سوسيولوجيا الهجرة

سوسيولوجيا الهجرة 

سوسيولوجيا الهجرة 1

 

من فروع السوسيولوجيا المعاصرة ظهر مطلع القرن الماضي مع مدرسة شيكاغو تطورا في أوربا خلال فترة السبعينيات . وهو يدرس اثر وفود المهاجرين وانعكاسات ذلك على المجتمع المضيف كما يدرس مجموعة من المشاكل التي يخلقها عدم الاندماج . بناء على براديغمات وانساق إيديولوجية لدول المستفيدة والمستهلكة للهجرات و لهذه المجموعات البشرية11.
ولقد حقق هذا العلم تراكما بفضل القلق الذي يخلقه الوجود المزعج للأجانب في بلد ما و ترجم هذا على شكل كتابات عرفت بأدبيات الهجرة خصوصا في مجال الإعلام و الصحافة و أيضا في الكتابات التطوعية و النصوص القانونية و الروائية و السينمائية .
كما تبرز قوة هذه الكتابات في مجال العلوم الاجتماعية ( القانون, علم السياسة, التاريخ,الجغرافيا الديموغرافيا ، الاقتصاد ،علم الاجتماع,علم النفس، الاثنولوجيا و الانثروبولوجيا و علم اللسانيات ،والبيداغوجيا…الخ).

كل هذه المناهل حاولت وصف و تفسير الظاهرة من جوانبها و تحقيق التراكم المعرفي الذي يسمح ببناء نظرية تفسيرية أو قوانين عامة أو نماذج تفسيرية وهنا لابد من التطرق إلى حقلين شهيرين في دراسة سوسيولوجيا الوفود باعتبارها من الفضاءات الدولية المستقطبة للهجرات .سنبدأ بالمدرسة الأمريكية باعتبارها أول من اهتم بدراسة هذا المجال.
التقليد الانكلوسكسوني
تعتبر الولايات المتحدة الأمريكية بلد الهجرة الوافدة بامتياز إذ اغلب سكانه من المهاجرين “حيث أن الاختلافات الاثنية و الثقافية والعرقية 1 لدى المهاجرين/المواطنين أفرزت مجموعة من المشاكل و الأزمات و الاختلال في البنية الاجتماعية خصوصا بين ” الإثنيات و العرقيات” و بناء على ذلك ظهرت مجموعة من الدراسات التي تناولت الموضوع بشكل سوسيولوجي أهمها الدراسة التي قام بها Myrdal & Tocville لمشاكل السود في الولايات المتحدة الأمريكية 1
التقليد الفرنكوفوني
هو اتجاه نظري و امبريقي مهتم بدراسة و وصف وضعية الهشاشة التي يعيشها الشباب المهاجر الوافد إليها . وأمام عمق الظاهرة و تجلياتها كفسيفساء اجتماعية لا متجانسة تتخذ الفرو قات والتباينات مظاهر أفقية وعمودية : فبداية بالتعدد الثقافي إلى الثقافة الطبقات مرورا بالثقافة ألجهوية و سلطة الأديان و تأثير ذلك على ثقافة الأسرة إلى أن نصل إلى ثقافة الفرد الخاصة ثم عامل العرق واللون…..الخ.
ومن هذا المنطلق تم اعتماد بعض المقاربات السوسيولوجية و السيكولوجية لتعامل مع هؤلاء درء للمشاكل المحتلة .
فتم اللجوء إلى عملية التكيف 2 كحل لبعض المشاكل, أي تكيف المهاجر ذو
الخصائص المختلفة و التقليدية في المجتمع الفرنسي بعد الاضطلاع على منطقته الأصلية. وسبب هجرته تم وظيفته الاجتماعية الممكنة أي ( فيما سيفيد المجتمع الفرنسي ) يتم إكسابه مجموعة من الخصائص المميزات للحياة في المجتمعات الصناعية كالالتزام بالوقت و المرونة في التعامل الحرفي مع الآلات المرتبطة بالمصانع تبعا للمنهج التيلوري.
وأمام تزايد حدة التباينات الاجتماعية والتنوعات في المورفولوجية الاجتماعية و ما أفرزته و بقوة من مشاكل كالتهميش و الإقصاء و العنصرية لأفراد يعون واقعهم بشكل جيد .
و يمكن اعتبار ظهور أحياء الغيتو والممارسات المتطرفة كالإرهاب والعنف أشكال جديدة للرد على هذا التهميش وشكلا من أشكال إثبات الذات وهذا يزيد من تعميق الاختلالات و التباينات .
هذه الوضعية حدت بالمهتمين بمجال الهجرة والجاليات الوافدة إلى مطالبة ذوي القرار بالتراجع عن سياسة التكيف و نهج مقاربة إدماجية تختزل التباينات و تدمجها في الثقافة الفرنسية .
و انطلاقا من التماننيات القرن الماضي تطور استعمال مفهوم الاندماج وأصبح عنصرا أساسيا في الخطاب السوسيوسياسي عوض التكيف1
مقاربة الاندماج هذه شملت قطاعات لها تأثيرات مباشرة على المهجر كالسكن, الدراسة, التكوين المهني, المساواة في الحقوق,.. وبشكل عام تم نهج منطق جديد للفعل و التعامل.2
لم تنجو هذه المقاربة من الانتقاد لما تسببه من تضيق على المواطنين الأصلين خصوصا في مجال الدعم و الرعاية الاجتماعية3
و في مجال الشغل لما تسببه هذه الوضعية من نقاش بحيث يختلف البعض إزاء اعتبار المهاجر مواطن داخل {الدولة /الأمة الفرنسية} بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
و كما لاحظنا إن كلا المدرستين الانجلو سكسونية والفرنكوفونية حاولت إيجاد حلول علمية لمشاكل الهجرة الوافدة تبعا للخصوصية الظرفية التي تعيشها مكونة بذلك ارث كمي و كيفي حدا بالبعض إلى استخدامه كأنساق مكونة لنظرية تفسيرية شاملة كمحاولة عرفت مجموعة من الانتقادات و القبول في الأوساط الأخرى .
يعتبر RAVENSTEIN رفنستاين أول من حاول بالقيام بتحليل علمي للمعطيات الإحصائية المتعلقة بالهجرات .انطلاقا من حالة انجلترا وانتهى في أبحاثه سنة 1885 إلى صياغة مجموعة من النماذج اعتبرها أنذاك ” قوانين ” مفسرة لظاهرة الهجرات1 واهم ما جاء بيه رفنستاين هو مجموعة من المفاهيم التي لازالت تؤثر اليوم في السوسولوجيا وخصوصا مفهوم “الجذب “و ” الطرد ” أما باقي الأفكار والآراء الأخرى فلم يعد لها اليوم سوى قيمتها التاريخية التي لا تنكر .
ومع تعقد ظاهرة الهجرة.أصبح الحديث عن نظرية تفسيرية في هذا المجال مطلبا اكديميا ملحا مع العلم أنه ثم ادراك –ومند البدية – إشكالية إرساء إطار نظري مفسر و شامل لمجال دينا مي كالهجرة .
فخصوصية الظواهر الاجتماعية وتميزها يمنع القيام بنظريات ثابتة وشاملة على غرار نظريات العلوم الطبيعية وبصدد هذه المسألة يقول René Duchac في خاتمة كتابه ( سوسيولوجيا الهجرات في الولايات المتحدة الأمريكية).” إذا كنا نقصد بكلمة نظرية بناء مفهوم نسقيا بحيث يمكننا أن ندرج فيه كل حركة هجرية يمكن ملاحظتها وان نضبط في نفس الوقت كل محددات ودوافع ومراحل هذه الحركة و التنبؤ بنتائجها , فمن الواضح إن نظرية مثل هذه غير موجودة بعد في هذا الفرع من السوسولوجيا 2
كذلك في دراسة كل من ذ.كوبات ونوفمان ونووتني D.Kubat et Noffman Nowottny عنوانها ” سوسيولوجيا الهجرات : من اجل نموذج تفسيري جديد ” وبعد جرد لبعض النظريات السوسيولوجيا السائدة في هذا المجال يلاحظ الكاتبان ( انه رغم الجهود المبذولة لاقتراح نظريات تفسيرية فان الحصيلة المتوصل إليها لازالت هزيلة ولم توصلنا إلى نتائج تقريبية ).2
La sociologie du migration سوسيولوجيا الهجرة النازحة
فرع من فروع سوسيولوجيا الهجرات يهتم بدراسة فعل الهجرة من زاوية منطقة الانطلاق. مبدئيا بدرس هذا العلم فعل الهجرة أسبابها و مظاهرها.
ويعتبر استحالة قيام نظرية كلية مفسرة للهجرة النازحة في كل المجتمعات مبدأ يقتنع به اغلب علماء الاجتماع يتجلى هذا : في قول René Duchac 3″ ليس هناك نظرية منسجمة الانسجام التام عن المجتمع ,وفي غياب مثل هذه النظرية المنسجمة والشاملة ،هل سيظل محكوما على سوسيولوجيا الهجرات بالسير دون أمل في الوصول إلى تراكيب ولو جزئية ؟ “. إن غياب إمكانية قيام نظرية في هذا المجال لا يلغي اللجوء إلى أنماط تصنيفية أنماذج تفسيرية أو ما اسماه (ميرتون ) النظريات المتوسطية .و قد ألح Duchacعلى أهمية استخدام النماذج التفسيرية عوض النظريات الكلية بقوله
” إن ما يعطي لنظرية العامة الكلاسيكية مظهر البساطة والقيمة الكشفية هو صياغتها غير الرياضية ، وهذا ما يدعو أحيانا إلى إعطاءها قيمة اكبر من تلك التي تعطى لنموذج …والواقع أن النظرية هي أكثر ابتعادا عن معالجة الحالات الخاصة .
إنها لا تستطيع معالجة الحالات الخاصة لأنها أقل تلاءما معها ، ولأنها من الصعب إخضاع نظرية عامة للمراقبة الميدانية .بينما النموذج باعتباره أداة للمعرفة لا يكون قابلا للاستعمال إلا بقدر ما يكون قابلا للخضوع لتلك المراقبة “1 إن الهدف من عرض أراء روني ديشاك هو إبراز مدى صعوبة تطبيق نظرية شاملة في مجال له خصوصيات تتحول بفعل عامل الزمن و المكان , أيضا لتبرير الاختيار التالي و هو النماذج التفسيرية أو الأنماط التصنيفية لمعالجة الظاهرة نظريا . انطلاقا من قولة كارل منهايم “لكل حقيقة اجتماعية وظيفة مكانية وزمنية” 2 وهكذا يجد الباحث نفسه أمام معضلة أخرى هي كثرة النماذج التي تحاول قراءة فعل الهجرة في سياقه .غير أن ما يميز هدا الزخم الكمي الهائل قابليته للاختزال في ما عبر عنه بير بورديو ب ” مشكلة السوسيولوجيا الأزلية “2 التي يمكن تلخيصها في “هل الفعل الاجتماعي مصدره الفرد أم الجماعة؟ “3.
إن محاولة تقديم إجابة عن هذا التساؤل سيغني بدون شك البحث السوسيولوجي في مجال الهجرة و ذلك في محاولتنا تقديم نماذج تفسيرية التي يمكن تلخيصها في ثلاث اتجاهات
1 – الاتجاه الوضعي
إن الأفراد في هذا التصور يستجيبون لمتطلبات مجتمعهم ويجدون مكانهم في إطار النظام الاجتماعي العام وهم يتجهون إلى الارتباط بذلك الوضع الذي يحدده المجتمع لهم ،إنهم يستطيعون التغير لكن هذا التغير لابد أن يتم بالطريقة التي يرسمها المجتمع لهم ومن تم فان المجتمع هو العنصر الفاعل والنشط في التاريخ بينما دور الأفراد يتسم بالتبعية والسلبية ، إن الأفراد خاضعون إلى حد بعيد إلى الضغوط التي تفرضها مجتمعاتهم عليهم حتى يتمكنوا من الامتثال للتوقعات الاجتماعية ويعتبر دور كايم إن ظواهر الاجتماعية لها من السلطة ما يجعلها قاهرة وملزمة للأفراد حيث وصفها بقوله ” إنها عبارة عن نماذج من العمل والتفكير والشعور التي تسود مجتمع من المجتمعات والتي يجد الأفراد أنفسهم مجبرين على إتباعها في عملهم وتفكيرهم “.1
هذه الخاصية تجبرنا –في مجال الهجرات –على اعتبار الهجرة كفعل امتثالا له الأفراد ويعكسونه في تصرفاتهم امتثلا لمجتمع وقد وضح دوركايم هذه العملية معطيا مثلا عن الهجرة القروية حيث إن هناك تيار لرأي (Courant d’opinion )2 أو قوة جماعية دافعة ( (Poussée collective هي تفرض على الأفراد هذه الهجرة يقول :
( إننا لا نملك اختيار شكل منازلنا، كما لا نملك اختيار ملابسنا، إن كلاهما مفروض علينا بنفس الشكل ؛ إن طرق التنقل تحدد بشكل إجباري الاتجاه الذي تسير فيها لهجرات الداخلية والمبادلات ، وحتى حجم هذه المبادلات والهجرات..)
( وفي نفس السياق يقدم لنا هال بفاكس ((Halbwachs 3 وهو احد تلاميذ دوركايم تصوره الفيزيائي لظاهرة إذ يعتبرها مثل ” تدفق المياه من حوض لآخر .من منبع النهر إلى اللحظة التي يرتمي فيها في واد آخر أو في البحر. “
إن الموقف الوظيفي يجعل من الهجرة فعل اجتماعي لا يفعله الفرد انطلاقا من اختياراته وأفكاره بل هو فعل امتثالي لا يسع الفاعل الا القيام به . إن تيار الرأي في المجتمع يمارس سلطانه على اختيارات الأفراد وبطريقة وبأخرى يجرفهم إلى نقطة دون أخرى .
وما يلاحظ على هذا الاتجاه هو اقترابه الشديد مع بعض المواقف الماركسية كإعطاء الأولوية للجماعة على الفرد وخير دليل على ذلك الجملة الشهيرة التي يستهل بها مركس مقدمة كتابه ” مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي “: ” إن الناس أتناء الإنتاج الاجتماعي لوجودهم يدخلون في علاقات محددة ، ضرورية ومستقلة عن إرادتهم (…)فليس وعي الناس هو الذي يحدد الواقع بل على العكس من ذلك الواقع الاجتماعي هو ا لذي يحدد وعيهم”.1
2- الموقف المادي التاريخي
– ينطلق هذا الموقف في تفسير عملية الهجرة من خلال مقاربة التوزيع ألا متكافئ لعوامل الإنتاج ” بحيث أن هناك مناطق تعتبر أكثر غنى من مناطق أخرى، ولذلك تنطلق اليد العاملة تطلعا للحصول على اجر أحسن.
لقد وجه ماركس اهتمام بارزا للمجتمع يتساءل كيف يوجد قهر وظلم وفقر يجبر الأفراد على ترك مجتمعاتهم والانتقال إلى مجتمعات أخرى ؟
إن الطبيعة الإنسانية هي في الأساس طبيعة خيرة ، فالناس ليسوا أشرارا بطبعتهم لكن ظروف الحياة السيئة هي التي تجعل منهم أشرارا 2،خير دليل على ذلك الحضارة
الغربية الصناعية الرأسمالية هذه الحضارة تمثل تناقضا مروعا مع الطبيعة الإنسانية فهي سبب تفشي الفقر وألا توازن في توزع الخيرات بين الدول و تصعيد عمليات الهجرة خارج الوطن مما يؤدي لا محالة إلى هدر في الموارد
البشرية بالنسبة لمجتمعات الانطلاقة واستفادة الدول المستقبلة من سواعد عضلية تزيد من قوة الإنتاج وتكسرا لوعي الطبقي الذي تكونه الطبقة العاملة المنتمية للمجتمع الصناعي . وهنا نعود إلى المفاهيم المهمة في الفكر الماركسي التي تتحدث عن ” المستغل و المستغل ” والذي درج ماركس على تقديمه في تحليلاته التي تنهض على التميز بين نظم فعالة :و مسيطرة وأخرى مترتبة ومستجيبة في البنية الاجتماعية في مرحلة تاريخية معينة و منه تمثل الهجرة نوعا من الاستغلال الذي تمارسه الدول الصناعية عبر عملية التحفيز و تشجيع الأفراد على الهجرة من اجل تحريك عملية الإنتاج و أيضا إشكال القهر الني تسببها للبلدان الغير صناعية من اجل ضمان تبعيتها .إن فعل الهجرة لما يتحول إلى ظاهرة اجتماعية بالمعنى السوسيولوجي , أي عندما تصبح فعلا شاملا ممتدا في الزمان والمكان فان من غير المفيد دراسته على مستوى الوحدات المكونة له أي الأفراد. بل ينبغي البحث عن تلك التنظيمات التي تمارس سحرها على الأفراد وتقنعهم بالهجرة ,وهنا نعود إلى سلطان “تيار الرأي” لدوركايم لان الدوافع الاجتماعية و حسب هدا الاتجاه هي أسيرة و تابعة و” مستقلة عن إرادتها ” .مع العلم انه الآن أصبح سائدا في دراسات حول الهجرة البدء بالبحث عن الدوافع الذاتية باعتبارها نقطة انطلاق تلك الدراسات .”1 غالبا ما يتم اللجوء لمعرفة تلك الدوافع الاعتماد على الاستمارات و المقابلات هذا المنهج يعتبره علماء الاجتماع ملائما غير انه موضوع انتقاد من الجانب الماركسي لان الدوافع الذاتية تبعد الباحث عن الوقوف على الوقائع الأساسية التي تفسر بشكل أفقي هذه الدوافع ” . يقول سمير أمين في هدا الصدد ” إن الدافعية الاقتصادية و الدافعية الغير الاقتصادية لا جدوى منها في الحقيقة لان السبب الاقتصادي واقع في جميع الحالات “1 .
واعتمادا على الآراء و الملاحظات السالفة يمكن أن نقول انه بدل اللجوء إلى تفسير الهجرات انطلاقا من الفرد ينبغي التركيز أكثر على الأنساق و البنيات الاجتماعية لان الأفراد يتحركون وفق مقتضيات علاقات الإنتاج السائدة .
-3الهجرة كرد فعل فردي
يعتبر الانتقال من الهجرة الجماعية إلى الهجرة الفردية من الخصائص المعاصرة لظاهرة , هذا التحول البنيوي يستدعي إعادة النظر في طرق التعامل مع الظاهرة على المستوى النظري والكشفي . لأن هجرة مجموعات بشرية من نقطة إلى نقطة تسمح لنا باستنباط مجموعة من العوامل المشتركة التي تنعكس في تنقلهم . لكن عندما نتحدث عن هجرة فرد إلى مكان ما فنحن أمام منطق مغير لتعامل والتفسير .كيف ذلك ؟
يقترح كل من (كوبات )و(نوفمان – نووتني) نموذجا في إطار الاتجاه الذاتي من اجل تفسير سوسيولوجي لظاهرة الهجرة ؛ بحيث يعتبران أن حياة الأفراد داخل الجماعة تكسبهم مجموعة من القيم والخصائص التي تحتم عليهم الامتثال لضوابطها وذلك من خلال عملية التنشئة الاجتماعية باعتبارها تطبيع للخامة البشرية لخصائص وثقافة الجماعة –بمعناها الأنثروبولوجي – يجد الأفراد نفسهم غير قادرين على نغير مكان إقامتهم والخروج من دائرة المجتمع لارتباطهم عاطفيا واجتماعيا واقتصاديا وبالتالي هل يمكن اعتبار فعل الهجرة عرض من أعراض وتلاشي وفشل التنشئة الاجتماعية
؟ هل الفاعل الذي يهاجر هل يقوم بفعل تحريري أم تدميري ؟ وهل المهاجر منحرف اجتماعي ؟ يقول الكاتبان ” إن الهجرة هي عرض من أعراض تلاشي أو ضعف الضغط الاجتماعي الذي يمارسه المجتمع على أعضائه “. أيضا هي عملية مقاومة لجميع أنواع الضبط الاجتماعي لأنها تهم فئات اجتماعية من خصائصها المقاومة والمغامرة نعني هنا فئة الشباب، الأصحاء والمحبي للمغامرة والاستطلاع.
ويقول الكاتبان في هذا الصدد ” إن المهاجر يهاجر من اجل الخروج مجتمع من محلي يعتبره في نظره غير ملائم له إلى مجتمع محلي يعد بضغوط اجتماعية اخف “.
يتضح مما سبق أن الأفراد ميالون إلى الاستقرار بحكم التنشئة الاجتماعية
لكن يميل بعض الأفراد ذو خصائص معينة إلى ترك هذا المجتمع إلى مجتمع آخر وقد تم تفسير هذا على أنه ضعف أو فشل في التنشئة الاجتماعية وربما انحراف وخيانة المجتمع.ومن هنا تظهر بعض مظاهر القصور في هذا الاتجاه نظرا لاهتمام بالجانب الاجتماعي وتأثيره على الأفراد وتغيب رأي الأفراد باعتبارهم فاعل في هذه العملية.وكغيرها من الاتجاهات السابقة سقطت ضحية النظرة الأحادية الجانب بحيث تقتضي المحاولة الكشفية Heuristique -لظاهرة الإلمام بجميع الأبعاد .ولذلك يمكن اعتبار المعاناة الفردية داخل هذا المجتمع تؤدي إلى تلاشي الضغط الاجتماعية وتجاوز كل العوامل التي تجبر الفرد على الثبات والاستقرار .
كذلك لا تمثل الهجرة قطيعة مع المجتمع الأصلي على غرار ما أشار إليه الكاتبان وهذا يؤكد أن الهجرة ليست فعلا إنحرافيا أو تنكري للجماعة الأصل .ولفهم جيد لهذه العملية سنلجأ إلى السوسيولوجيا التفهمية لما لها من مرونة في فهم الفعل الاجتماعي الذاتي للأفراد .
إن هذا الفعل وفي نظري هو الذرة الأولى لظاهرة الاجتماعية ومنه ينبغي الانطلاق في كل تحليل يريد أن يكون سوسيولوجيا, و الفعل الاجتماعي كما عرفه ماكس فيبر هو كل فعل بفضل المعنى المقصود منه طرف فاعله أو فاعليه يكون ذا علاقة بسلوك الآخرين ويكون موجها بذلك أثناء انجازه “. وكما يبدو فان وحدة التحليل عند ماكس فيبر هي الشخص الفاعل وهذا يدعو إلى اختزال كل المفهومات الأخرى مثل الدولة والمجتمع أو النظام الاقتصادي …الخ إلى فعل يمكن فهمه. أي إلى أفعال الأفراد المشتركين في هذا النشاط .وبالتالي على السوسيولوجي أن يضع نفسه في مقام الشخص المهاجر لفهم سلوكه الذاتي والدوافع والغايات التي تفسر هذا السلوك .ويقول ماكس فيبر في هذا الصدد ” إن الفهم التفسيري هو الخطوة الأساسية نحو التواصل إلى علاقات سببية بين الأشياء، وفهم المعنى الذاتي لنشاط الذي يأتي به الفرد يصبح سهلا إذ تعاطف مع الباحث ووضع نفسه مكانه “1.
وقد استخدم ماكس فيبر النموذج المثالي من اجل فهم و تفسير محفزات و علل الفعل الاجتماعي ويقتضي استخدام هذا المنهج التجرد من كل القيم . الذاتية للباحث من اجل فهم أعماق العناصر الدالة في الظواهر المدروسة. لأن الفاعل لا يكون دائما على وعي كامل بمحفزات فعله وعلى الباحث استخراج تلك العلل . إجرائيا يتم بناء النموذج المثالي عبر المقارنة بين حالتين أو أكثر.
السلوكات حسب النموذج المثالي هي كالتالي: هناك الفعل التقليدي، الفعل الوجداني أو العاطفي والفعل الذي يرتبط بقيمة ما ثم الفعل العقلاني المبني على حساب الوسائل ودراسة إمكانية الوصول إلى الغاية.
وبالتالي يمكن دراسة الهجرة كفعل وفق النموذج المثالي ومكوناته ، لأن المهاجر يهاجر إلى منطقة جديدة لا كنه يبقى على الارتباط بمنطقة انطلاقه أحيانا ينقطع هذا الارتباط وأحيانا بتعزز بالصورة النهائية أو المؤقتة .فتختلف إزاء ذلك تفسيرات الفعل حيث يعتبر المهاجر فاعلا عقلانيا “حاسبا” عند تركه لمجال لا يوفر الإمكانيات إلى مجال محفز ومحقق لذاته . وأيضا تعتبر علاقة المهاجر بمواطنه الأصلي فعلا عاطفيا يتجلى ذلك في الزيارات المتكررة . أيضا يعتبر فعله عقلاني مرتبط بقيمة يتجلى ذلك في أنواع الخدمات التي تفيد مجتمعه الأصلي والتي كان غيابها أو ندرتها سببا في تركه لهذا المجال.
ربما يستطيع المنهج التفسيري التفهمي عند فيبر الإحاطة بما لم تستطع المناهج و الاتجاهات الأخرى دراسته وهو فعل الهجرة في نسقه الممتد والذي أصبح ميزة وخصوصية في مجتمعنا المعاصر .لأن دينامية الهجرة لا تستقر عند نقطة الوصول بل تأخذ أشكال أخرى من التفاعلات “البينمجالية” وفي نظري على سوسيولوجيا الهجرة النازحة الاهتمام بهذا الجانب أكثر من أي وقت مضى لأنه مجال ملح ويفرض نفسه للدراسة على المستوى الدولي بشكل عام وعلى المستوى المحلي بشكل خاص.
ويعتبر المغرب تجسيدا واضحا لهذه الظاهرة فهو من جهة منطقة أو بؤرة انطلاق ومن جهة أخرى بؤرة استقطاب للافراد المقيمين في المهجر فيعرف بشكل موسمي زيارات أو عودة نهائية لبعضهم و هذا يدل على مدى ارتباط الأفراد بمجتمعاتهم الأصلية و هذا يعيدنا إلى المقاربة التي انطلقنا منها في دراستنا لسوسيولوجيا الهجرات وهي “الحضور”و “الغياب”.
و بشكل أدق “الحضور في الغياب” الذي يميز المهاجرين المغاربة. خصوصا أنواع التفاعلات التي تنشأ مع موطنهم الأصلي و انعكاسات ذلك على البنية الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية . لهذا نحن بحاجة إلى علم مستقل يدرس فعل الحضور للمهاجر مع انه غائب عن الفضاء الوطني و باعتبارها حقيقة واقعية مستقلة عن كل أنواع الهجرات اقصد هنا الهجرة الوافدة وجهها الأخر
وعلى غرار المدرستين الانكلوسكسونية و الفرانكفونية في دراستها للهجرة الوافدة لكونها استثناء و خاصية تميز مجتمعاتها , نحن أيضا في حاجة إلى إرساء دعائم مدرسة لدارسة سوسيولوجيا الهجرة المغربية باعتبارها خاصية.

354 مشاهدة