ديداكتيك اللغة العربية القراءة المنهجية في المستوى الثانوي دراسة تحليلية نقدية

ديداكتيك اللغة العربية القراءة المنهجية في المستوى الثانوي دراسة تحليلية نقدية

المحتويات

تقديم تلخيصي

     مع صدمة التراجع المكوكي، و التدني المهين للمستوى القرائي لدى تلامذة المدرسة المغربية، و المستوى الثانوي على الخصوص، و الذي صدعت به مجموعة من التقارير، كتقرير  البنك الدولي لسنة 2008، و تقرير اليونسكو يناير 2014، و تقرير منظمة التنمية البشرية لعام 2013…..و غيرها، و بالموازاة مع عقم مختلف الإصلاحات  المتتالية و تتابع النكبات والإخفاقات تترى لكل الإجراءات الاستعجالية و العلاجية، وكذا لمعظم المواثيق الصادرة لإنقاذ المنظومة التعليمية، ساد مبدأ الارتجال و التخبط في الحلول الترقيعية،  غير المدروسة و المتهورة أحيانا، هو القشة التي تتمسك بها الجهات المعنية محاولة الجنوح بسفينة التعليم إلى شط الأمان. 

فعلى مستوى تحليل النصوص الأدبية برزت  “القراءة المنهجية “، لتجاوز عوائق التقدم القرائي  وعراقيل الفهم والإبداع الأدبي. 

   وللتنويه فقد ظهرت القراءة المنهجية في النظام التربوي الفرنسي، بعد بلورتها على يد فريق برئاسة ميشيل ديكوت منذ أكثر من عقدين من الزمان أي عام 1987م، و بدأ الحديث عنها في المغرب رسميا منتصف التسعينيات، و تحديدا عند إرساء  البرامج الجديدة في موسم 1996/1997، كما تم اعتمادها بشكل مستحدث في الرؤية الاستراتيجية 2015/2030، ويرجى منها تطوير قدرات المتعلم لاكتشاف متعة الأدب و استخدام المناهج النقدية، و هي نقيض الممارسة المدرسية المرتكزة على التفسير و الشرح.

غير أن هذه المقاربة الديداكتيكية لم تسلم من عيوب أسقطتها في شرك التساؤلات و الإشكالات، وتحديدا في قصورها على بلوغ الآمال، و تحقيق المرامي و الأهداف المنوطة بها، وهذا ما استوجب البحث والتدقيق للوصول لإجابات وتوضيحات وتقديم بدائل عملية وتغييرات هادفة.

أهداف البحث

يسعى هذا البحث إلى تحقيق الأهداف التالية:

☆ تحديد مفهوم القراءة المنهجية.

☆ الوقوف على مرتكزاتها النظرية و العلمية.

☆ عرض أهم مناهج النقد الأدبي المعاصرة.

☆ استبانة الخلل الذي خلف التفاوت بين التنظير و التطبيق.

☆ اقتراح مقاربة ديداكتيكية عملية.

خطة البحث والمناهج المستخدمة

تم اعتماد الخطة التالية :

  1. توطئة.
  2. منظومة مناهج النقد.    
  3.   القراءة المنهجية في المدرسة الثانوية.
  4. تقارير حول مستوى القراءة في المغرب .
  5. مقاربة ديداكتيكية مقترحة.

     ويرسو هذا البحث على مناهج البحث التالية:

  • المنهج الوصفي.
  • المنهج النقدي.
  • المنهج الاستقرائي.
  • منهج التحليل.

عرض البحث

توطئة

   إن  النص الأدبي فضاء مترامي الأطراف، سريع الاتساع، كثير الحركة،  متناسق الإبداع،  غائر الفهم، فهو يضيق من زاوية الرائي،  و لكن لا يحجره البصر و لا تدركه البصيرة،  يتهافت عليه القراء بشتى مناهج التحليل و نهوج التأويل، و يتوسلون إلى ذخائر الأفكار لفك الشفرات و قراءة الكنه و فهم الخطاب  و استيعاب المطمور بين السطور. 

   إن  النص الأدبي فضاء مترامي الأطراف، سريع الاتساع، كثير الحركة،  متناسق الإبداع،  غائر الفهم، فهو يضيق من زاوية الرائي،  و لكن لا يحجره البصر و لا تدركه البصيرة،  يتهافت عليه القراء بشتى مناهج التحليل و نهوج التأويل، و يتوسلون إلى ذخائر الأفكار لفك الشفرات و قراءة الكنه و فهم الخطاب  و استيعاب المطمور بين السطور. 

   منذ ظهور الكتابة، خطت المشافهة لمراسلة البعيد في الزمان و المكان،  فطال عمر الأفكار ،  و تزاحمت الرفوف بالمخطوطات و مصادر الثقافات الغابرة،  ثم تلقفها أهل العلم و الفكر لتحقيقها و الاستفادة مما تنضح به من إرث الإبداع و المعرفة. فهذا (سيجموند فرويد  )،يستشف نظرية اللاشعور من أفواه الأدباء و الشعراء،  و (اينشتاين  )، يطور النسبية عن مبدأ جاليليو.

   إن المعرفة تتراكم و تبعث بالفطرة أيضا ، و لو اختلفنا في حد نسقي للمعرفة ، أ هي تأويل تفاعلي عقلي مع الموجودات؟ أم  هي إيجاد و خلق لما كان منعدما؟ أم أننا سنتفق على معرفة إبداعية و معرفة استكشافية؟. و قد جاء في تعريف لها،  حسب معجم” لالاند”، أنها الفعل العقلي الذي يتم به حصول صورة الشيء في الذهن،  سواء كان حصولها مصحوبا بالانفعال أو بدونه. و جاء في معجم “مفاتيح العلوم الإنسانية”  أن المعرفة حصول الذات، عقليا و عمليا، على شيء ما، لاكتشاف خصائصه أو خواصه.

منظومة مناهج النقد الأدبي المعاصرة

مفهوم شفرة النص

    الشفرة لغة من الفعل شفر، بفتح الفاء أو  كسرها، و يعني أصاب منتهى الشيء و حده، و تطلق اسما على السكين و المحلقة أي المدية،  و شفرة السيف حده و حرفه و طرفه.

    و اصطلاحا هي إشارات لغوية منطوقة أو مكتوبة أو إيحائية، تستخدم في صنف فني معين،  كالمسرح أو الأدب أو الرسم أو السينما لتوفير قناة تواصلية بين طرفي الخطاب.

و إذا ضممنا  المفهوم اللغوي إلى الاصطلاحي،  حصلنا على تعريف نسقي، و هو:

 شفرة النص هي ألفاظ يتوجب فكها للوصول إلى فهم يفتح حدوده الغامضة مما ييسر تحقيق التواصل و التفاهم بين طرفيه و هما كاتبه و قارئه.

  ○مفهوم المنهج

   المنهج لغة هو الطريق و السبيل الواضح و الوسيلة البينة التي يتدرج بها للوصول إلى هدف معين،  و قد يكون صفة،  جاء في لسان العرب :طريق نهج أي بين و واضح،  و نهجت السبيل أي بينته و أوضحته،  و صيغته الصرفية اسم زمان أو مكان على وزن مفعل، بفتح العين،  و بالتالي فهو رهين بظروف خاصة مندمجة في زمان و مكان غير دائمين.

   و اصطلاحا،  فقد ارتبط بالمنطق فدلل على الوسائل و الإجراءات العقلية طبقا للحدود المنطقية التي تؤدي إلى نتائج معينة، و هو ملتزم بحدود الجهاز العقلي و حريص على عدم التناقض.  كما ارتبط في عصر النهضة بحركة التيار العلمي،  خاصة مع (ديكارت  )، و هو، أي التيار العلمي،  يجمع بين العقل و الواقع بمعطياته و قوانينه، مما أدى إلى ولادة المنهج العلمي (الملاحظة، الفرضية، التجربة، الاستنتاج ).

   و المنهج النقدي عام و خاص، أما العام فهو ينبني على مبدأ الشك للوصول إلى اليقين، فكل مسلمة لا تقبل إلا بعد عرضها على العقل و تصح البرهنة عليها كليا،  و ليس اعتمادا على شيوعها و انتشارها. و أما الخاص فهو الذي يتعلق بالدراسة الأدبية و بطرائق معالجة قضاياها و النظر في مظاهر الإبداع الأدبي بأشكاله و تحليلها.   إن  المنهج حسب التعاريف السابقة يرتبط بالمعرفة و البرهنة و الأهداف،  و قد لخصه (جادامير  )، بقوله إن المنهج شيء يطبقه شخص ما على موضوع ما،  للحصول على نتيجة بعينها.

   إن معرفة شفرة النص الأدبي،  قد تكون تأويلا سطحيا و محجرا في دلالة الكلمات و معاني التراكيب ،و ذلك ارتكازا على السياق الداخلي اللغوي و الخارجي لبيئة الكتابة،  أي ظروف الكاتب الاجتماعية و التاريخية و النفسية،  و قد أشار (فيرث  )، إلى ذلك في قوله بأن الافتراض الأساس،  أن كل نص يعتبر مكونا من مكونات سياق معين.

     و قد تكون معرفة هذه الشفرة تأويلا ثوريا و إبداعيا،  منفلتا من سلطة السياق، و يكون فيه القارئ متفاعلا،  يؤثر و يتأثر ، يعمل وفق مبدأ :الكاتب ميت و النص كيان جامد لا روح فيه حتى يحييه قارئه.

   و زاد المؤول منظومة من المناهج تتلون بين القدم و الحداثة،  و سنكشفها مرتبة من الأقدم إلى الأحدث ، و ذلك ليتلمس القارئ مكامن التحسن و التغير الذي لحقها مع مرور الزمن.

المنهج التاريخي

    احتضنته المدرسة الرومانسية،  و يتلخص في رصد البيانات عن العصور السابقة و التوثيق المضبوط للنص اعتمادا على العقل و البرهان،  و مدى صدقية النسبة لصاحبه و لمراجعه و مصادره، دون الغفلة عن البعد المكاني لتوصيف علاقات الإبداع المحلية و الإقليمية و العالمية تفاعلا و تداخلا و تدافعا. و لهذا يذكر صاحب النص و مكان ولادته و بيئته و ظروف عيشه.

المنهج الاجتماعي

   قد يكون هذا المنهج تربى في حضن التاريخي،  و خصوصا في البعد المكاني. تأسس على مبادئ الطبقية و المستويات المجتمعية،  و تفاعلات المجتمع و نظمه و تحولاته.  فالفرد يكتب في جوفه و ينهل من معين أحداثه  و يستقي منه أفكاره.  و قد تختلف الكتابات مع واقع المجتمع و تعاكسه تماما، و قد تعكسه و تنسخه  بدقة و صدق. و لأن علاقة  الأدب بالمجتمع قد تتباين و تتعاكس تبنى أصحاب  هذا المنهج قانون العصور الطويلة لتحقيق دراسة سليمة و مقبولة.

○المنهج النفسي

    بدأ مع( أفلاطون )، في حديثه عن منظومات القيم و الحياة، و (أرسطو  )، في نظرية التطهير،  و لكنه تبلور بشكل جيد مع (فرويد  )،في نظرية اللاشعور.  حيث إن الأديب يختزن في ذهنه شخصية تتضمن الانفعالات و السلوكات المطمورة،  و لواعج نفسه و آلام طعنات الرغبات المكبوتة، فيدبجها في كتابته لينقلها للآخرين،  و هذا المنهج دقيق في تحليل النص للوصول إلى شخصية باثه،  و الغوص في تجاربه القاسية و لوعاته العاطفية.

المنهج البنيوي

    كانت ارهاصاته في الاتجاه الشكلاني الروسي ما بين 1910 و 1930، و قام (رومان جاكبسون  )،بنقل هذا الفكر إلى مدرسة “براغ”، ثم إلى الولايات المتحدة الأمريكية،  و قد ساعد ذلك في ظهور مجموعة من المفاهيم و الأفكار البنيوية،  و بتلاقحها مع مدرسة “النقد الجديد “، الإنجليزية  ذات الاتجاه المماثل انبثق نهج نقدي يتمحور حول النص في ذاته معزولا عن كل المؤثرات الخارجية،  و هو بالتالي نموذج لغوي خصب الفكر  و أداة تحليلية تبعا للثنائية السانكرونية و الدياكرونية. الأولى تعنى بتطور اللسان آنيا و في حقبة متزامنة مع نسق معين، و الثانية تعنى بدراسة اللغة تاريخيا و عبر مراحل طويلة من التطور.

المنهج السيميائي

    السيميولوجيا بلسان أتباع مدرسة ” جنيف ” السويسرية، أو  السيميوتيك بلغة أتباع “شارل بيرس ”  ، و هما مدرستان متباعدتان و لكنهما درستا فكرا واحدا ، و بمفاهيم مختلفة،  و توصلتا إلى نتائج مشتركة و متجانسة.  و خلاصة هذا المنهج تتجلى في كون العلامة سنن ثقافي، تتلون على نطاق الزمان و المكان ، و من مجتمع لآخر،  و دلالتها قابلة للتطور تبعا لتقدم المجتمع و ازدهار حضارته و نهضة فكره،  و قد تكون العلامة ملفوظة أو إشارة أو رمزا ، تشير إلى دلالة متواضع عليها و نظام مشترك بين عناصر الفعل التواصلي ، مما ييسر التفاهم و فك لغز الخطاب.

نظرية القراءة

    تعد القراءة نشاطا خلاقا،  مما يجعل المشروع الحديث عن العمل القرائي موازيا للإنتاج الأدبي،  و ربما كان التحديد الذي قدمه( آيزر )، لهذا النشاط سيسدد فهم النص بالإشارة إلى وقائع التلقي لا إلى وقائع الكتابة.  فالنص ،حسب هذا المنهج،  يعرض نفسه على القارئ لينتجه من جديد.

نظرية التلقي

  هي جماليات الاستقبال لدى المتلقي النموذجي العظيم المبدع،  و بدأت مع (ياوس  )، و مفادها أن دراسة الأدب عملية تشخصها فقرات نوعية و مراحل من القطيعة،  و منطلقات جديدة.  و تركز على العلاقة بين القارئ و النص.

 ○نظرية التأويل

    النص نسيج من فضاءات فارغة و فجوات تركها الكاتب عن قصد ليملأها القارئ . و هذه الفراغات تدعى البياضات الدلالية.  إن التأويل عمل جريء،  فالنص خصم يتطلب تجاسرا و عنفا و توترا عقليا و منطقا ضابطا لكل هذا الصراع الفكري ،الذي يسمح بسد فجواته و ملء فراغاته،  اي بعثه من جديد،  انتقالا من زمن الكتابة إلى زمن التلقي ، و ذلك اعتمادا على قدرة الدلالة التطورية و التحولية عبر الزمان و الثقافات، فلا شك أن المدلول فارغ و هو قابل للحشو .

  يقوم التأويل على آليات أهمها :

☆ النسبية ، فلا نص مطلق و لا فهم مطلق.

☆ منهجية صناعة و توليد المعنى.

☆ الاحتمال و الترجيح،  الصحة و الخطأ، و التخمين و التصديق.

التأويل  صراع فكري بين الباث و القارئ، يفضي إلى توليد الأفكار و إعادة إنتاج النصوص.

 ○نظرية التفكيكية

   هي طريقة لقراءة النصوص تقوض مفهوم النسق النصي،  إنها استراتيجية الذين يتشوفون إلى التحرر السافر من سلطة النص و ديكتاتورية  المعنى و الحقيقة.  نثر بذورها (دوسوسير )، حين زعم أن المعنى غير حاضر في اللفظ ذاته، بل هو وليد الاختلاف مع العناصر الأخرى،  و طورها (جاك دريدا  )، حيث عد الاختلاف إحالة إلى الآخر،  و إرجاء لتحقيق الهوية في انغلاقها الذاتي،  و هو الأصل المطلق لكل معنى و لكل دلالة،  و يردف مبينا أنه لما كان الأثر دون الأصل،  فإن المعنى أيضا يفقد كل مصدر يعود إليه. و يرى (دريدا )، أن النص عالم بريء صالح للتأويل،  بناء على حرية الرؤيا و استخلاص المعاني،  إما جدا أو هزلا،  و إما حقيقة أو تمثيلا.  و بالتالي الابتعاد عن فكرة المركز “اللوغومركزية ” ليتجاوز التفكير الذي يؤدي إلى النرجسية و الانغلاق.

القراءة المنهجية في المدرسة الثانوية

مفهوم القراءة المنهجية

   لقد سبق أن عرفنا مفهوم المنهج، و أما  القراءة ، لغة، فهي من الفعل “قرأ” بمعنى جمع و ضم، (إن علينا جمعه و قرآنه  ).1. و قيل معناه :بين و أوضح، كما يأتي بمعنى :لفظ و ألقى. و بالتالي فالقراءة هي ضم و جمع لرموز و إشارات لغوية مخطوطة غامضة لكشفها و استجلاء خفاياها،  و ذلك تلفظا بصوت مفهوم و معبر ، و بمعاني سهلة و واضحة.

    تعد القراءة ،اصطلاحا، مفهوما  نقديا معاصرا،  حتى صارت نظرية حديثة، و هي ترمي إلى تحقيق تأويل تفاعلي وفق علاقة تبادلية بين المتلقي و النص. تندمج فيها قدراته الفكرية و قناعاته الثقافية مع النسيج التركيبي  للمخطوط. و تتمحور حول توسيع دائرة الدلالة، بعيدا عن المركز الذي يشكله الدال و المدلول، مما يجعل القراءة قراءات متعددة عبر الزمان و المكان.

   و نرى بأن للقراءة بعدين أساسيين،  و هما:

   الأول: تحويل الحرف المكتوب إلى صوت واع ، بناء على صورة ذهنية تعهدها القارئ. فإذا تطابق الصوت مع الحرف، فهذا إدراك للعلاقة بين الدال و المدلول و قدرة على فك الشفرة. و إذا تباين  الصوت مع الحرف فهذه صعوبة في الربط بين الدال و المدلول و بالتالي عجز عن فك المخطوط.

  الثاني:  هو الفهم الواعي للصوت المنطوق،  و يتم بمهارة الانتقال إلى البعد الثالث، و هو الدلالة، أي الربط بين الدال و المدلول و الدلالة التي تعد تأويلا عن تسنين ثقافي. فيتحقق التفاعل بين الذات و المقروء مما يفضي إلى بناء معرفي و تطور فكري.

       إن  قران القراءة بالمنهج ،على سبيل الصفة النحوية أو التوصيف الصرفي، هو تقييد و تخصيص لقراءة ذات صيغة منطقية و ضوابط محكمة، لتحويل التلميذ من قارئ انطباعي إلى متفاعل مبدع.

  و لكن صعوبة ضبط الانزياح  و السقوط في متاهة التقويل،  جعل مفهومها يتخبط بين التحرر التام ، أو التمسك و الانقياد للتركيب النصي، فمن ” هي قراءة مدروسة و معدة بإحكام ، تمكن التلاميذ من إثبات أو  تصحيح ردود أفعالهم  الأولى كقراء…بمنح قدر أكبر من الصرامة لما كان يسمى عادة شرح النص “،  إلى  ” أنه حفاظا على خصيصة  النص كنسيج،  يمكن أن تتنوع القراءة تبعا لنظام النص أو لنظام أكثر تركيبا”. الجريدة الرسمية للتربية بفرنسا.

  ويشير بوانسيو وموجنو  إلى أن للقراءة المنهجية ثلاثة معان، و هي :

▪معنى عام، يجعل القراءة المنهجية ، كل قراءة ترفض الانطباعية الساذجة، و تقترح منهجيات و تقنيات للتحليل  و إنتاج المعنى، و تنظر إلى القراءة باعتبارها إعادة للكتابة.

▪معنى أقل عمومية، يرى في القراءة المنهجية  ممارسة مدرسية و جامعية ، جاءت بديلا لتفسير النص، و تتولى إعطاء أدوات لتحليل نص قصير خلال حصة دراسية محددة.

▪ معنى ضيق، يربط القراءة المنهجية  بما يسمى” الاختبار المنهجي”، و هو من اختبارات امتحان البكالوريا ، ينجز شفهيا في مدة وجيزة.

   ( إن القراءة المنهجية  تشدد على سيرورة بناء المعنى، و تحدث من خلال ذلك، تحولا من المعنى الذي يشرحه المدرس للتلاميذ لاتجاه المعنى الذي ينتجه من ذاته، و خصوصيات كفاياته الشخصية).2.

 ○المرتكزات النظرية

   يمكننا إجمالا  تحديد هذه الركائز بالرجوع إلى بعض التعريفات، و استقراء للأهداف المسطرة في شرعنتها كمقاربة تدريسية. و إضافة إلى نظريات القراءة ،التلقي و التأويل،  المذكورة آنفا،  ندرج ما يلي:

اللسانيات المعرفية

  هي تيار لساني، يركز على أن الملكة اللغوية فطرية ، و توجد عند كل إنسان،  و تتجلى في القدرات الذهنية و الفسيولوجية،  التي تسمح باكتساب اللغة، و الذي لن يتحقق إلا باندماج الطفل في أسرته و مجتمعه، ليستقبل الألفاظ و العبارات التي تكسبه كفاءة لغوية تستبطن نظاما نحويا.  و إذا لم يندمج ،فنحن أمام ظاهرة الأطفال المتوحشين،  و هذه اللسانيات تفسر لنا حالات و ظواهر متعددة خاصة بتعلم الكلام و بعض أمراض النطق.

اللسانيات النفسية

  يؤكد هذا المجال على الطابع  الدينامي للقراءة،  و يعدها تفاعلا بين القارئ و النص، في وضعية تواصلية مؤجلة، و إذا  اعتبرنا أن الألفاظ و العبارات ما هي إلا ترجمات لفكر الكاتب وفق ثقافته و محيطه و نفسيته، فإن المتلقي يناجي نفسه في تلك الملفوظات، فاللاشعور يهمس للاشعور. و بالتالي فهذا العلم يريد فتح قناة بين القارئ و الكاتب ، ليس ليقرأ افكاره و يكشف مقصديته، و لكن ليستمد منه منهجه في تأويل الخواطر الى ألفاظ،  كي يعكسها هو ليستنبط من تلك الألفاظ أفكارا وفق تجربته و بيئته.

     إن اللفظ تعبيري ،لأنه يظهر ذات الباث في  حكيه و سرده، و تأثيري، لأنه ينير سراج الإبداع في ذات المتلقي. الكاتب تتضمن كلماته دلالات تنبعث من أوجاعه و أوضاعه، فكل لفظ هو خبرة و تجربة، و النص ليس سجلا جافا للأحداث و الوقائع في سذاجتها،  و إنما هو نتاج لمكبوتات متراكمة في اللاشعور، تتطلب من القارئ مفتاحا لحل شفرتها و فهمها. إن اللغة وعاء للانفعالات النفسية، و السرد دباجة بمداد الأشواق و حبر الأذواق،  ينوء بلوعات العواطف و لواعج الصبابة.

علم النفس المعرفي

  إن  الغرض من القراءة المنهجية هو تحويل المتعلم إلى مؤول  و قارئ مبدع، و قادر على تجاوز المعرفة السطحية إلى المعرفة الضمنية المشفرة، أو ما قد نسميه “الميتامعرفة”، و يشير (بروبر)، إلى أن العديد من الدراسات قد أكدت على أنه يمكن تعلم مهارات ما وراء المعرفة، و لكي يصبح المتعلم ذا مهارة فوق-معرفية في القراءة،  يجب على الأستاذ تزويده بتقنيات النقد الأدبي التي تساعده على نفخ الروح في أي نص يواجهه. و لقد أكد كل من (باريس )،و(وونكراد )، استطاعة الطلبة تعزيز هذا التعلم عن طريق إدراكهم لتفكيرهم الخاص عندما يجرون فعل القراءة و الكتابة و حل المشكلات. و بإمكان الأساتذة تزويد متعلميهم بالاستراتيجيات الفعالة لإنجاز هذه المهام.

  و تقترح (بالينكسار) و (براون )، تقنية التعليم المتبادل كطريقة فعالة لبناء معنى النص:

  ▪الإيجاز ، أي تحديد الفكرة الرئيسية في النص و تفسيرها.

  ▪توليد الأسئلة التي تتناول اختبارات الاستيعاب و التذكر.

  ▪تحديد الوقت الذي تكون فيه حالة الفشل في الاستيعاب، و اتخاذ فعل ضروري لإرجاع  المعنى بوضوح.

  ▪التنبؤ، أي تشكيل فرضية حول ما يشار إليه ببناء النص المقدم و محتواه.

  و على العموم ، تقوم تقنية “ما وراء المعرفة “، على نقل خبرة الأستاذ إلى المتعلمين بالتدريج و التدريب.

  كما يمكننا لفت الانتباه إلى نظرية (بياجي )،التي تتلخص في كون القارئ لا يشاهد تجربة القراءة بل يشهدها و يعيشها، كما أن  المعنى ليس بيد المعلم ليقوم بتوريده  للتلاميذ، بل هو موجه و مخطط لوضعيات إشكالية،  يتحتم على المتعلم حلها و معالجتها في حرية و في حدود المشكل.

لسانيات النص

  ظهرت، هذه اللسانيات، للانتقال من دراسة الجملة إلى دراسة النص في كليته، و ذلك بمعرفة البنى التي تساعد على هذا التحول. و علم النص فرع من اللسانيات، يرى النص نظاما تواصليا  و إبلاغيا، و يسعى إلى وصفه صوتيا، صرفيا،  تركيبيا، دلاليا و تداوليا، وفق مقاربات أهمها :

▪المقاربة المعجمية: تعاملت مع النص في ضوء رؤية دلالية، بطريقة إحصائية.

المقاربة اللسانية التركيبية: تبناها (هاريتس  )، تعد النص جملة كبرى تخضع للمقاييس اللسانية كالجملة الصغرى،  تمتاز بالانتقائية و التجزيئية.  أسست برنامج تحليل الخطاب وفق البعد الصوري و الاجتماعي. حيث يقول (هاريتس ): ” من الممكن تصور تحليل الخطاب انطلاقا من صنفين من المشاكل مما في الواقع، الأول  يخص اللسانيات الوصفية، و يخص الثاني العلاقات بين الثقافة و اللغة “.3.

المقاربة التداولية: تجاوزت هذه المقاربة اعتبار النص نقلا للأخبار و تبادلا للأحاديث،  و إنما هو أفعال إخبارية و أخرى إنجازية، أي جمل خبرية و أخرى إنشائية.  و كلاهما خطاب مفيد يلزم السامع أو ينقل إليه شعور المتكلم.

  إن لسانيات النص تسعى لضبط التحام النص و اتساقه، و تحليله إلى مقاطع و متواليات سردية  أو  حجاجية أو حوارية أو إخبارية، ثم تبيان الوحدات الكبرى و الصغرى و استجلاء مختلف الروابط التركيبية و الدلالية.

خطوات تدريس القراءة المنهجية

     تروم القراءة المنهجية، من منظور دليل التوجيهات التربوية و البرامج الخاصة بتدريس مادة اللغة العربية بسلك التعليم الثانوي،  إلى ملامسة الأهداف التالية :

 ▪ توجيه المتعلم إلى ملاحظة العناصر الأساسية المكونة لأنماط النصوص، و تجميع هذه الملاحظات لاقتراح فرضيات القراءة.

▪ مساعدة المتعلم على رصد كيفية انتظام هذه العناصر و إدراك مظاهر التفاعل فيما بينها.

▪ تنبيه التلميذ إلى سبل اكتشاف معنى النص و مسار بنائه، بدل إسقاط الأحكام القبلية و الجاهزة عليه.

▪ الانتباه إلى ما يعطي للنص وحدته المركبة، و معرفة الطريقة التي يتفاعل بها الشكل مع المضمون داخل النص.

▪ محاولة تركيب بعض المثيرات الداخلية  و الخارجية لإبراز علاقة النص بمبدعه.

▪ استخلاص مقصدية الكاتب المبدع.

   و ذلك بتتبع الخطوات التالية:

لحظة ما قبل القراءة

  هي لحظة استحضار المعرفة و المعطيات من طرف المتعلم دون أدنى اجتهاد، و يقوم الأستاذ بتشخيص هذه المكتسبات. و هي كذلك مرحلة جمع المعلومات اللازمة لفهم النص و تحليله، و وضع فرضيات و إعداد قبلي للنص(أكتشف النص/أتعرف الكاتب ).

  و تعتمد خلالها التقنيات الديداكتيكية التالية:

 □ تقنية استحضار التجربة.

 □ تقنية سيناريو التوقعات.

 □ تقنية الكلمات-المفاتيح.

لحظة القراءة الاستكشافية

   هي لحظة الاقتراب من النص، و التعرف على محتوياته و مكوناته دون التقيد بالتفاصيل. و يتم خلالها إلقاء نظرة خاطفة لمسح صفحة النص، ملاحظة الصور ، موقع النص داخل الصفحة، قراءة العنوان و تفكيك عباراته، استنباط مؤشرات الكتابة الداخلية كالإيقاع و التراكيب. و بعد هذا صياغة فرضيات عفوية ممهدة للفهم.

لحظة القراءة المنظمة

      يتم أثناءها تحديد مشروع القراءة، و استراتيجية العمل، إنها لحظة بناء و إنتاج، و تنجز عبر خطوات أهمها:

 □ الفهم: قراءة جهرية، و أخرى فاحصة لاستخراج مكونات المعنى و ترتيبها ثم تحويل النص من سياق لآخر.

 □ التحليل : كشف شروط إنتاج النص و آلياته.

 □ المقاربة المعجمية و ذلك من خلال استخراج عبارات و ألفاظ تتكرر.

لحظة انفتاح القراءة

  هي مرحلة الاستثمار و الامتداد، و تهدف تمكين التلاميذ من توظيف مكتسباتهم و اختبارها عن طريق تركيبها و تطبيقها و تقديم منتوج مغاير.

 و خلالها تثار زوبعة فكرية من ردود الأفعال ( الآراء الشخصية، تلخيصات، مواقف خاصة، خلاصات و تصورات و مقارنات). بكل حرية و بتوجيه من الأستاذ.

المقاربة النقدية

  إن هذه الممارسة البيداغوجية في تحليل النص الأدبي،  تستعمل في كل الكتب المدرسية، و موضوعات الامتحان و القرارات التربوية،  و لكن اللافت ، مما سبق، أنها عقيمة و هاضمة لحق الإبداع اللغوي كتابة و مشافهة. اعتمدت في دول عديدة و تم الاستغناء عنها لجلاء أسقامها و استفحال علاتها،  و قد لفظها النظام التربوي الفرنسي سنة 2000، لأنها تتسم بالنمطية و الاجترار المعرفي، و الخلط في المرتكزات النظرية و التصورات التربوية، و هذا يؤدي إلى ابتذال الأنشطة  و الارتجال في تدريسها.

  إن القراءة المنهجية لم تلمس مناهج النقد الحديثة كالقراءة  و التلقي إلا ادعاء،  مما سبب تعليما هزيلا ، و نقدا ساذجا للنص ،و لوكا معيبا للمقاربات التقليدية ، و رجوعا من الخلف  إلى تفسير النص و شرحه، و اجترارا لمقصدية الكاتب، و نهلا من معرفة مسطرة و محددة و معدة سلفا.و ذلك في مفارقة سافرة لما يشهر لها من مرتكزات نظرية، و يسوق لها من مبادئ حديثة، و أهداف تربوية واعدة. و هنا نتساءل،  لماذا هذا الصدع بين صدح التنظير و أجراة التطبيق؟ و الجواب لا يغيب عن أطر التربية، أمام تدني المستوى التعليمي و المعرفي للتلميذ ، فهو عاجز على تقمص دور القارئ المبدع، لذا يعدل الأستاذ، و بالأحرى ، المنهاج على ترك النص في مواجهة مفتوحة مع متعلم أعزل.

    ” إن  القراءة المنهجية لا حظ لها من المنهجية، إذ إنها ليست سوى برنامج قرائي نمطي يسلك الخطوات نفسها بدون تجديد أو  اجتهاد، و يرسخ ،هذه العاهات البيداغوجية ، الكتاب  المدرسي الذي يقدم للمعلم و المتعلم وصفة جاهزة ما هي إلا اجترار لطرائق عقيمة ممارسة منذ عقود طويلة”.4.

تقارير حول مستوى القراءة في السلك الثانوي

   لقد أجمعت كل التقارير الدولية و العربية و الوطنية، على أن المستوى القرائي للمتعلمين،  و خصوصا السلك الثانوي، لا يبشر بخير. بل هو في تقهقر حاد و مخيف، و هذا في نقيض سافر لكل الدعايات التي تروج حول الإصلاح و التجديد و التحسين، و كأن تقويم مسار السفينة استعصى و تمرد على مجرى الرياح. و كشرت هذه الأزمة عن أنيابها في السنوات الأخيرة لتجعل النظام التربوي أكثر تخبطا،  و أشد  حيرة و تيها،  رغم كل الاقتراحات المقدمة و القرارات المتخذة.  فما يزيد ذلك الجسم التربوي إلا أعطابا و إنهاكا،  حتى صار في دركات السلم و ذيل الترتيب.

  تستند معظم التقارير على مؤشرات معيارية و عالمية، و نتائجها تتصف بالحياد و الصدق ، رغم بعض المؤاخذت،  و لا تحابي بلدا، و لا تهضم آخر.

  و من بين هذه التقارير :

 تقرير البنك الدولي لسنة 2008

  يوم الإثنين 4 فبراير 2008، بعمان، الأردن،  حول موضوع  ” إصلاح التعليم في الشرق الأوسط و شمال إفريقيا  “. قام خبراء بتصنيف 14 دولة، حسب معايير الملاءمة و الفعالية و المردودية لنظام التربية و التكوين، حصل المغرب على الرتبة 11.

تقرير اليونيسكو

  في يناير 2014، صدر عن منظمة الأمم المتحدة للتربية و العلوم و الثقافة (اليونيسكو )، التقرير العالمي الجديد حول _تحقيق الجودة في التعليم في العالم_، و وضع هذا التقرير المغرب ضمن 21 أسوأ  دولة في مجال التعليم. كما أكد على أن أكثر من نصف عدد التلاميذ لا يتعلمون ما يلزمهم من مهارات أساسية في القراءة و العلوم.

تقرير التنمية البشرية لعام 2013

  أصدر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي تقريرا أكد فيه أن معدل إلمام البالغين(فوق 15 سنة ) بالقراءة و الكتابة  بلغ 56,1%، و أن نسبة الحاصلين على مستوى التعليم الثانوي،  لا تتعدى 28%.

نتائج الدراسات الدولية لقياس مدى تقدم القراءة في العالم (بورلز /تيمس)

  أكدت هذه النتائج أن 33% من التلاميذ حصلوا على نتائج متدنية،  و أن  مستوى الثاني الإعدادي قد تراجع دون 387 نقطة ب 16 نقطة (تقريبا 371 نقطة )، بين سنتي 2003/2011.

تقرير الخمسينية

  هو تقرير على مدى خمسين سنة من الاستقلال و آفاق سنة 2025، و هو رسمي أنجزه فريق يزيد على 100 باحث مختص، و أشرف عليه مستشار الملك (مزيان بلفقيه )، نشر سنة 2006، أكد على اختلالات كبرى : ضعف القدرة الإدماجية للتعليم، تراجع المردودية و جودة التحصيل  في القراءة و الكتابة، و عدم التمكن من اللغات.

تقرير المجلس الأعلى للتعليم سنة 2008

  لفت هذا التقرير الانتباه إلى الموسم 2006/2007، حيث غادر المدرسة 180000 تلميذ، لأسباب في التعلمات الأساس  و ليس الطرد.

المقاربة الديداكتيكية المقترحة

     إن المقاربة التي أقترحها تولدت عن تنازع بين شقين ، و هما: كيفية جعل القارئ حرا، و كيفية تقييده بالاتساق النصي، الذي يعد عمدا لثبات نسيجه الداخلي، و هذه المقاربة يطلق عليها اسم ” التشاكل” .و هي نظرية تنطلق من العمل على النصوص في الحقل المعجمي، أي الاشتغال في مجال اللغة، هي إذا، مقاربة دلالية تلغي قصد المؤلف و تنحيه جانبا، لتفسح المجال أمام القارئ للاجتهاد في التأويل باستقلالية تامة. و هي قابلة للتطبيق على جميع النصوص و خصوصا التي تكون كلماتها حمالة للمعاني و غزيرة بالإيحاءات . كما تسمح للمتعلم التمتع بالقراءة بذل السعي وراء مقصدية الكاتب و جرد لائحة من الكلمات ، مبعثرة، يبحث عن معانيها داخل السياق الذي فرضه صاحب النص ، و هذا كما يقول صاحب هذه النظرية ( ميشيل موجنو ) 《 أمر يشبه ما يحصل في التفسير التقليدي الذي نجريه على جسد النص الميت ، كما أن التعليق عليه يكون شبيها بعملية دفن رهيبة 》 5. و مفهوم لفظة ” التشاكل ” : 《 الخصيصة المميزة لوحدة دلالية، تسمح بإدراك خطاب ما باعتباره كلا دلاليا، و يمكن أن توجد تشاكلات متعددة في الخطاب نفسه 》 6،و بتعبير أدق ، التشاكل، هي طريقة لتحليل النص تعتمد على قدرة اللفظة لاحتواء عدد كبير من الدلالات، عن طريق الإيحاء  و الإحالة.  و هكذا يمكننا تغيير سياق الجملة و حتى تنويع القراءة.و تنطلق من قناعة لغوية، و هي أن الدلالة هي التي تولد السياق الداخلي ، لأن الكاتب عندما يكتب لفظة فإنه ينتقيها لتحمل دلالة استقاها من علامة ثقافية معيشية ،أو من شيء يسعى لتأويله وفق كفاءته اللغوية.  و هذا ينتج سياقا داخليا  نتيجة اتساق و تلاحم الكلمات. و القارئ يتوفر على تركيب لغوي، فيسلك الطريقة نفسها، و لكن باستغلال قدرة اللفظ على احتواء دلالات أخرى،  مستقاة من ثقافته و حسب قدرته اللغوية.

      و هذه المقاربة الجديدة تعطي للمتلقي الحرية و تطلقه من قيود النص، و لا تدفعه إلى البحث عن مقصدية الكاتب، بل تجعل منه مبدعا و منتجا لنصوص على أنقاض نص يعد  كيانا لا روح فيه. و حاجز الدقة هو المعنى السليم و قدرة الدلالة على صناعة نسق مع جميع كلمات النص.

    القارئ يتخذ النص أرضية،  يتأمله،  و يستقرئ الكلمات التي توحي له بدلالات معجمية  أو  رمزية أو  مجازية،  و يلمس فيها قدرته على تداولها، و ذلك عبر الخطوات التالية:

♢ قراءة النص بانتباه،  و صوت معبر، و وعي صوتي.

♢ استخراج الألفاظ.

♢ استدعاء الدلالات بشكل يقارب كل زوايا الحقل الدلالي(الظاهر، و الضمني ).

♢ المسح،  أي إسقاط الدلالات بالتناوب، و استخلاص السياق المناسب، ثم دبج تأويل يتناغم مع النسيج التركيبي للنص.

توضيح الفكرة عمليا

   و لتوضيح هذه الفكرة،  يمكنني اقتراح نصين من كتاب (التشوف إلى معرفة رجال التصوف )، لابن الزيات، الذي ألف سنة 1220 ميلادية. و حققه (أدولف فور )، و طبع سنة 1958، ثم حققه (أحمد التوفيق)، و طبع مرة ثانية سنة 1997

                         النص الأول

{ ورد من بلاد المشرق فدخل المغرب، و نزل برباط تاسماطت من عمل مراكش فمات به، و قبره معروف يتبرك به إلى الآن.  و نقل الخلف عن السلف، أنه جاء من المشرق على قدميه، و على عاتقه مخلاته التي جعل فيها كتبه، فمشى يوما إلى أن  كلمه جمل بإزائه، فقال له: يا أبا سهل ، اجعل مخلاتك على كتفي، لتستريح من حملها}.

  بعد قراءة النص، يتبين لنا أنه غني بكلمات مشفرة، و عميقة المعاني، و لنأخذ، من باب الدراسة ، كلمة 《أبا  سهل》:

* أبا سهل،  قد تطلق على شخص من باب الكنية، لطيب معشره و يسر معاملته ، و بالتالي  فالنص حديث عن رجل جاء من المشرق ، عرف بالورع و التقوى، دخل المغرب حيث أنزله الناس مكانة الولاية، و تعلقوا  به حيا، و تبركوا بقبره  ميتا، و من بركاته أنه قطع مسيره مشيا على الأقدام ، و جمله بجانبه،  و على ظهره كتبه،  و من بركاته تكليمه الجمل،  ليقدم له العون.

* أبا سهل،  قد تطلق على الإسلام بذاته، فقد سطع نوره في المشرق و أنار بلاد المغرب بعد الفتح، و الإسلام دين اليسر ( يريد الله بكم اليسر و لا يريد بكم العسر  ) 7. و هو دين تيسر به الأمور،  دخل المغرب فكانت له معالم و آثار تشهد على عمق تجذره في نفوس السلف. ورد في قوة و حكمة بالغة و علم غزير، حمله علماء و فقهاء و تعهدوا  به جيلا بعد جيل.

* أبا سهل،  قد تطلق من باب القدح، عن الذي خلد للوهن و الضعف و الأخذ بأيسر الأمور  متحاشيا عزائمها، فيكون النص إشارة إلى علماء المشرق الذين حجروا الفكر و الإبداع و الاجتهاد في الدين، و رموا ذلك بالبدع. و هذا عرف في القرن السادس الهجري، حيث نشبت خلافات فقهية و أصولية بين علماء المغرب و علماء المشرق.

                        النص الثاني

{ و حدثني علي بن عيسى بن ناصر، قال: كان القاضي أبو يوسف قد أمر  أن يؤتى بمخلوف القفاص، فاشتد البحث عنه و الطلب، إلى أن قبض عليه بعد حين فلما حضر بين يديه قال له: أريد أن أخبرك بما شاهدته من العجب،  رأيت أبا زيد الإمام قد خرج من باب المدينة،  فأردت أن أخرج في أثره، فلما وصلت الباب وجدته مغلقا بالحجارة }

   بعد قراءة النص، تبرز كلمات عديدة ذات معاني مستبطنة،  و لنكتف بلفظة 《الحجارة》. و هي  في اللغة ، الصخرة و الداهية و الحسرة  و المانع و الذنب……

* آخذ  دلالة  الذنب ، فيكون النص حديثا عن رجل خلا بنفسه،  حتى اشتد الطلب عنه، فلما خرج إلى الناس أخبرهم أنه اعتكف و رابط مجاهدة للنفس و طلبا للتوبة و الإنابة، ليخرج من بين براثن المعاصي، و لكن قسوة قلبه سبقته في سعيه، و غلبت على أمره.  ” ثم قست قلوبكم من بعد ذلك ، فهي كالحجارة أو  أشد قسوة “.

* آخذ دلالة المانع و الحجاب، فالنص يؤول بمن يسعى في خلوته و جلوته،  ليلحق بركب الأولياء  و موكب الأصفياء،  سالكا سبيلهم، و متبعا خطوهم،  و لكنه يفتر و يصيبه الهوان تحت غواية النفس و لهو الحياة، فيمنع  من ذلك المقام، و اسمه يوحي بالذي تخلف و صار حبيسا في قفص الغرور(مخلوف القفاص ).

      و ختاما نقول ، إن هذه المقاربة إذا تم التدرج في أجرأتها حسب مستويات السلك الثانوي، من السنة الأولى إعدادي إلى آخر سنة في التأهيلي،  و ذلك بالتركيز في كل مرحلة على حقل دلالي معينة بدءا بالمعجم البسيط و وصولا إلى الرمزية و التورية، سيكتسب المتعلم أداة تحليلية عملية تمكنه من قراءة النص الأدبي، و هو في ندحة من سلطة النص و حل من مقصدية الكاتب، و دون السقوط في التقويل  و الإفراط في التأويل.

________________________________________________________

الهوامش:

   1: سورة القيامة، الآية 17.  

  2: عبد الرحيم كلموني، “مدخل إلى القراءة المنهجية “.، صفحة 14.      

  3: جميل حمداوي، محاضرات في لسانيات النص، ص 23. 

  4: عبد الرحيم كلموني، مجلة ميول تربوية الإلكترونية :moyoultarbawiya.net.                  

5: Michel mougenot, le français dans le monde,p: 16

6: Jean Dubois ,dictionnaire  de linguistique.

  7: سورة البقرة ،الآية 185.  

المصادر و المراجع:

¤ ابن منظور، لسان العرب، مطبعة دار صادر، بيروت، لبنان، الطبعة 1،1990م.

¤ د.أحمد بمداس، آليات التأويل في الفكر النقدي المعاصر، مجلة العلوم الإنسانية،  جامعة محمد خيضر بسكرة، العدد 21، 2011م.

¤ بسام قطوس،  استراتيجيات القراءة التأصيل و الإجراء النقدي، مؤسسة حمادة و دار الكندي، عمان، الأردن،  ط 1، 1998م.

¤ جميل حمداوي،  محاضرات في لسانيات النص،  موقع الألوكة.

¤ سعيد الفراع،  القراءة المنهجية  للنص النظري، مجلة علوم التربية،  العدد 41، 2009م.

¤ شذى عبد الباقي محمد و مصطفى محمد عيسى،  اتجاهات حديثة في علم النفس المعرفي،  دار المسيرة للنشر و التوزيع و الطباعة، عمان، الأردن،  2011م.

¤   عبد الرحيم  كلموني، مدخل إلى القراءة المنهجية للنصوص، منشورات صدى التضامن، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء،  المغرب، 2006م.

¤ د. صلاح فضل،   مناهج النقد  المعاصر، ميريت للنشر و المعلومات،  القاهرة، مصر، ط 1، 2002م.

¤ نوال محمد عطية، علم النفس اللغوي،  المكتبة الأكاديمية،  القاهرة، مصر، ط 3، 1995م.

¤ moyoultarbawiya.net.                                    

      ¤ Michel mougenot, le français dans le monde, n° 90, 1990

      ¤ Jean Dubois , dictionnaire de linguistique ,Larousse,1973.

454 مشاهدة