في التعاون قوّة

في التعاون قوّة

هذه السلسلة القصصية تنشر حصريا بالتعاون مع موقع معين المعرفة والكاتبة سيرين أحمد الغصاونة، جميع الحقوق محفوظة (يحظر نسخ القصص ونشرها على مواقع أخرى أو طباعتها).

في قريةٍ بعيدة، عاشَ رجل اسمه “ياقوت”، كان يعملُ راعياً لقطيعٍ من الخراف، ومن هذه المهنة التي كثيراً ما أحبّها كان يكْسِبُ قوتَه وقوت زوجته وأولاده.

كان “ياقوت” يستيقظ كلّ يوم قبلَ طلوعِ الفجر وصياحِ الدّيك.. يتوضأ ويصلّي الفَجَر ثم يحملُ عصاه الخشبية ويقصد الحظيرة حيث توجد الخراف.

ما إن يصلَ “ياقوت” إلى الحظيرة، حتى يسمّ الله ويحمده ويشكر فضله قبلَ أن يفتح الباب ثم يبدأ بعد الخراف.. ولم يكن يشعر بالرّاحة والطّمأنينة إلا عندما يتأكّدُ من أنّها كاملة العدد؛ 45 خروفاً بالتّمام والكمال.

يستعينُ “ياقوت” بعصاه لتجميع الخراف قبلَ أن ينطلقَ بها إلى المرعى، وهو يحثّها على السير قائلاً: “هيّا هيّا يا خرافي الجميلة.. ها قد طلع نهار جديد، وعليكِ أن تسرحين وتمرحين كما تشائين في المراعي الخضراء الفسيحة”.

تنصاعُ الخراف لصوتِ “ياقوت” الذي أَلِفَتْهُ، بينما يبدأ هو بالغناء لها وهو يقطع معها الطريق إلى المراعي، حيث يختلط صوتُه العذب بصوت أجراسها ودبيب أقدامها على الأرض: “هَا هُنا عشبٌ وماء، ها هُنا خيرٌ كثير، ها هنا فيّ وشمس، ها هنا ريفٌ جميل”. بينما الخرافُ تُرَدّدُ بامتنان: “ماع.. ماع.. يا ياقوت، شكراً.. شكراً يا ياقوت”.

عندما وصل “ياقوت” المرعى، ترك الخرافَ تسرحُ وتأكل العشب، بينما قرّر أن يأخذَ استراحةً قصيرةً في ظلّ إحدى الأشجار، بخاصّة وأن الحرارةَ كانت مرتفعةً في ذلك اليوم، وخشي أن يُصاب، بسبب ذلك، بضربة شمس.

غفا “ياقوت” وهو يشعر بأن الأمن مستتبٌّ في المرعى، وما من خطر يُهَدّد خرافه.

ولم يكن “ياقوت” يعلم بأمر الذّئب الجائع خلف التلّة، والذي كان يحدّث نفسه ويُمَنّيها بصيدٍ يملأ معدته: “آه كم أشعر بالجوع، وبأن معدتي فارغة.. من أين سأحصلُ على طعامٍ لذيذ.. يا إلهي كم أنا مُتْعَب فمنذ البارحة لم آكل سوى أرنبٍ واحدٍ صغير.. ليتني أجدُ صيداً سميناً يسدّ جوعي”.

شَعَرَ الذّئب بالتّعبِ فقرّر أن يتمدّد تحت صخرة كبيرة ليرتاح قليلاً قبل أن يعاود البحث عن وليمة.

راح الذّئب في سبات عميق، وأخذ يحلمُ أنّه وجدَ فريسةً كبيرةً وقام بالتهامها، وملأ بها معدته الخاوية.

استيقظ الذّئبُ من نومه العميق على صوت نحلةٍ طنّت في أذنه.. شعرَ بالأسى وهو يحرّكُ فَكّيه وطَعْمُ الحلم ما يزال تحت أسنانه، ردّد بحسرة: “كان حلماً جميلاً، ليته يصبح حقيقة”.

وقف الذئب بتصميم، وحرّكَ ذيله ونفض رأسه متحدياً: “سأجدُ وليمةً كبيرة اليوم.. فأنا الذئب المخادع الذي يمكنه صُنْع المعجزات”.

واصل الذّئبُ السيرَ برويّة وقد فتح عينيه بترقّب، وبدأ البحثَ عن الطّعام في كلِّ مكان، لكنّه لم يجد شيئاً، فقال محدثاً نفسه بغضب: “إنه يوم نحس، أين اختفت الأرانب والطيور؟ ألا يوجد ما التهمه وأسدّ به جوعي؟”..

وبينما الذئب على هذه الحال، فإذ به يسمع صوتَ الخرافِ الذي أطرب أذنيه.. لاحَقَ الصوتَ وكان كلّما صَعَدَ نحو قمّة التلّة أكثر يقترب منه الصوتُ أكثر..

وعندما وصل القمّة بدأ يزحف على بطنه خوفاً من أن تراه الخراف وتهرب بعيداً، وكم كانت فرحته كبيرة وهو يراها تنتشر أسفل التلّة، وقد جلسَ الراعي في ظلّ شجرة قريبة من المرعى.

فركَ الذّئبُ يديه بسعادةٍ كبيرة، وقال محدثاً نفسه بفرح: “كنت أتمنى أن أعثرَ على أرنب، فعثرت بدلاً منه على قطيع من الخراف السَّمينة اللّذيذة”..

حرّك الذئبُ أنفَهُ يشمّ رائحة اللحم الموعود به، ثم قال مستذكراً الشتائم التي أساء به ليومه: “أسف أيّها اليوم لأنني قلتُ عنكَ إنكَ نحس، لم أكن أعلم أنّك سعدي وهناي”.

تَسَحّب الذئبُ حتى اقترب أكثر من المرعى، كان كلّ شيء مُعَدّ بشكل جيد، ولم يَحُلْ بين انقضاض الذئب على الخراف سوى الراعي “ياقوت” الذي يحرسها.

فَكّرَ الذئبُ بحيلة تخلّصه من الراعي وتحقق له مبتغاه، ثم قرر أن يُغَافل الراعي ويهجم عليه ويخيفه ليهرب بعيداً، ويترك له الخراف ليفترسها واحداً تلو الآخر.

اقترب الذئبُ بخطواتٍ ثابتة نحو “ياقوت” الجالس تحت الشجرة، وعندما صار على مقربة منه ركضَ بسرعةٍ نحوه وهجم عليه، ثم بدأ بتمزيق ثيابَهُ بمخالبِهِ الحادّة، وتهديده بأسنانه المرعِبَة.

تفاجأ “ياقوت” ولم يَدْرِ ماذا يفعل، وصارَ يدافع عن نفسه بعصاه، ويضرب الذّئبَ بها في كل اتجاه ليتخلص من قبضته، غير أن الذئب تمكن من الإمسكاك بالعصا وكَسْرِها ورَمْيها بعيداً.

استغل “ياقوت” انشغالَ الذئبِ عنه بالعصا وولّى هارباً تاركاً خرافه في المرعى.

اتّجه ياقوت بسرعة كبيرة نحو القرية وهو ينادي بصوتٍ عالٍ ومليء بالخوف والهلع: “النجدة.. النجدة.. ساعدوني فالذئب سيقضي عليّ وعلى خرافي”.

في التعاون قوّة

أما الذئب، فبعدَ أن تأكد من نجاح خطّته في التخلّص من الراعي، واصلَ هجومَهُ على الخراف التي بدأت تركض مرعوبةً في كلّ اتّجاه، بينما الذئب يلاحقها ليستفردَ بالأضعف منها ويلتهمه.

وفي اللحظة الحاسمة صرخَ الكَبْشَ الكبير الذي كان يقود القطيع بصوت عالٍ: “لا تتفرقوا تجمعوا معاً وارفسوه بأرجلكم واضربوه بقرونكم.. تجمعوا.. تجمعوا”.

سمعت الخرافُ نداءَ قائدها، وبدأت تصطفّ على شكل دائرةٍ متماسكة، وكلما حاولَ الذئبُ الاقترابَ من أحدها تهجم عليه الخراف وتوسعه ركلاً ورفساً ونطحاً بقرونها.

لم ييأس الذئبُ رغمَ ما أصابه من جروح وكدمات، فعاود الهجوم على القطيع، ونجح في الإمساك بحَمَلٍ صغير، وقبلَ أن يتمكّن من الهرب كانت الخراف تحيطُ به، بينما اقترب منه الكَبْشُ القائد مهدداً بقرنيه المتينين، عندها دَبّ الرّعب في قلب الذئب الذي تركَ الحَمَل الصغير، وأسرعَ هارباً يطلبُ النّجاةَ لنفسه.

فَرِحَت الخرافُ بتعاونها الذي أنقضها من الذئب الغادر، وشكرت قائدها الحكيم الذي حماها وعلمها كيف تحميها أنفسها من خطر الأعداء.

أما “ياقوت” الذي أحضرَ معه نفراً من أهل القرية ليساعدوه في التخلّص من الذئب، فلم يصدّق نفسه وهو يرى خرافه تصطفّ جنباً إلى جنب ولم يُصَبْ أيّ منها بأذى.. نظر الناس إلى الخراف وكانوا يريدون أن يكذبوا “ياقوت” بأمر هجوم الذئب على خرافه، لولا أنهم رأوا أثرَ الهجوم من خلال تمزيق ملابسه والخدوش التي أحدثتها مخالبُ الذّئب في وجهه.

تساءل الجميع وهم ينظرون بدهشةٍ نحو “ياقوت”: “ما الذي حدث؟!!”.

قال لهم “ياقوت” بسعادة: “لقد تعلّمت خرافي الحبيبة أنّها إن لم تدافع عن نفسها فلا يمكن لأحد أن يدافع عنها”.

313 مشاهدة