للانتظار حكاية دمع خفي

للانتظار حكاية دمع خفي

كانت جالسة في قاعة الانتظار تبدو عليها الصرامة والجدية، ومن غير مقدمات بدأنا نتجاذب أطراف الحديث بطريقة سطحية وعلى عادتي عندما أكلم شخصا لا أعرفه أكون متحفظة وأوجه الموضوع نحو صلاح المجتمع وضرورة الاهتمام بتنشئة الأجيال وما في سيرة نبينا –عليه الصلاة والسلام- من توجيهات عملية في تربية النفس وحفظ الحقوق وتأمين الواجبات، ومن التلميح شرعت هي في التصريح وكأنها تعرفني منذ زمن أخذت بالبوح في كل ما جال بخاطرها وفجأة أخذت الدموع تنهمر من عينيها لا أدري من أين أحسست بوجعها وحاولت التخفيف عنها وتهدئتها، وسرعان ما جاء دورها للفحص عند طبيبة الأسنان التي هي الأخرى صديقة لي، وقبل أن تودعني أعطتني رقم هاتفها..

لم أتصل بها .. ولا أدري لماذا، لعلي فضلت الاحتفاظ بالخصوصية، ولكن بعد أيام التقيتها مجددا في قاعة الانتظار ذاتها، وبمجرد أن رأتني سارعت إلي فرحة وقالت أنها اتخذت بعض التدابير لتغيير بعض السلبيات المحيطة بها، أسعدني الأمر كثيرا لأن معنوياتها كانت مرتفعة، وهذه المرة أخبرتني عن تفاصيل أخرى وكيف أنها كانت معلمة مادة اللغة العربية في الصف الابتدائي، وتوقفت بعدما تزوجت، ثم عاكستها الظروف واصطدمت بواقع لم تكن تتوقع أن يقاطع طريقها يوما، فتبدل حالها وفارقت الابتسامة المشرقة محياها، ووئدت أحلامها الكبيرة ومعها آمالها المتزاحمة في خططها المستقبلية بين هموم الدنيا ونوائب الدهر، فلم تجد ملاذا إلا البحث عن عمل جديد يحفظ كرامتها ويدرئ عنها وعن أسرتها العوز والحاجة.

بعزم رفضت الاستسلام لظروفها الصعبة وتغير مجرى حياتها كلية، فعزمت على التعايش دون الالتفات للجراحات والندوب التي وسمتها بعد الشدائد والأزمات، ورغم قساوة الأحداث إلا أنها أسست لدعائم راسخة في مد يد العون، والحفاظ على الترابط العائلي، وغدا العمل بالنسبة إليها مقدَّسا تُتقنه بما أوتيت من خِبرة ومِراس، إذ تحضر أحلى الحلويات التقليدية بكل أنواعها من مقروط معسل، بقلاوة، دزيريات، لعرايش وغيرها، وكذا الحلويات الراقية بلمسات عصرية، فضلا عن العجائن مثل الشخشوخة، المسمن، البغرير.. إلخ.

كل ما تصنعه في غاية الإتقان والجودة، شكلا ومذاقا، يظهر وكأنه لوحات إبداعية فنية فخمة، وكم أدهشني أنها بارعة في الخياطة أيضا والمدهش أكثر  أن ماكنة الخياطة التي تستعملها كانت هدية من أبيها –رحمة الله عليه- وهي في الصف الرابع ابتدائي لتخيط بها الدمى، واحتفظت بها منذ ذلك الوقت ومعها بذكرى والدها الرجل الذي وجدت فيه كل العطف والحنان وورثت عنه العزم والإصرار، ويبقى يوم رحيله ذكرى أليمة على قلبها لا تذكر أيا من تفاصيله تبعا لأثر الصدمة، ففتاة أبيها المدللة فقدت سندها الوحيد ووجدت نفسها وجها لوجه مع تحديات المجتمع والحياة.

لم تعد تعثر على من تستند عليه فاتكأت على ذراعها وحملت على عاتقها من حولها، لم تعبأ  بالنظر إلى غيرها فى أمور الدنيا، وسارت على قدر حاجتها دون مقارنة أو تفاضل، وتجاوزا للضغوطات في حياتها الشخصية والمهنية، غدت دقيقة في مواعيد التسليم وحريصة على إنجاز  الطلبيات المستعجلة، فقد بارك الله لها في المهارات ومنحها القدرة لتتغلب على العوائق وتتجاوز المواقف الصعبة.

هكذا حققت الإيمان بالذات واستطاعت بثقتها في نفسها أن تتحدى كل العواصف حتى تحقق حياة أسرية مستقرة تأمل فيها نجاح أبنائها وصلاحهم، فهي تأبى أن تأخذ مشاغل العيش كل اهتمامها فتلتهي عن أطفالها، فوازنت بين هذا وذاك، ولم تبحث عن أوسمة أو شهادات من أجل المظهرية الاجتماعية والألقاب الرنانة.

السيدة ياسمين كما أريد تسميتها لأنها برقته تحتاج لدعم من حولها في واقع الحال، لأنه برغم صلابتها الظاهرة تظل سيدة رقيقة المشاعر مرهفة الاحساس، دمعها خفي رقراق أتعبتها سنان الدهر التي باتت تنغرز في قلبها دون توقف مرة بعد مرة، لتظل ترفع يديها بالدعاء، ولا تنفك عن عمل الخير، فمن يرى كيف عودت نفسها على العطاء والكرم يظن أنها من طبقة الأغنياء، وبإيجابية تبدع في إكرام الغير بنية طيبة مما يعطيهم الدافع للاقتداء بها.

هذه السيدة الفاضلة نموذج حي عن النساء الصامدات العفيفات اللواتي لا تُنشر صورهن في وسائل الاعلام ومواقع التواصل الاجتماعي والفيس بوك، فما تقوم به من إنجازات وصنائع معروف يبقى في سجلها المتواري ولا تريد به شهرة أو جزاء أو شكورا إلا من الله تعالى تلتمس أن يبعد عنها البلاء.

رحمة الله وسعت كل شيء، فكلما يصيبني الإحباط والتخاذل بتراجع القيم الانسانية وضعف النوازع البشرية إلا ويضع الله في طريقي أناسا يؤكدون أن الدنيا مازالت بخير، وللخير أهله ومن بينهم صديقتي التي تليق بها تسمية المرأة الشاطرة في عرفنا رغم أنها لا تحسن صنع حلوة الطابع، فيا للعجب أتقنت كل أنواع الحلويات والمعجنات الصعبة إلا أبسطها، أمر يثير الضحك حقا.

لقد سعدت كثيرا بالتعرف عليها وأفخر بقربي منها وقد صادقتها بود، فلي الشرف بضم إنسان طموح مجد ومكافح مثلها لقائمة معارفي، ويا ليت محنة دمع انتظارها الخفي تنتهي وتنال البشرى من الرحيم الكريم.

444 مشاهدة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *