مرافعة من أجل الحراك: مغالطات وجب تصحيحها بخصوص حراك الريف

“مرافعة من أجل الحراك: مغالطات وجب تصحيحها بخصوص حراك الريف”

(محمد جحاح / أستاذ باحث في علم الاجتماع – جامعة مكناس)

(محمد جحاح / أستاذ باحث في علم الاجتماع – جامعة مكناس)

لعل أهم ما يلفت الانتباه بخصوص هذا الحراك، وبغض النظر عن طبيعته وديناميته ومطالبه المشروعة طبعا، هو الطريقة التي تعاملت بها الدولة وخدامها من “مثقفين” و”فقهاء” و”إعلام” مع الأحداث. بكلمة واحدة، فقد كان هناك إصرار على “شيطنة” الحراك وكل الفاعلين المنخرطين في ديناميته، بل أكثر من ذلك ستمتد وساوس الشيطنة هذه لتشمل جغرافية الريف وساكنته وتاريخه أيضا.
كانت هذه إذن هي الإستراتيجية التي ارتأى المخزن من خلالها إمكانية تسفيه الحراك في أفق نسفه، وهو واع تمام الوعي بما يمكن أن تصنعه “الدعاية” و”الوشاية” في هذا السياق.. لقد أرادها حربا كلامية “موازية” أو “استباقية” وظف لأجلها قاموسا تم انتقاء مفرداته بعناية: فما معنى أن يوصف الحراك بـ”الفتنة” – بما تعنيه الكلمة من حمولة دينية/ سياسية – وما معنى أن يتم ربطه بـ”أجندات خارجية” وما دلالة نعت ناشطيه بـ”الانفصال”؟؟ إننا هنا بصدد شكل من أشكال “بلاغة” سياسية/ دينية تؤصل لنموذج من القمع الرمزي الذي يشرعن بدوره لسلطة القمع المادي/ العسكري (التدخل).. وقد كان الرهان فيها، وعلاوة على أبواق الإعلام الرسمي وعلى أشباه المثقفين و”العياشة”، على المسجد وعلى الخطبة أيضا، أو بالأحرى الخطاب الديني لتسفيه وشيطنة حركة اجتماعية سلمية ذات مطالب عادلة ومشروعة.. هي “علبة بالادورا” إذن (وقد قلتها في إحدى تدويناتي السابقة) تفتح فوق سماء الريف لتلقي بكل شرورها على أبناء هذه المنطقة البئيسة، التي تحالفت ضدها لعنة الجغرافيا ومكر التاريخ مع غدر السياسة والسياسيين.
في عجالة سنقف على العبارات أو المصطلحات الثلاث، وسنعمل على تصحيح المغالطات التي حاولت الدولة – من خلالها وعبرها – تمريرها للرأي العام الوطني والدولي حول الحراك.. والأمر يتعلق طبعا بمثلث: (الانفصال، العمالة الخارجية والفتنة).
بداية، وجب التنويه هنا إلى أن هذا المثلث الدلالي – وعلى مستوى “بلاغة” الخطاب السياسي المخزني وقصديته – قد يؤدي إلى معنى واحد، ألا وهو إخراج الحراك عن إطار شرعيته وإخراج ناشطيه عن إطار “الجماعة La communautéوالإجماع Consensus Le أيضا، وبالتالي “تخوينه” وشرعنة التدخل لقمعه (“الفتنة” نائمة لعن الله من أيقضها)، وهذا يدخل طبعا في إطار نظرية المؤامرة التي أثبت المخزن إتقان تطبيقها كلما كانت هناك انتفاضة أو حركة احتجاجية ما.
فبخصوص مصطلح “الانفصال”، ليس بغريب أن يحضا بما حضي به من مركزية قوية في بنية الخطاب المخزني حول الحراك طبعا، ولعل هذا يذكرنا بجوانب من تاريخ العلاقة المتوترة بين الريف والسلطة المخزنية، خاصة في فترات ما قبل “الحماية” بما اصطلح عليه في الأدبيات الكولونيالية بـ”السيبا” La dissidence. لقد حاول المخزن إذن، وبعيدا عما تقتضيه الحكمة، إعادة توظيف مقولة مغلوطة، لم يكن لها من وجود إلا في مخيلة باحثي ومنظري الإدارة الاستعمارية الفرنسية والإسبانية على حد سواء، ولعل رهان هؤلاء كان واضحا بالطبع: السعي نحو تأكيد أطروحة “انفصال” القبيلة عن الدولة، خاصة القبائل “البربرية” والريف جزء منها، مع ما يميز العلاقة بين الجانبين من صراع وتنازع حول السلطة وشرعيتها. لعل هذا ما تمت صياغته نظريا في إطار سلسلة من التقابلات الإثنية واللغوية والسياسية والدينية والجغرافية: (عرب/ بربر، مخزن/ سيبا، شرع/ عرف، مدينة/ قبيلة، سهل/ جبل…)، ولعله الوضع الأمثل الذي راهن هؤلاء من خلاله – وفي إطاره – على إيجاد موطئ قدم للتدخل في شؤون المغرب واستعماره تحت غطاء ما سمي بـ”الحماية”، كحماية للمخزن “العربي” الضعيف و “المستنجد” من القبائل “البربرية” السائبة وزواياها؛ وفي هذا السياق طبعا يأتي توقيع معاهدة ما سمي بـ”الحماية” سنة 1912مع المخزن الحفيظي. (يمكن الرجوع بهذا الخصوص إلى كتابنا “الزاوية بين القبيلة والدولة – في التاريخ الاجتماعي والسياسي للزاوية الخمليشية بالريف”، منشورات أفريقيا الشرق (2015.
إن عبارة “الانفصال” إذن، هي المرادف المستجد – في الخطاب المخزني اليوم – لـمفهوم “السيبا”.. وفي التحديد السوسيولوجي الكولونيالي، تعتبر “السيبا” تعبيرا عن حالة الانشقاق السياسي والاجتماعي التي كانت تميز علاقة القبائل – البربرية في معظمها – بالمخزن؛ وقد ساعدها في ذلك طبيعتها الجبلية المتمنعة وموقعها الجغرافي الهامشي.. ألم يذهب مولييراس ومن بعده ميشو بيلير – في تعريفهما للريف – إلى أن الكلمة في الأصل قد تعني “الحافة” وتحديدا “حافة معسكر”، مما يؤصل للطبيعة “الهامشية والحربية” للريف؟ فهل كان الريف فعلا منفصلا، أو يسعى إلى الانفصال عن الدولة، في إطار وضع “السيبا” هذا؟ وهل فعلا شكلت هامشية الريف الجغرافية محددا لهامشيته السياسية، كما روج لها الخطاب الكولونيالي من خلال مقولة “السيبا البربرية”؟
في الواقع، وباختصار شديد، هذا ما قمنا بتفنيده في كتابنا المحال عليه أعلاه (الزاوية بين القبيلة والدولة)، والذي يعتبر ثمرة بحث أنثروبولوجي/ تاريخي حول البنيات الاجتماعية والثقافية والسياسية للمجتمع الريفي، استغرق منا قرابة السبع سنوات. ولعل من بين أهم النتائج التي خلصنا إليها في هذا الصدد، هو أنه لم يكن هناك انشقاق أو “انفصال” تام عن الدولة والمجتمع الكلي، حتى في أشد فترات ضعف السلطة المركزية بل وغيابها (أواخر حكم السلطان الحسن الأول)، ولعل هذا ما كانت تضمنه – وبشكل فريد – مؤسسة “الزوايا” باعتبارها تنظيما “وسيطا” فرضته شروط موضوعية لا يمكن فهمها إلا في إطار جدلية العلاقة المعقدة بين الدولة والمجتمع في مغرب ما قبل “الحماية”. فالزاوية هنا، وفي سياق هذه الجدلية، كانت تجسد فعلا وضع المحور L’axe الذي يتقاطع عنده خط القبيلة بخط الدولة، المحلي بالمركزي، العرف بالشرع، القداسة بالسياسة.. وعلى هذا الأساس إذن، وجب التأكيد على أن الطبيعة المتوترة التي ميزت – في كثير من الأحيان – علاقة القبائل الريفية بالمخزن، لم تكن بفعل نزوع الريفيين نحو “الانفصال” عن “السلطة المركزية”، بقدر ما كان يؤطرها الاحتجاج الذي يصل أحيانا حد التمرد على سياساته الغير منصفة اتجاه هذه القبائل. فسواء تعلق الأمر بالسياسات الضريبية المجحفة التي ما فتئ المخزن ينهجها، على الأقل، منذ هزيمة حرب تطوان 1860 مع الإسبان، (بالنظر لما كانت تقتضيه معاهدة الصلح من التزامات مالية ثقيلة، كان على المخزن الوفاء بها لصالح الدولة الإسبانية)؛ أو تعلق الأمر بسياسة بعض القواد والعمال المخزنين، التي اتسمت بالتعسف والشطط في استعمال السلطة؛ أو كتعبير عن الرغبة في المشاركة السياسية، أو ما نعبر عنه بلغة العصر بمطلب الديمقراطية.. وقد كان من نتائج البحث بهذا الخصوص، أن المخزن يتحمل مسؤولية كبرى في هذه الأوضاع الغير مستقرة، أو ما تم التعبير عنه لدى البعض بـ”الريفوبليك” كمرادف للسيبا، بالنظر طبعا إلى طبيعته الهيمنية، والتي كانت تمنعه في الغالب من إدراك أهمية باقي القوى المحلية الأخرى في سياسة القبيلة (المجالس القبلية المنتخبة والزوايا).. ولعل هذا ما فسرناه بالطبيعة البيروقراطية للمخزن، والتي يعكسها بجلاء عجزه عن الاندماج من داخل بنيات هذا المجتمع القبلي، مما جعله ينتصر إزاءه لسياسة قائمة – في معظمها – على كثير من القوة والعنف (الحركة والمحلة)، وقليل من السياسة والدبلوماسية..
في علاقة بالانحراف الذي شهده تعامل الدولة اليوم مع الحراك الشعبي بالريف، وذلك بنهجها لخيار المقاربة الأمنية بدل أسلوب الحوار والتفاوض، ألسنا هنا أمام نوع من الاستمرارية لبعض من هذه الثوابت؟؟
بالعودة إلى التاريخ إذن، واستحضارا للأدوار الاجتماعية والسياسية الحاسمة التي سيلعبها تنظيم الزوايا في هذا الإطار، لم يكن الريف يوما ليعلن عن أي نزوع انفصالي؛ هذا على الرغم مما شهدته المنطقة الريفية من أهوال ومن أحداث مأساوية؛ اللهم إذا اعتبرنا “الانفصال” أو “السيبا” هنا كمرادف للحق في الاحتجاج والانتفاض لأجل حقوق عادلة ومشروعة.. فهل أبناء قبيلة بقيوة، التي أحرقت عن آخرها إثر الحملة المخزنية التي قادها القائد سعيد بن بوشتى البغدادي عام 1898، كانوا يسعون إلى الانفصال؟ ولعل الوثائق التاريخية تفيد بأن “نشاط القرصنة” الذي جلب على القبيلة كل هذا السخط المخزني، وبإيعاز من بعض القوى الأوروبية التي كانت سفنها هدفا لقراصنة بقيوة، كان آخر خيار لهم لاسترداد مستحقاتهم من المبادلات التجارية التي رفض هؤلاء الأوروبيون الوفاء بها لهم. أضف إلى ذلك أن ما شهده الريف الأوسط أواخر حكم السلطان الحسن الأول من أحداث، والتي اعتبرها الباحثون الكولونياليون كما الانقساميون (دافيد هارت) بمثابة التدشين لعهد السيبا الكبرى بالريف (الريفوبليك)، لم يكن في الأصل سوى تعبيرا جماعيا ومنظما عن الرفض والاستنكار لبيع منجم “جبل حمام” للفضة – من طرف بعض “الزعامات القبلية والروحية” المتواطئة – لأحد المستثمرين الفرنسيين، الحادث الذي أدركه الأهالي كخيانة وكبداية أيضا للتغلغل الأجنبي الغير مباشر في منطقتهم.. وبالمثل أيضا، هل يمكن اعتبار انتفاضة قبائل الريف والأطلس المتوسط، وبقيادة وتأطير من زواياها، والتي توجت بحصار فاس 1911 لأجل الحيلولة دون توقيع معاهدة “الحماية” انفصالا؟؟ (لقد خصصنا حيزا هاما للموضوع في كتاب الزاوية بين القبيلة والدولة).
لعل أهم نموذج يمكن أن نختم به في هذا الإطار، وتحديدا للرد على أطروحة الانفصال تلك، هو أن الريفيين أنفسهم (وبخاصة الريف الأوسط وقبائل صنهاجة السراير) هم من أحبط أكبر حركة انفصالية في تاريخ المغرب الحديث، ولعل الأمر يتعلق هنا بحركة “الروكي” الجيلالي الزرهوني، المعروف بـالفتان “بوحمارة”، وقد كان ذلك عام 1909. وكما هو معلوم، فقد كان للمخزن المسؤولية الكبرى في هذه “الفتنة” التي يلقي بثقلها دائما على كاهل الريفيين، بحيث لولا تحيزه ضد هؤلاء في حربهم على إسبان مليلية، لما كان لاسم “بوحمارة” ولا لحركته الانفصالية من وجود أصلا.. ولأهميته في هذا السياق، نقتبس هذا النص للمؤرخ المغربي جرمان عياش، وذلك من كتابه الذي يحمل عنوان: “أصول حرب الريف”؛ النص: (نتصور مدى البلبلة التي تمكنت في هذه الظروف من الاستحواذ على عقول الريفيين في بداية هذا القرن. فعلى مستوى القمة والقاعدة من حياتهم، تزعزعت كل مفاهيمهم التقليدية. إذ بينما كان السلطان، في المستوى الأول، قد تركهم وشأنهم، ويبدو لهم منحازا ضدهم إلى جانب إسبانيا، كان عليهم، في المستوى الثاني، هم الرجال الأحرار، أن يطأطئوا الرأس أمام عدد قليل ممن كانوا أندادا لهم في الماضي. أي شيء إذن يحمل على الدهشة إذا كان الريف قد استجاب بسرعة وعلى نطاق واسع لنداء بوحمارة الشهير… الذي انتصب ضد المولى عبد العزيز سنة 1902؟ لم تكن هذه الاستجابة بالنسبة للريفيين، كما قيل فورا، بدافع من الميل إلى الانشقاق، ذلك أن الدعي كان يمثل في نظرهم الوريث الشرعي، الإبن الأكبر للعاهل الراحل، وكانوا يعتقدون أنهم سيجدون سلطانهم بالضبط في هذا البطل المزيف للقضية الوطنية.. ولم ينبذوا عنهم هذا الوهم إلا ليعلقوا آمالهم، مع جميع المغاربة، على ابن آخر من أبناء المولى الحسن، هو عبد الحفيظ، الذي كان الأمل معقودا عليه لإنقاذ البلاد. لكن ها هو ذا السلطان بدوره، بعد أن تركهم وحدهم يقارعون الإسبان، لا يتدخل في نهاية المعارك إلا لقبول الهزيمة بالتوقيع على اتفاقيات 1910. ثم بعد سنتين، كان هو الذي وقع أيضا معاهدة “الحماية” التي سلمت البلاد كلها. بالتأكيد، لقد انهارت كل الآمال المعقودة على هذا الجانب. ص. 110 – محمد الأمين البزاز وعبد العزيز التمسماني خلوق ، مطبعة النجاح الجديدة 1992).
بعد هذه الإطلالة التاريخية السريعة إذن، والتي تشهد أيضا بذود أهل الريف عن ترابهم ومقاومتهم الباسلة لكل الأطماع الخارجية (إسبان وفرنسيين)، هل يبق هناك من مصداقية للتشكيك في وطنيتهم اليوم، وذلك بتخوينهم وتخوين حراكهم المشروع بدعوى خدمة أجندات خارجية؟؟ فهؤلاء “الفتانون” الذين ارتأت “حكمة” المخزن اليوم بأنهم “انفصاليون” أيضا، هم في الأصل أحفاد من كان يؤمن – تاريخيا – ويحرس الثغور المغربية على طول امتداد الضفة المتوسطية للشمال المغربي، سواء أمام خطر الاكتساح الإيبيري (الإسبان والبرتغاليون)، أو العثماني (أتراك الجزائر)، ولعل هذا ما كان يسهر على تأطيره وقيادته عدد من المرابطين وشيوخ الزوايا، في إطار حرب مقدسة اندمج في إطارها الشعورين الوطني والديني معا – (كتاب:الزاوية بين القبيلة والدولة).
قبل أن نختم – بخصوص هذا المحور- وجبت العودة بعجالة إلى عبارة “خارجي” هذه، والتي حاول الخطاب المخزني من خلالها تأكيد نظرية المؤامرة على الحراك وناشطيه. وأنا أتأمل هذا التوصيف، ذهب بي التفكير مباشرة إلى الطريقة التي يتم التعامل بها – في التصورات “الشعبية”، أو لنقل “الغير عالمة”- مع المرض، إذ دائما ما يلقى باللوم على “الخارجي”، وعلى هذا الأساس نسعى إلى تفسير أمراضنا بأسباب خارجية عنا ومبهمة، لنعفي بذلك أنفسنا من المساءلة وأجسادنا من التشخيص والتحليل، ولعل في ذلك رغبة قوية في مقاومة الوصم La stigmatisation. وفق هذا التصور إذن، يصبح الشخص المريض ضحية لتآمر أو تواطؤ من قبل قوى “خارجية” وخفية، عادة ما يتم ترجمتها من خلال مقولات كـ”السحر” و”العين” و”المس”.. ولعل الأمر ينطبق هنا، وبشكل أوضح وأكبر، على فئة خاصة من الأمراض وتحديدا الأمراض النفسية والعقلية وأيضا المرتبطة منها بالعجز الجنسي، لحساسيتها طبعا. هنا بالذات، وعوض عيادة الطبيب يختار المريض اللجوء إلى “الفقيه” و”الساحر” و”الضريح”، لأن التعاطي مع حالته هنا لا يتم عن طريق الكشف عن أسباب المرض في ذاته ومن خلال جسمه، كما يفترض لدى الطب العصري، بل بالبحث دائما عن “الخارجي” ممثلا في لعنة العين أو السحر أو الأرواح الشريرة. وبهذا يصبح “العجز الجنسي” لدى الشخص المريض بمثابة تآمر خارجي على “فحولته” كما “المرض العقلي” يصبح لديه “مسا” أو “تلبسا” من قبل الجن والأرواح الشريرة. لعل هذا مؤشر قوي على استمرارية ثقافة “تنزيه الذات” و”شيطنة الآخر/ الخارجي”، بما يحيل عليه ذلك من رفض مسبق لمساءلة الذات ومكاشفتها، ورفض كذلك للتعامل مع الوقائع كما هي لا كما تتهيأ لنا من خلال “أسطرتها” و”شيطنتها” أيضا.. عطفا على ذلك، وجب التنبيه هنا إلى أن هذا ما يمكن أن نستنتجه أيضا على مستوى الثقافة السياسية السائدة اليوم، والتي شكلت – بشكل أو بآخر- خلفية للموقف الرسمي من حراك الريف. ففي علاقة بهذا الحراك الشعبي، والذي هو نتيجة موضوعية للوضع المتدهور- وعلى كافة المستويات – الذي أضحت تتخبط فيه المنطقة الريفية، كغيرها من بقية مناطق المغرب العميق، وجب علينا طرح الأسئلة التالية على “الجسم السياسي المغربي”: هل ساءلت الدولة يوما نفسها عن مسؤوليتها في هذا الوضع، وذلك بمساءلة طبيعة سياستها اتجاه هذه المناطق؟ وهل ساءلت الأحزاب السياسية وغيرها من “الوساطات التقليدية” نفسها أيضا عن سبب علتها، وعملت على تجاوز عطبها؟ وهل تساءل المنتخبون والمسؤولون عن تدبير السياسات العمومية، محليا وجهويا، عن المهمة التي انتخبوا من أجلها أو كلفوا؟ أم أن أسلوب “الشيطنة” وحده الكفيل بالتحايل على هكذا أسئلة، ومن ثم تحصين “الذات” من الوقوف أمام “مرآة عيوبها”؟؟
بعيدا إذن عن “شيطنة” الحراك وفاعليه، وبعيدا عن نظرية المؤامرة التي تفسر كل شيء بالـ”الخارج” كعلاقة بجهات أجنبية، وبعيدا أيضا عن قاموس “الفتنة” وأخواتها، وجب التشديد هنا على أن الحراك هو قبل كل شيء إفراز موضوعي لأوضاع “داخلية” اجتماعية واقتصادية مزرية، فرضتها السياسات المجحفة للحكومات المتعاقبة، منذ الاستقلال، في حق الريف كما في غيره من مناطق المغرب العميق.. وحتى لا نطيل، يمكننا تلخيص أهم الأسباب والعوامل الرئيسية التي تقف وراء هذا الحراك، والتي ربما تعكسها بشكل واضح الشعارات المرفوعة في مسيراته وتجمهراته الشعبية، في قضايا حيوية ذات صلة بملفات تمس قطاعات: الصحة والتعليم والعدل والشغل والسكن والمواصلات، أو بكلمة واحدة كل ما يمكن أن يشكل أساسا ودعامة لتنمية محلية أو جهوية منشودة ومنصفة للمنطقة وأهلها.
لا غرابة إذن في أن تتسع القاعدة الجماهيرية للحراك بتفاقم هذه الأوضاع، هذا على الرغم من بعض المشاريع التي تم إطلاقها في السنوات الأخيرة وبمبادرة ملكية، والتي بدا أن معظمها لم يستكمل طريقه إلى الإنجاز، ولعل مشروع “الحسيمة منارة المتوسط” يسائل كل المسؤولين هنا: لماذا لم يتم الإفراج عنه وتحديد أفق زمني معقول لتحققه (أفق سنة 2019، كما تم التصريح بذلك مؤخرا)، إلا بعد اتساع رقعة “الفتنة”، عفوا الحراك، واشتداد حرارتها؟؟! وفي علاقة بكل ذلك طبعا، ولفهم أعمق لسياق الحراك وديناميته، وجب تقديم تشخيص سريع لحالة الاحتقان التي آلت إليها الأوضاع بالمنطقة في علاقة بكل مطلب على حدة: فعلى المستوى الصحي مثلا، وبغض النظر عن الخصاص الكبير في البنيات الاستشفائية وسوء التجهيزات وقلة الأطر، فإن مطلب بناء مستشفى جامعي خاص بأمراض السرطان يعتبر مطلبا استراتيجيا، ولعل هذا ما يفسر ذلك الالتفاف الجماهيري الواسع حوله، خاصة وأن منطقة الريف تسجل أعلى حالات الإصابة بهذا الداء الخبيث، والذي تعود أسبابه بالدرجة الأولى إلى الحرب الكيماوية الاستعمارية (الإسبانية/ الفرنسية 1926 – 25) على المنطقة.. ولنا أن نستحضر هنا هول المعاناة التي يتكبدها المرضى (وهم كثر) وأسرهم في التنقل الدائم من الحسيمة ونواحيها نحو الرباط للمداومة على تلقي العلاج الكيميائي وغيره. إننا هنا أمام مطلب لإنصاف مزدوج، إنصاف يتعلق بالحاضر وبالحق في علاج يتأسس على “سياسة للقرب”، وإنصاف مرتبط بتصفية ملف تاريخي مرتبط بجرائم الحرب الاستعمارية؛ مع ما قد يعززه هذا الشعور في نفوس الريفيين (كضحايا) من اتجاه أكثر نحو التوحد والنضال. أما على مستوى التعليم، فقد ركزت إحدى مطالب الحراك على ضرورة بناء نواة جامعية بالحسيمة، وهو الأمر الذي كان مقررا بالفعل في إطار النظام الجهوي السابق (جهة الحسيمة، تازة وتاونات)، قبل أن يتم تحويل المشروع – وفي ظروف غامضة – إلى مدينة تازة على حساب عاصمة الجهة ومقر ولايتها الحسيمة.. وبغض النظر عما خلفه ذلك من مشاعر الحسرة والغبن لدى ساكنة الإقليم، فإن مشكلة البعد عن المراكز الجامعية (فاس تطوان ووجدة)، حيث يسمح لطلبة الإقليم بالتسجيل، ضاعف من معاناة الطلبة وأسرهم، أخذا بعين الاعتبار ما يعنيه ذلك من مصاريف الدراسة والتنقل والسكن والمعيشة، هذا مع حرمان الأغلبية الساحقة من حق المنحة.. لقد كان مطلب الإنصاف حاضرا هنا وبقوة أيضا، خاصة بالنظر إلى التدهور الكبير للقدرة الشرائية لمعظم الأسر (ليس فقط المنتمية منها للطبقات الدنيا، بل وحتى فئة عريضة من الطبقة المتوسطة)، وذلك بفعل استمرار الدولة في نهج سياسة التوازنات الماكرو- اقتصادية انسجاما مع مقتضيات التقويم الهيكلي وإملاءات المؤسسات المالية الدولية، وهذا معطى لا يقتصر طبعا على المنطقة بقدر ما ينسحب على كافة التراب الوطني.
أما على مستوى الشغل، فلا حاجة إلى التأكيد هنا على أن إقليم الحسيمة يسجل واحدة من بين أعلى نسب عطالة الشواهد العليا بالمغرب، هذا علاوة على بطالة السواعد طبعا، خاصة في ظل غياب وحدات صناعية كافية بالإقليم، هذا مع محدودية العرض على مستوى قطاع الخدمات، وتحديدا قطاع السياحة البحرية الذي بإمكانه أن يشكل رافعة حقيقية للتنمية لو كانت هناك إرادة سياسية فعلية من قبل الدولة في هذا الصدد. وفي علاقة بالموضوع، وبناء على عدد من المقابلات، يمكن التأكيد على أنه لا الدولة – في شخص قطاعاتها الوصية – ولا المنتخبون كمسؤولين عن تدبير وتصريف السياسات العمومية بالإقليم، يشجعون على خلق المناخ الملائم أمام المستثمرين من أبناء المنطقة للإسهام في تنمية إقليمهم.. لعل هذا ما عبر عنه، وبامتعاض شديد، عدد ممن أجريت معهم مقابلات من أبناء المنطقة المهاجرين الذين اختاروا العودة والاستثمار في قطاعات السياحة والعقار والصيد البحري والنقل العمومي؛ بحيث ما تزال مشاريعهم تحت رحمة البيروقراطية الإدارية، بما يعنيه ذلك من تعقيدات مسطرية وتعسفات وما يرافق ذلك من ابتزازات أيضا، وهنا يمكن الحديث بالطبع عن لوبيات وعن شبكة معقدة من علاقات المصلحة، تجمع مافيات الانتخابات والعقار وبارونات المخدرات وبعض الفاسدين من رموز السلطة. وعلى مستوى آخر من هذا الوضع الكارثي، وجب التنويه هنا إلى أن المورد الأساس لغالبية الأسر هو الصيد البحري بصنفيه التقليدي و”العصري”، فكيف لنا أن نتصور حال هؤلاء بعد المشاكل الخطيرة التي أصبح يعيشها القطاع بفعل غياب إستراتيجية فعلية للتأهيل والدعم والمواكبة من قبل الوزارة الوصية (مخطط أليوتيك المغرب الأزرق !!)، بل أكثر من ذلك، فإن هذا القطاع – وعلى غرار قطاعات أخرى كالسياحة والإنعاش العقاري – أصبح مجالا مفتوحا للمضاربات والاحتكار وتهريب الثروة السمكية، تتحكم فيه لوبيات الفساد وبمباركة السلطات الوصية، ولعل هذا ما تأكد بالملموس بعد مأساة الشهيد محسن فكري التي كانت لها أثر الشرارة في انطلاق الحراك.. وعلى مستوى آخر من التشخيص أيضا، وكما عبر عن ذلك عدد من البحارة المعطلين في محادثات أجريناها معهم، فإن الدولة أصرت وبكل الوسائل على “قطع أرزاقهم”، وذلك في إشارة واضحة إلى مشروع تحويل ميناء الصيد البحري الذي تتعيش منه غالبية الأسر بالمدينة إلى مرفإ ترفيهي (مارينا الحسيمة)، وذلك لصالح مستثمرين خليجيين. وفي نفس السياق، فقد أضاف البعض بأن وضع العطالة الذي أصبحوا عليه يجد تفسيره في رحيل، أو بالأحرى في ترحيل، جزء كبير من أسطول الصيد نحو مدن ساحلية أخرى (تطوان، العرائش، آسفي، الداخلة…)، وهو الأمر الذي لخص تفسيره أحد الصيادين بلعنة “النيكرو”، قالها بصوت يعصف ألما وحسرة وهو أقرب أن يجهش بالبكاء.. إن الأمر يتعلق هنا بظاهرة مثيرة وغريبة، وقد أصبحت موضوع نكات يومية في الشارع الحسيمي، إنها ظاهرة اكتساح الدلفين الأسود Negro) بالإسبانية) لمياه الصيد الإقليمي بالساحل الريفي.. المعروف طبعا عن هذا النوع من الدلافين، هو تعرضها لشباك الصيد وتمزيقها والتهام حمولتها من الأسماك، أضف إلى ذلك أنه صنف نادر ومهدد بالانقراض، لذا يمنع منعا كليا اصطياده أو قتله، فما العمل إذن حيال هذا المأزق؟؟ تبدأ النكتة بهذا السؤال الساخر إذن: (واش حنا نموتو باش النيكرو يعيش؟)، لتنتهي بأسئلة حارقة ومزعجة: من أين أتى هذا “الوحش”؟ ولم في هذه الظرفية بالذات؟ وهل لم يجد له مكانا آخر غير ساحل الحسيمة؟ كل الأسئلة تفضي، في تصور الأهالي، وعلى رأسهم مهنيو الصيد البحري، إلى جواب واحد: إن الأمر مدبر والهدف تحويل الميناء إلى مرفإ سياحي، كل ذلك على حساب قوت المئات من الأسر.. فما الذي يمكننا توقعه من هذه الأسر إذن، غير الانخراط الكامل في حراك شعبي لأجل رفع الظلم و”الحكرة” عنهم، وكأن لسان حالهم يردد هنا العبارة الشهيرة: (قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق)..
أما على مستوى مطلب العدل/ العدالة، وعلاوة على الإطار التاريخي والسياسي العام لهذا المطلب: كحق هذا الإقليم المهمش في عدالة ترابية تجعله يستفيد هو الآخر من مقدرات الثروة الوطنية (مشاريع تنموية، تسهيلات ضريبية لتشجيع الاستثمار…)، وكحق أبناء المنطقة الريفية أيضا في جبر الضرر الجماعي جراء الفضاعات التي ارتكبت في حقهم من طرف المخزن (أحداث 1958 – 1959 و1984 …)، وكحقهم أيضا في إسقاط ظهير العسكرة عن المنطقة؛ فكثيرة هي الملفات المرتبطة بالفساد، والتي لا زالت حبيسة رفوف المحاكم، أو تمت تبرئة المتورطين فيها، مما يطرح أكثر من سؤال حول هذه المسألة.. لعل هذا ما يؤكد استمرارية الحضور القوي لبعض لوبيات الفساد المرتبطة باقتصاد العتمة (الكيف، التهريب والهجرة السرية)، وربما هذا ما ينعكس أيضا على مستوى اللعبة السياسية محليا وجهويا (استعمال المال في العمليات الانتخابية والتزوير …)، كل ذلك يتم وبتواطؤ مكشوف من بعض رموز السلطة.
على مستوى آخر من التشخيص أيضا، وبناء على معطيات ميدانية، هناك جانب آخر يؤكد بشكل فضيع مسألة التلاعب بالعدالة، وهو المتمثل في قضية تلفيق محاضر مفبركة لعدد من المواطنين وفي غياب تام لاحترام المساطر القانونية، الأمر يتعلق بمزارعي القنب الهندي من فلاحين بسطاء يتحصلون بالكاد على قوت يومهم من هذا النشاط الزراعي، الذي لا تسمح المعطيات الطبيعية ولا “السياسية” أيضا بإيجاد بديل له. بحسب المعطيات المتحصل عليها إذن، فإن ثلثي أرباب الأسر من أهالي صنهاجة السراير بالريف الأوسط: (كتامة، بني أحمد، بني بونصار، بني سدات، بني خنوس…) هم في عداد المبحوث عنهم Recherchés (منفيون في مداشرهم خوفا من إلقاء القبض عليهم)، والتهمة واحدة: (اجتثاث الغابة وزراعة القنب الهندي)، والأدهى من كل ذلك هو أن المحاضر يتم تحريرها في غياب تام لأهم الشروط القانونية ألا وهو شرط “الصفة الضبطية”.. إزاء هذا الوضع إذن، فكيف لا يجد هؤلاء الفلاحون البسطاء “المنفيون” في حراك الريف فرصتهم للاحتجاج والتمرد أيضا على “الحكرة” والظلم الذي يحسونه، هذا في الوقت الذي تعيث فيه بارونات التهريب فسادا في الأرض، وهم في منأى عن أية مسائلة (حصانة سياسية، برلمانية، مالية !!). لعل المسيرة الضخمة التي نظمها أهالي “تلارواق” (وهو ربع من قبيلة بني سدات الصنهاجية)، ومزارعين مع أسرهم من قبيلتي كتامة وبني سدات نحو الحسيمة، وذلك للالتحاق بالحراك، خير دليل على هذا الرد.. فهي مسيرة كانت – كما تصورها أصحابها – من أجل “العدالة والإنصاف”، وذلك بالنظر أيضا إلى قضية الأرض المسلوبة من أصحابها، والتي انتهت وبطرق مشبوهة في ملك مستثمرين إماراتيين.. وتعود قصة عملية السطو هذه إلى سنة 1975، حين تقدمت وزارة الفلاحة آنذاك – وفي إطار مشروع التنمية الاقتصادية للريف الغربي DERO – بطلب لأهل تلارواق من أجل التنازل عن هكتارين من أرضهم لصالح مشروع “تعاونية الفتح”، لكن سيتبين فيما بعد بأن جماعة من الأعيان المتنفذين، وبتواطؤ مع السلطة وبعض الأطر الفنية من المهندسين المشرفين على المشروع، ستستفرد بالمشروع مستغلة في ذلك غياب أغلبية رجال المنطقة وممثلي الساكنة لمشاركتهم في المسيرة الخضراء، التي اعتبروها “واجبا وطنيا”. وهكذا، وبين عشية وضحاها، ستتسع مساحة هذا “المشروع” لتشمل 47 هكتارا، وكل ذلك على حساب أرض الساكنة وبغير موجب حق، بل أكثر من هذا سيستمر مسلسل السطو والنهب ليصل ذروته سنة 1984 بالإجهاز على ما تبقى من أرض “الجماعة”.. ولا حاجة للتذكير هنا بسيل من الشكايات والتعرضات التي تقدم بها الأهالي لدى المحاكم والجهات المختصة، والتي قوبلت دوما بالتجاهل والتسويف، الأمر الذي قابلته الساكنة بأشكال من الاحتجاج والنضال السلمي، فكان رد السلطات كعادتها هو “الترهيب”، وذلك بفبركة محاضر تتعلق بالعصيان علاوة على محاضر إتلاف الغابة والتعاطي لزراعة القنب الهندي.. وبخصوص المسيرة الاحتجاجية، وكما هو معلوم، فقد تم قمعها في بدايتها، كما اعتقل بعض من مؤطريها صحبة الزفزافي ونشطاء الحراك الآخرين..
على مستوى السكن، فالوضع قد لا يختلف كثيرا عن بقية مدن الهامش المغربية، ولعل النموذج هنا يمكن تقديمه بمشروع إعادة تأهيل مدينة تارجيست، والذي كان من بين محاوره الأساسية إعادة إسكان قاطني الثكنة العسكرية التي كانت جل مساكنها مهددة بالانهيار. لقد تمت الصفقة مع مؤسسة العمران، وقد تم تفويت الوعاء العقاري لبناء هذا المشروع السكني بثمن رمزي، وكل ذلك كان على حساب المالكين الحقيقين للأرض (دواري: مراحة ولمعلمين) والذين لم يتم إنصافهم لحد الآن.. أضف إلى ذلك أن المشروع لم يستكمل إنجازه وفق ما تم تصوره والتسويق له، حيث لا زالت مجموعة هامة من الأسر لم تستفد بعد من حقها في مشروع إعادة الإسكان هذا، وذلك على الرغم من الخطر الدائم الذي يتهددهم بفعل تآكل بنايات الثكنة الآيلة للانهيار. علاقة بالموضوع إذن، فقد كانت المشكلة ولا تزال مدرجة كواحدة من النقاط المحورية للملف المطلبي للجنة الحراك الشعبي بتارجيست، وما أثار غضب الساكنة أكثر بهذا الخصوص، هو موقف المسؤولين (سلطة محلية ومنتخبين) السلبي من المسألة؛ بل أكثر من ذلك – وحسب ما نستفيده من تسجيل لإحدى اجتماعات المجلس البلدي لتارجيست (فيديو منشور على صفحتي) – فإن أصابع الاتهام تشير إلى رئيس المجلس والبرلماني عن الجهة، خاصة فيما يتعلق بالطبيعة الغير شفافة والغير ديموقراطية (على حد تعبير نائب الرئيس) التي ميزت تدبيره لـ”صفقة العمران” بتارجيست. أمام هذا الوضع إذن، وعلاوة على مشاكل أخرى بنيوية، كيف لا يمكن لساكنة هذه المدينة (حاضرة صنهاجة السراير بالريف الأوسط) ألا تنخرط، وبشكل قوي ومسؤول في الحراك، خاصة وأنها لم تجد آذانا صاغية لواحد من أهم مطالبها للإنصاف، والأمر يتعلق بإحداث عمالة إقليم تارجيست؟
حتى لا نبتعد كثيرا، وفي علاقة بمسألة المواصلات والشبكة الطرقية، يمكن أن نختم بهذه “المهزلة” التي يمكن اعتبارها وصمة عار على جبين المسؤولين: إذ كيف يعقل في مغرب الاستقلال أن الطريق الوحيدة الرابطة بين مدينة تارجيست و شاطئ قزح (كلايريس) الجميل ببني بوفراح (حوالي 20 كلم)، و الذي يعد بإمكانات سياحية هائلة يمكن الرهان عليها في تنمية المنطقة ككل، لا زال هو نفسه الطريق، أو بالأحرى ما تبقى منه، الذي خلفته الإدارة الإسبانية منذ احتلالها المنطقة؟؟ لقد كانت هناك عدة احتجاجات ومطالب ووعود أيضا، لكن من دون جدوى.. وها نحن اليوم، وبفعل الزخم النضالي للحراك، نسمع والي الجهة يتعهد بإنجاز هذا المشروع الذي قد يساهم – بشكل من الأشكال- في إعادة تجسير الهوة بين هذه المدينة الجبلية وساحلها المتوسطي.
كانت هذه إذن إطلالة سريعة على جوانب “مغمورة” من الواقع المر الذي تعيشه المنطقة الريفية، وهي نفسها المرارة التي عبر عنها نشطاء الحراك وفاعلوه من خلال أشكالهم النضالية الحضارية، ولعل المرارة الأكبر هي ما أحس به هؤلاء وكل المتعاطفين معهم جراء ما ألصق بحركتهم من أوصام Stigmates.
ختاما، وللذين أجهدوا أنفسهم وبكل الوسائل لشيطنة الحراك، أطرح عليهم هذا السؤال المزعج: لماذا ظل الحراك قائما، رغم سياسات التخوين والقمع والاعتقال؟؟
لنختصر الجواب إذن: الحراك طبعا ليس شخصا أو أشخاصا كي ننسفه باعتقال أحد رموز قيادته، وليس تحريكا Manipulation من جهة خارجية كي نسعى إلى تخوينه، بل هو تعبير موضوعي جماهيري عن مطالب عادلة ومشروعة.. فهذا الحراك الذي لا يزال مستمرا ومحافظا على زخمه النضالي قرابة السبعة شهور، هو تأكيد من جهة، على أن هناك “قضية عادلة” التف حولها الفاعلون، وذلك بعد يأسهم من الوعود والتسويفات؛ بحيث لم يتبق لهم سوى خيار النضال والاحتجاج الجماهيري لانتزاع مطالبهم التي يرونها جد مشروعة.. ومن جهة ثانية، فهو تأكيد على طبيعته المنظمة والمسالمة أيضا، مما يضعه في إطار الحركات الاجتماعية الجديدة، بما يميزها من أدواة عمل وأساليب مبتكرة في تدبير هذا النمط من الفعل الجماعي/ الاحتجاجي المنظم. إنه نمط فريد في ابتكاره لأساليب حضارية في التفاوض والنضال، بعيدا عن أية مساومة وبعيدا عن الارتهان لأي حزب سياسي أو نقابة ما.. ولعل هذه سمة من بين سمات أخرى تميز الحركات الاجتماعية الجديدة في أوروبا والغرب. إنها حركة تتأسس على مطلبي الاعتراف والإنصاف (ضدا على التهميش والحكرة)، وعلى قيم كونية يشرعنها المشترك الإنساني الكوني: العدالة، الحرية، الكرامة، المساواة، الديمقراطية… وبهذا الشكل فهي تقدم النموذج لبقية الأشكال الاحتجاجية التي ما فتئ يعرفها الشارع المغربي اليوم، خاصة أمام استمرار تدهور القدرة الشرائية للمواطن المغربي، التي بدأت تمس حتى شرائح هامة من داخل الطبقة المتوسطة، ناهيك طبعا عن أسئلة الديمقراطية والشغل والصحة والتعليم والتنمية…إلخ. هذه فرصة الدولة إذن ومسؤوليتها بالطبع، لفتح حوار جاد ومسؤول حول مطالب الحراك، والتي هي في الأصل مطالب مشروعة كما أنها جزء لا يتجزأ من مطالب كل الحركات الاجتماعية والاحتجاجية على امتداد خارطة الوطن، وأما المقاربة الأمنية فلن تزيد الأمر إلا سوءا.. لقد قالها السوسيولوجي الفرنسي والمتخصص في الحركات الاجتماعية آلان توران، وهو يستحضر مثل هذه المخاوف: تبدأ الطماطم خضراء لتنتهي حمراء..

308 مشاهدة