قاعة الانتظار .. بين المتعة والألم

قاعة الانتظار  ..  بين المتعة والألم

لا يموت الانسان في السجن او المشفى من الجوع او البرد أو الضرب أو المرض، لكنه قد يموت من الانتظار .. إن الانتظار يحول الزمن الى اللازمن، والشئ إلى اللاشئ، والمعنى إلى اللامعنى.


يقول محمود درويش: في الانتظار، يصيبني هوس برصد الاحتمالات الكثيرة!
تستعير الأستاذة الزهرة رميج قول الشاعر محمد رزقي: (من لم يمت بذل الهوان أو بداء السرطان، مات بسيف السلطان) فالانتظار صيغة من صيغ ممارسة السلطة، والانتظار نوع من انواع الالم لأنه؛ يأكل الوقت والقلب.. وانطلاقا من تجربة واقعية مع مرض السرطان، استطاعت الاستاذة الزهرة رميج ان تخرج لنا روايتها: قاعة الانتظار…ومن يتابع سطور هذه الرواية قد يحتفظ بصورتين جوهريتين: صورة المريض وصورة الطبيب؛ وهما صورتان حرصت الرواية على بناءهما بمهارة عالية تنم عن معرفة عميقة بقواعد صناعة الرواية.


قاعة الانتظار: من ينتظر من؟ وما الغاية منه؟ تلكم بعض الأسئلة الأولية التي يطرحها عنوان رواية الكاتبة المناضلة الزهرة رميج، ومن الطبيعي جدا أن الناس يفهمون دائما من قاعة الانتظار ذلك الفضاء الذي نجلس فيه في انتظار الطبيب.


والواقع أن قاعات الانتظار متعددة، ابتداء من قاعات الانتظار الزجاجية والفخمة في المطارات، وصولا الى جميع قاعات الانتظار المعتادة المتواضعة جدا في المستشفيات والمصحات وعيادات الأطباء وغيرها. تقول الرواية في الصفحة 31/32 “نهضتْ فدوى دون أن تنبس بكلمة، وقد فهمتْ أن الدكتورة أنهت المقابلة التي لا شك أنها طالتْ اكثر من اللازم على حساب وقت المرضى المزدحمين في قاعة الانتظار”.وهنا يكتشف القارئ انها قاعة انتظار بمستشفى.


وقبل العنوان نجد اسم الكاتبة الزهرة رميج وهي الماثلة امامك من اصول خريبكية، حاصلة على الإجازة في الأدب العربي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بفاس، وعلى شهادة الكفاءة التربوية بالمدرسة العليا للأساتذة بالرباط سنة، مارست مهنة التدريس قبل أن تتقاعد في إطار المغادرة الطوعية سنة 2005، وتتفرغ للكتابة.
وبعد اسم الكاتبة والكتاب نجد تصنيف الكتاب في اطار جنس ادبي (رواية)؛ وهو يرسل هذا التصنيف كبداهة او كمسلة غير قابلة للنقاش، ومن  يلزم  القارئ بقراءة كتاب الزهرة رميج بصفته رواية لا غير.
لكن ماذا لو عدل القارئ عن هذه المسلمة وطرح السؤال: هل هذا النص رواية حقا؟ اليس من الممكن تاطيره ضمن السيرة الذاتية،  ثم اليس في الامكان تصنيفه في التخوم والحدود بين الرواية والسيرة الذاتية.


ألا يمكن التنبيه على أن فدوى داخل النص هي توأم الزهرة رميج خارج النص، ولكن هذا التنبيه من شأنه أن يضع النص في أزمة التصنيف الذي بادر اليها الناشر في الصفحة الأولى.
مدار هذه القصة ان امرأة تسمى فدوى  أصيب زوجها بالسرطان، وماز زاد الطين بلة اخبارها  أن زوجها سيموت بعد ثلاثة أشهر، لكنها لم تستسلم، بل  اعتنت واهتمت بصحة زوجها خاصة الاهتمام بتغذيته تغذية صحية طبيعية.
عاش بعدها عاميْن ، ثم مات مخلّفا زوجته فدوى وولديْه عاطف ودنيا.


خطاب الالم في الرواية:  فالرواية هي الطريق المعبِّر عن الألم الذي يجتاح النفوس، والأجساد دون سابق إنذار، فيكتب الكاتب عن الألم بكلمات كلها ألم كي يدفع عنه ذلك الألم، هكذا كانت حياة الزهرة رميج التي تعرضت  للآلام، واستطاعت بحسها الأدبي التعبير عنه بألم آخر. وهنا نستحضر قول محمد شكري:  أنا إنسان عاش التشرد وأكل من القمامة فهل ينتظرون مني أن أكتب لهم عن الفراشات.  فالرميج  من خلال قاعة الانتظار راهنت على إمتاع المتلقي في المقام الأول، لكنها فعلت ذلك عن طريق توظيف أساليب التراجيديا أحيانا أو السرد السلس لأحداث الرواية أحيانا أخرى، لينسجم القارئ مع أحداثها وأحاسيس شخصياتها ويتفاعل معها.
نجد  هذا الالم يتمثل في قسوة الطبيب في أول لقاء بين البروفيسور حجاج  وفدوى وزوجها تقول: “بَدا لها البروفيسور كعملاق جبار بقامته الفارعة وجسده الممتلئ. أثارت انتباهها ذراعُه المفتولة وهو يمد يده إليهما مودّعا. لم تدر لماذا تذكرت في تلك اللحظة جزار الحي الذي كان يقوم وحده بذبح كل أكباش سكان العمارة في عيد الأضحى” (ص79). وفي موقع اخر نجد: “راحتْ فدوى تتخيل البروفيسور وهو يفرغ الماء من رئة يوسف، ويُلصقها بأضلعه، فيقشعر بدنُها. عادت إليها صورة جزار الحي المفتول الذراعيْن وهو ينحر أضاحي العيد ويداه ملطختان بالدم..تخيلت يوسف مثل كبش الفداء، مستسلما رغم أنفه لعدوه” (ص401).


وتقدم مقاطع أخرى يبدو فيها الطبيب رمز الام وصورت انه عديم الاحساس، حيث اعتبرت بروفيسور حجاج مثل الصخر وهو يخبر فدوى وزوجَها بانتقال السرطان إلى رئته: “لم تظهر عليه أي ذرة تعاطف مع يوسف. بدا لها كجلمود صخر لا أثر لحرارة الإنسانية فيه” (ص432).
وفي صفحة الغلاف الرابعة نجد الكاتبة تصور الالم بشكل كبير، وبصورة اكثر ايلاما تقول: ” كاد قلبها ينفجر هذه الليلة. كلما انتابتها حالة الألم، ظنت انها اصعب حالة تمر بها، غير انها اكتشفت ان الالم حالات ودرجات. وان درجة الالم هذه الليلة، مختلفة تمام الاختلاف عن سابقاتها. ايقنت ان الالم لا حدود له. وان الانسان لا يستطيع سبر اغوارها دفعة واحدة. الالم عظيم…”


وفي مقاطع اخرى تبين صور الأوجاع السرطانية متماهية مع ذاكرة الأسر في بشاعتها الجهنمية، وتضمن في السياق مشاهد بالغة التفصيل عن عملية افراغ  الماء من رئة يوسف، بيد أن المشترك في تلك المقاطع جميعا، أن الألم يتجاوز فيها وعي الذات البطلة إلى المحيط الخارجي، عبر منطق الصداقة والحب والانتماء إلى دائرة إنسانية مشتركة. لذا غالبا ما يلتبس خطاب الألم بنزعة التعاطف المأساوي، ويضحى بؤرة لتلاقي أحاسيس وانفعالات متباينة ومتناقضة أحيانا. وهو ما يفتح بلاغة التمثيل الروائي للألم على آفاق جمالية متغايرة.


فالرواية صورت الام ومعاناة مرضى السرطان بل معاناة عائلاتهم واحبتهم. فقاعة الانتظار كانت مكان لمشاركة الام المرضى ومعاناة عائلاتهم، فهي كلها الام وظفتها وصورتها الكاتبة لتبين مدى معاناتها ومعاناة زوجها يوسف من الم ومرض السرطان الذي نخر جسده.


فرغم الالم الا ان الرواية لا تفارقها المتعة، فكانت المتعة متشافعة مع الالم على طول صفحات الرواية، حيث تجد متعة في القراءة وتشدك اليها دون ملل حتى انهائها. 
كانت هذه  بعض النماذج من تجليات خطاب الألم في رواية قاعة الانتظار، تجليات مطبوعة  بمعنى العذاب الجسدي والنفسي، طبعتها المعاناة الإنسانية.


هيمن الألم على شخصيات الرواية سواء الرئيسية أم الثانوية وكأنه لا دور كبير لزيادة حدة الألم.
وأخيرا يمكن القول: وراء كل كاتب عظيم ألم عظيم، وأفكارنا يجب أن تولد دائما من الألم لتصل الى قلب القارئ الضمني.

625 مشاهدة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *