هاما في التطور الحضاري.

تيمقاد وأسرار التاريخ 8
متحف تيمقاد

في هذه الفترة كانت مدينة تيمقاد مدفونة تحت التراب، فأحيا المسلمون مدنا بجوارها مثل مدينة “طبنة” وحصنوها ببناء أسوار عالية وتحولت إلى حامية عسكرية للجند، وقد وصفها الإدريسي بقوله :” هي مدينة حسنة كثيرة المياه و البساتين و الزرع و القطن والحنطة و الشعير و عليها سور من تراب وأهلها أخلاط بها صنائع و تجارات و أموال و لأهلها منصرفة في ضروب من التجارات و الثمر بها وكذلك سائر الفواكه“.

الاستعمار الفرنسي

بعد دخول المحتل الفرنسي للجزائر عام 1830م، بدأ علماء الآثار الفرنسيون ينقبون عن مدينة تيمقاد عام 1881م، وواصلوا أبحاثهم إلى غاية خروجهم من مستعمرتهم التي استقلت عام 1962م، بعدما نفضوا الغبار عن المدينة التي غطاها التراب لسنين ممتدة، وفتحوا متحفا لعرض الأثريات، منها الأواني الفخارية واللوحات الفسيفسائية والجداريات المنقوشة، وأغلبها يحمل كتابات تعبر عن الثقافة السائدة وتاريخ تلك الحقبة وما قُدِّس من آلهة وأموات ومعتقدات.

وجدير بالذكر أن الكثير من الآثار الجزائرية تعرضت للنهب أثناء العهد الاستعماري وهربت للخارج وكذا في تسعينيات القرن الماضي بسبب الأوضاع الأمنية في البلاد، ليتم عرضها في المتاحف الأوربية على أنها تراث غربي أو حتى بذكر المكان الأصلي الذي من المفترض أن تعود إليه.

تيمقاد وأسرار التاريخ 9

تيمقاد تراث عالمي

انضمت مدينة تيمقاد إلى قائمة التراث الوطني وفق الأمر 67 -281 الصادر في 20-02-1967م، وصنفت ضمن التراث العالمي منذ 30-12-1981 وتم الاعتناء بها وترميم آثارها.

تيمقاد وأسرار التاريخ 10

فكثيرا ما تتعرض المعالم التاريخية للتصدعات بفعل العوامل الطبيعية كما حدث مع متحف تيمقاد حيث تم ترميم سقفه وجدرانه، لتظل المنطقة موقعا سياحيا يستقطب الزوار الباحثين عن استكشاف الزمان بزيارة المكان.  

710 مشاهدة