فاطمة المرنيسي تفك لغز الحريم الأوروبي

فاطمة المرنيسي

تفك لغز الحريم الأوروبي

هل ثمة حريم أوروبي؟ أليس الحريم مفهوماً شرقياً؟ كيف تهاجر التصورات من الواقع إلى المتخيل, وكيف تصوغ مرايا التاريخ انعكاسات صور الآخر وتتجذر فيها حتى تغدو العدوى شاملة؟ تلك هي بعض الأسئلة التي يطرحها كتاب “الحريم الأوروبي” الذي صدر قبلاً في باريس وأصدرته دار الفنيك في طبعته المغربية قبل أسابيع في الدار البيضاء, في انتظار ترجمته إلى اللغة العربية.

الكتاب عبارة عن حكاية استطلاع وتحقيق تقوم به الكاتبة المغربية بعد أن أحست خلال جولاتها في مختلف بلدان العالم أن العلاقة مع الصحافيين الغربيين تنطوي على شيء غامض وملتبس يتعلق بتصور دفين عن الحريم يحملونه في ثنايا متخيلهم. وهو يدعوهم تارة إلى الابتسام وأخرى إلى المداورة, وينم خصوصاً عن تصور معين للحريم يختلف جذرياً عن واقع الحريم الشرقي, العربي والإسلامي. لذا تقرر فاطمة المرنيسي أن تقوم برحلة متعددة: أن تقدم كتبها للآخرين وتحاورهم في القضايا التي تطرحها, وأن تقوم بتحقيق عن هذا التصور الغريب الذي يحمله الأوروبيون عن الحريم, وأن تمارس رحلة حجاجية عن التصور “الحقيقي” للحريم من خلال التاريخ الشرقي, بل أن تقوم مرة أخرى برحلة في الذات والذاكرة الشخصية.

يبدأ الكتاب في شكل رواية سيرية, تستعيد فيه فاطمة المرنيسي أمها وكيف علمتها أن السفر والترحال معرفة للآخر. وتدخل مباشرة في تتبع هذا التصور من جذوره, وتتابع الحكاية التي قادتها إلى طريق التحقيق في الأمر. وبهذا المعنى يجد القارئ نفسه أمام حكاية مؤطرة لفعل استكشافي على طريقة بورخيس, تقدم لنا فيه المؤلفة الموضوع ومسارات إنجازه وتدخلنا من خلال ذلك إلى طريقة تفكيرها وقلقها وترددها وتساؤلاتها بل وإلى الطريقة العينية التي تمارس بها التحليل والتفكيك والسؤال والتركيب.

من الصورة إلى التصور

حين أصدرت فاطمة المرنيسي كتابها الأول “الجنس والإيديولوجيا والإسلام” في الثمانينات, كانت ترتسم معالم كتابة من نوع خاص, تمارس مقاربات علم الاجتماع والأنثربولوجيا الثقافية, والتحليل السياسي والدراسة التاريخية التراثية. وكأن هذا الكتاب حين أفرد مقاربة خاصة للتاريخ الثقافي العربي, كان يبني للكاتبة مساراً لن تحيد عنه أبداً, حتى إن كتاباتها اللاحقة ستغدو أشبه بالحفريات في تاريخ الثقافة والمجتمعين العربيين والإسلاميين. وسواء تعلق الأمر بـ”الحريم السياسي” أو “سلطانات منسيات”, أو “هل أنتم محصنون ضد الجديد؟” أم الكتاب الجديد, ففاطمة المرنيسي تبني حجاجها على أصول التصور التاريخية لتصوغ تصوراً معاصراً يكاد يكون حياً عن وضعية النساء في مجتمعاتنا المعاصرة. لذلك لا يجد المرء عند قراءتها أي انفصام بين حديثها عن المجتمع العربي المعاصر وعن التاريخ, سواء عبر المقارنة الساخرة أحياناً أو عبر استحضار التجربة الشخصية باعتبارها أيضاً تاريخاً حديثاً.

هكذا غدا هذا الانغراس في التاريخ الثقافي والاجتماعي لديها ضرباً من الثابت الذي تسعى من خلاله إلى الكشف عن مواطن الخلل في التصورات, وسعياً حثيثاً إلى تأكيد ما قال به صلاح الدين المنجد منذ أواخر الخمسينات من أن حرية الخطاب وحرية المرأة وحرية الجسد والسلطة المزدوجة كانت مكونات راسخة في المجتمعات العربية القديمة ولم نعد نجد لها أثراً في الواقع العربي المعاصر. ولذلك أيضاً تختار فاطمة المرنيسي مفهوماً من أعقد المفاهيم وأكثرها التباساً وتركيباً (الحريم) وهو لا يتمتع بالتداول في الأوساط الثقافية العربية لتعيد تحيينه وتجعله موطن صراعها من أجل قيم جديدة للمرأة العربية.

إن هذا الاختيار ينم عن الرغبة في امتلاك هذا المفهوم في تعددية معانيه وشحناته الإيديولوجية والرمزية وجعله حلبة حقيقية للبحث والسؤال والتفكيك. وهو مغامرة فريدة تروم ممارسة ذاك التفكيك في قلب مفهوم يعتبر في ذهنية العرب مفهوماً عجائبياً غربياً بامتياز. لذلك حين تبدأ المرنيسي “روايتها” “نساء على أجنحة الحلم” (1998) هكذا: “ولدت في حريم بفاس…” تكون موقعت نفسها في قلب المفهوم بصيغته الجديدة التي تسعى هنا إلى رسم ملامحها التعارضية مع الحريم الاستيهامي الغربي. فانطلاقاً من هذه المعرفة الشخصية والبحثية للحريم العربي والشرقي تسعى الى تحديد ملامح الحريم الغربي, وتتبع خطاه في التصور الثقافي الغربي, لتضعه أمام مأزقه الخاص, باعتباره تصوراً سطحياً يلزم تقويض دعائمه.

ومنذ بداية الكتاب نستشعر هذه اللعبة السوسيولوجية التي تنطلق من فرضية موضوعة سلفاً لتسعى إلى توكيدها أو بلورتها في شكل أكثر واقعية: “يبدو أن حريم الغربيين ضرب من المكان المجوني حيث ينجح الرجال في خلق معجزة مستحيلة في الشرق, تتمثل في التمتع الجنسي من غير حواجز بالنساء اللواتي حولوهن إلى جاريات! فالنساء في الحريم لا يسعين إلى الانتقام من كونهن عرضة للاعتداء, والحط من كرامتهن إلى موقع الأسيرات.

وفي حريم الشرق يتوقع الرجال مقاومة هوجاء من النساء اللواتي مارسوا عليهن الإكراه والإخضاع. إنهم يتوقعون أن تقوم هؤلاء بتفجير المشروع الأصلي لمتعتهن وهو كان موضوعاً له. ففرحة الصحافيين الذين قابلتهم لا يمكن أن تتجلى إلا إذا هم حرموا النساء المحجوزات من عقولهن, وإلا إذا جعلوا منهن كائنات عاجزات عن تحليل وضعيتهن”.

ولأن هؤلاء الصحافيين يمتلكون تصوراً عن الحريم مستقى من الصور التي صاغها فنانوهم والأفلام التي أنتجها سينمائيوهم, فإن الاختلاف بين هذا التصور والحريم التاريخي الذي تجليه فاطمة المرنيسي هو ما يشكل شعلة الكتاب ومدار أسئلته. فالحريم التاريخي يتشكل من نساء لهن تصور وسلطة وعقل وخطاب. ويكفي في هذا الإطار, إضافة إلى ما ذكرته الكاتبة عن “السلطانات المنسيات” الرجوع إلى أقدم مؤلف عن الذكاء الخطابي للمرأة “بلاغات النساء لابن طيفور” حيث يبرز في وقت مبكر “العقل النسوي” في أبلغ صوره. فإضافة إلى امتلاك سلطة الكلام, تعيد المرنيسي إلى الأذهان الفارق الجوهري بين المفهومين الشرقي والغربي للحريم, المتمثل في الأساس في سلطة النساء وقدرتهن على مقاومة هيمنة الرجل والأخلاق الذكورية (فوكو) التي يبني عليها تلك الهيمنة.

وفي مسار هذا الاستكشاف, تسائل الكاتبة “ألف ليلة وليلة” كما هي “أصلاً” ثم كما يتم تصورها في الغرب, لتنتقل إلى طرح السؤال الجوهري: الجمال أم العقل, مناقشةً التصور الكانطي للمرأة باعتباره ان الجمال والعقل لا يجتمعان, ومحللةً نص إدغار ألان بو “الحكاية الثانية بعد الألف” ونص الفرنسي تيوفيل غوتيي “الليلة الثانية بعد الألف”, وكلاهما يعمدان إلى قتل شهرزاد, الأول لأنها تعرف أكثر من اللازم, والثاني لأنها لم تكن تحوز ما يكفي من المعارف. ثم تعطف على الإرث الفني للغرب في تصويره للجاريات الشرقيات, سواء تعلق الأمر بإنغريس في بدايات القرن التاسع عشر أو بماتيس في بدايات القرن العشرين. وتعلق المؤلفة على هذه التصاوير الاستيهامية للحريم الشرقي: “لم أخطئ الأمر. فالابتسامات النشوى التي ترتسم على ملامح الغربيين وهم يسمعون كلمة “الحريم” بدأت تفصح عن معناها. فبما أن الفنان (الغربي) يتحكم في صورة الجمال, فإن حريمه مكان أمين حيث لا تستطيع النساء الخاضعات التمرد. ولأنهن عاريات وصامتات فقد خلقن عاريات وصامتات, وسيظللن كذلك مغلقات كما هن في زمن السيد” (ص132). فالعلاقة بين الرجل والأنثى, لدى الكاتبة, لا يمكن أن تكون مبنية على إلغاء العقل والحساسية المشتركة والإخضاع والقهر, لأن ذلك سيكون خطراً على تلك العلاقة نفسها, التي قد تنتهي إلى عنف من نوع آخر.

ومن حكاية شيرين الراكضة نحو الحبيب إلى نور جاه الملكة الهندية التي كانت تصطاد الوحوش, تركز فاطمة المرنيسي على الصورة والتصور اللذين يجعلان من المرأة الشرقية كياناً نداً للرجل وسلطة موازية تتمكن عبرها من فرض وجودها القيمي والعياني في الصورة والتصور أيضاً. بيد أن المرنيسي لم يكن لها أن تنهي الكتاب فقط بتفكيك التصور المغلوط للغربي عن مفهوم الحريم, من خلال الرجوع الى المنمنمات الشرقية أو التشكيل الغربي, إذ انها تواجه مباشرة الطريقة التي بها يصوغ المجتمع والرجل الغربيان النموذج الجمالي الجسدي والمظهري للمرأة الغربية. “إن العنف الذي يتسربل به الحريم الغربي ليس ظاهراً بقوة, لأن ذلك العنف مغلف بالاختيار الجمالي” وتضيف: “يملي الرجل الغربي على المرأة القواعد التي تنتظم مظهرها الجسدي. فهو يتحكم في صناعة الموضة واللباس وسواه. فالغرب هو فعلاً المنطقة الوحيدة في العالم التي يكون فيها اللباس الأنثوي صناعة ذكورية في الأساس”. ولأن السُّنن الجسدية في الغرب تحتم معيارياً على المرأة ألا يتجاوز نطاقها 38 سنتمتراً, فإن فاطمة المرنيسي تختتم كتابها بحمدها الله حين صعدت الطائرة لأنها سترحل عن عالم حريم القوام الرشيق الذي لا يتعدى نطاقه 38 سنتمتراً. فالمرأة الغربية, حين تحولت موضوعاً لنظرة الساهرين على قوامها وجمالها, فهي تحولت إلى عبدة… للحريم… الغربي هذه المرة.

فريد الزاهي – الحياة – 16.02.2004

487 مشاهدة