مفهوم المؤسسات السياسية

من مفهوم المؤسسات السياسية 2/1             د. محمد بالروين 
بداية يمكن القول ان للمؤسسات اليوم دور حيوي وأساسي في تعريف وتشكيل كل ما هو مُمكن ومُحتمل في الحياة السياسية للشعوب وذلك عن طريق تكوين وتطوير الهياكل والقواعد والاعراف التى تقوم عليها كل دولة. وإن نوع وطبيعة المؤسسات هو الذي سيحدد الكيفية التى تمارس بها دولة ما نشاطاتها وتحكم بها نفسها. وعليه فلابد على كل شعب يريد أن ينهض ويتقدم أن يهتم بهذا المُكون الاساسي والضروري لبناء الدول وان يسعى الى تطويره وإستخدامه الإستخدام الأمثل. ولعله من المفيد في هذا المقال أن أُسلط بعض الضوء على أهم مكونات المؤسسات السياسية وذلك بمحاولة الاجابة على الاسئلة التالية:
1. ماذا نعني بالمؤسسات السياسية؟
2. ما هي أهم طبائع المؤسسات السياسية؟
3. ما هي أهم وظائف المؤسسات السياسية؟
4. ما هي أهم أنواع المؤسسات السياسية؟
5. ما هي أهم معايير العملية المؤسساتية؟
6. ما هي ظاهرة الإفلاس المؤسسي؟
أولا: معنى المؤسسات 
يمكن تعريف المؤسسات بأنها مجموعة من القواعد والادوار والمعايير المتمحورة حول هدف يُلبي حاجات معينة لمنتسبيها. ويمكن النظر للمؤسسات على انها مجموعة من العلاقات الانسانية الدائمة والمستقرة نسبيا للافراد الذين تجمعها مصالح وأغراض مشتركة. أي بمعني آخر نستطيع فهم المؤسسات على انها كل الهياكل التنظيمية والإجراءات الدائمة للنظام السياسي التي تُوجه وتُقيد وتُراقب سلوكيات وتصرفات المواطنين في الدولة، وهي أيضا الركائز والأسس التى يقوم عليها المجتمع.
ثانيا: طبائع المؤسسات 
يمكننا في هذه العجالة أن نقوم بحصر أهم ثلاث طبائع للمؤسسات السياسية هي:
(أ) الوجود: أين يمكن ان توجد المؤسسات السياسية؟ وهنا يمكن القول بانه ليس بالضرورة ان توجد المؤسسات السياسية فى مكان أو مقر أو مبني واحد بل من الممكن أن توجد في أماكن متعددة أو كروابط ينتمي لها افراد متواجدون في أماكن مختلفة ودون ان يكون لها مكان معين. والأمثلة على هذه الانواع كثيرة منها على سبيل المثال رابطة القبيلة أو العشيرة أو الشعب.
(ب) التفاعل: من المتعارف عليه إنه من طبيعة المؤسسات السياسية انها تتعامل بفاعلية مع قيمها وقواعدها وعاداتها مما يقود في النهاية لتكوين ثقافة سياسية خاصة وعقلية قادرة وفريدة لكل مؤسسة من هذه المؤسسات. وإستنادا على هذا الفهم يمكن ان نستخلص أن المؤسسات هي مُكون أساسي وضرورة من ضروريات تجسيد وتفاعل القيم في كل مجتمع وبدون هذا المُكون لا يمكن لأي شعب تطبيق المبادئ والقيم التى يؤمن بها ولا الشعارات التى يرفعها التطبيق الصحيح.
(ج) الإنتماء: حيث تقوم المؤسسات في العادة بتعريف وتحديد نوع وطبيعة الانتماء الذي تسعى الى توفره في أعضائها. وبمعنى آخر تشترط المؤسسات على كل أعضائها أن ينتموا ويحترموا ويلتزموا بكل النظم والإجراءات والاعراف التي تم وضعها والاتفاق عليها لكي تستطيع القيام بدورها على أحسن وجه.
ثالثا: وظائف المؤسسات 
في الحقيقة إن للمؤسسات السياسية اليوم وظائف ومهام عديدة ومتشعبة لعل من أهمها:
(1) التمكين: من أهم وظائف المؤسسات السياسية الحديتة هو قيامها بمساعدة الدولة والمجتمع على إيجاد القيم المناسبة وترسيخ القواعد العامة ووضع وتحديد خريطة المشهد السياسي الذى يعمل فيه المنتمون لها.

(2) التوفيق: أما الوظيفة الثانية للمؤسسات السياسية فهي محاولة القيام بعملية التقريب والملاءمة وبناء الجسور بين القيم المتناقضة في المجتمع. بمعنى قيام هذه المؤسسات بعملية الجمع بين القيم المتنافسة (والتى قد تكون في بعض الاحيان متصارعة) مثل محاولة التقريب بين قيمة “الحرية” من جهة، وقيمة “المساواة” من جهة أخرى وأيضا عملية مزج مفهوم “النظام الاجتماعي” مع مبدأ “حق الحرية.” وبالإضافة لذلك قيام المؤسسات بمحاولة نقل المعرفة والخبرة والثقافة السائدة في المجتمع من جيل الى آخر.
(3) التنظيم: أما الوظيفة الثالثة والمهمة من وظائف المؤسسات العصرية اليوم فهي عملية تنظيم المواطنين فى الدولة ووضعهم في مهام مختلفة وهياكل متنوعة تختلف باختلاف القواعد والاعراف والقيم التي تتضمنها هذه المؤسسات وأساسها المقدرة والكفاءة والعلم. وما أقصده بالتنظيم هنا هو وجود لوائح ونظم داخلية لهذه المؤسسات تُشكل الاساس الذى يقود إما لنجاحها أو لفشلها. والهدف الاساسي من التنظيم في العادة هو إعداد وتخطيط وتنسيق ومراقبة الانشطة بحيت يتسنى للافراد الحصول على السلع والخدمات والنشاطات التي يحتاجونها في الوقت والمكان المناسب.
(4) الترشيد: وهو قيام المؤسسات الحديثة بعملية توجيه النمو والتطور في الدولة وتحفيز المواطنين على أداء واجباتهم من خلال إعطاء معنى وهدف للأنشطة التى يقومون بها. ويمكن إعتبار المؤسسات السياسية ومكوناتها في أي مجتمع العمود الفقري والمصدر الرئيسي للنمو والتطور بكل أبعاده وخصوصا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ومن هذا يمكن للمرء أن يستنتج على سبيل المثال بأن من أهم الأسباب التى قادت للفقر والتخلف والجهل فيما يُعرف اليوم بـــ “دول العالم الثالث”هو عدم وجود مؤسسات حديثة ومتطورة بإلإضافة الي قيام الانظمة الدكتاتورية بإصدار قوانين وقيود تُعيق العمل المؤسسي وتُجرم كل الاعمال الجماعية التى لا تخدم مصالحها حتى ولو كانت مُفيدة ومُقدسة.
(5) المشاركة: وهي ضرورة وجود المؤسسات المناسبة لنجاح أي عملية مشاركة سياسية حقيقية في أي دولة. وبمعنى آخر إن غياب هذه المؤسسات العصرية والمناسبة سيقود حتما الى إنتشار ظواهر سلبية عديدة لعل من أهمها الفوضى والغش والرشوة والمحسوبية والفساد ومن ثم عرقلة النمو والتطور وفي النهاية وجود نظام حكم دكتاتوري مستبد. ووجود هذا الوضع في أي دولة يُجبر المواطنين الى اللجوء الى مؤسساتهم التقليدية في المجتمع لتحقيق مصالحهم وأهدافهم الشخصية.
(6) المشروعية: إذا أراد أي شعب أن يجعل عامل “القوة السياسية” نصيرا للحق والعدل وليس ضدهما لابد عليه ان يقوم ببناء مؤسسات حديثة وقادرة ومناسبة من جهة وأيضا العمل الجاد من أجل تطوير مؤسساته التقليدية (كالقبيلة والعشيرة وغيرها) في المجتمع من جهة أخرى. إن وجود المؤسسات في أي مجتمع هو الشرط الاساسي والضروري لإضفاء المشروعية على تصرفات الدولة، وعليه يمكن القول بإن بناء وتطوير المؤسسات السياسية هو أهم ما يفرق ويميز الدول المتحضرة اليوم عن الدول المتخلفة.
(7) الإستقرار: أما الوظيفة السابعة للمؤسسات السياسية في كل المجتمعات هى عملية تحقيق الإستقرار والحفاظ على مكونات المجتمع المختلفة وإتاحة الفرص للجميع لتحقيق أهدافهم المشروعة داخل أطر وآليات الدولة المعترف بها. وذلك لان الاستقرار في أي مجتمع هو أهم ركيزة من ركائز وشروط النمو وبدونه لا تستقيم الحياة بشرط الا يكون ثمن هذا الاستقرار التضحية بالقيم الانسانية الأخرى وخصوصا العدل والامن والحرية.
رابعا: أنواع المؤسسات           لعل من أهم أنواع المؤسسات السياسية في الدول الحديثة الاتي:
 (1) الدستورية
يمكن اعتبار وجود الدستور في حدّ ذاته من أهم المؤسسات لبناء وإستقرار أي دولة حديثة وذلك لان الدستور هو التعبير والتجسيد الحقيقي لإرادة الشعب ومن أهم أسس ومُكونات الدول. وهو ايضا الوثيقة التى يجب الرجوع اليها لمعرفة الإجابة عن السؤال: “من يحكم وكيف؟”. ان الدستور هو التعبير الاساسي والجوهري وهو الإتفاق الذي لا بديل عنه لتحديد الكيفية التى يتم بها حكم وتنظيم مجتمع ما. فكلنا يعلم بأن التنظيم الإداري وهياكل السلطة والاجراءات العامة التى تصدرها الدولة ما هي فى الحقيقة الا جوهر وإنعكاس لمفهوم الدستور سواء أكان هذا الدستور مكتوبا أو غير مكتوب. وعليه فيمكننا إعتبار وجود الدستور أوغيابه مؤشر أساسيا ومهما على مكانة وقيمة وأهمية المؤسسات فى أي مجتمع. ويمكن القول انه لا قيمة لوجود دستور مهما كان رائعا بدون وجود مؤسسات عصرية تقوم بترجمته على أرض الواقع. ومن جهة أخرى لا فائدة من وجود مؤسسات اذا لم تكن منطلقة من الدستور ومحكومة بالقانون. وفي إعتقادي لابد من النظر الي الدستور والمؤسسات على أنهما وجهان لعملة واحدة ولا يمكن فصلهما عن بعضهم البعض. فلا يمكن وجود دولة دستورية عادلة الا اذا كانت دولة مؤسسات، ولا يمكن لدولة دستورية أن تستمر بفاعلية وتأثير الا اذا تم تجسيدها في شكل مؤسسات حديثة ومتطورة.
(2) الحكومية
ان أهم وظائف صنع السياسات والقرارت في جميع المجتمعات الحرة والمتقدمة اليوم تم تقسيمها الي ثلاثة أنواع رئيسية هي:
(أ) التشريعية: وتشمل كل السلطات التي من حقها صناعة السياسات والقرارات في الدولة.
(ب) التنفيذية: وتتضمن كل السلطات التي من واجبها تنفيذ السياسات والقرارات في الدولة.
(ج) القضائية: وتشمل كل السلطات التى من حقها تفسير معنى السياسات والقرارات. وبالإضافة الى هذه السلطات الثلاث هناك مؤسسات حكومية أخرى عديدة كمؤسسة الانتخابات التي أصبحت مؤسسة من أهم المؤسسات وخصوصا في الدول المتقدمة. وهناك على سبيل المثال لا الحصر مؤسسات أخرى كالجيش والبوليس والأمن والضرائب التي أصبحت أيضا من أهم المؤسسات في كل الدول الحديثة. ويمكن القول بأن وظيفة المؤسسات الحكومية هى بالدرجة الاولي وضع وتنفيذ السياسات وتفسير القوانين وتحديد اللوائح وفرض القيود الدستورية التي تؤدي الى توفير العدل والإستقرار والامن في الدولة.
(3) الأهلية
أما فيما يُعرف اليوم بمؤسسات المجتمع المدني فهي عبارة عن المنظمات غير الحكومية وتشمل كل المؤسسات التطوعية التي يؤسسها الافراد في المجتمع والتي يمكن أن تأخذ أشكالا متعددة وأحجاما مختلفة. فتقوم هذه المؤسسات بإستيعاب كل النشطاء الغير عاملين في مؤسسات الدولة والذين يطالبون بحقوقهم ويعبرون عن أفكارهم وآرائهم في كيفية بناء المجتمع وتطويره. ولعل من أهم هذه المؤسسات اليوم الاتحادات والنقابات والجمعيات والروابط وكل قوى الشعب العاملة الموجودة في المجتمع ما عدا المؤسسات الحكومية أو المؤسسات الاقتصادية والتجارية.
(4) الاقتصادية
يمكن تعريف المؤسسات الاقتصادية على إنها مجموعة من الانماط والأساليب والأدوار والمعايير والانشطة التى تنظم إنتاج وتبادل وتوزيع وإستهلاك السلع والخدمات في مجتمع ما. ويشمل هذا النوع من المؤسسات كل المنظمات (سواء أكانت حكومية أو خاصة) التجارية والمالية كالاسواق والشركات والمراكز التجارية التي تنتج وتصنع وتوزع السلع والخدمات في المجتمع. بمعنى هي كل المؤسسات التي تسعى من حيث المبدأ الى تأمين حاجات المواطن من مأكل ومشرب وملبس ومسكن وكل ما يحتاجه الانسان لإشباع رغباته. وبمعنى آخر إن وظيفة المؤسسات الاقتصادية بالدرجة الاولى هي إنتاج وتداول وتوزيع السلع والخدمات في المجتمع.
(5) الاجتماعية
يشمل هذا النوع من المؤسسات كل المنظمات الأخرى الغير حكومية والأهلية والاقتصادية. وفي العادة تتكون كل مؤسسة من هذه المؤسسات الاجتماعية من مجموعة من النظم والمعتقدات والعادات والممارسات التي تحدد كيف يمكن لأعضاء هذه المؤسسة التعامل مع بعضهم البعض وتلبية احتياجاتهم الأساسية في المكان الذي هم فيه. ولعل خير مثال على هذا النوع من المؤسسات هو وجود الروابط التقليدية وخصوصا الاسرة والقبيلة والعشيرة والطائفة والنوادي والاسواق (كسوق عكاظ والذي يعتبر من أشهر الاسواق في تاريخ العرب).
(6) التعليمية
يشمل هذا النوع كل المؤسسات التعليمية:
(أ) الرسمية: كالمدارس والمعاهد والكليات والجامعات والبرامج التعليمية المتخصصة للتدريب المهني والتقني.
(ب) الغير الرسمية: كقيام الدولة بتوفير أنواع مختلفة من أماكن التعليم الغير رسمية في كل أنحاء الوطن والتي من أهمها المكتبات العامة، والمسارح، والمراكز العلمية والثقافية، والمتاحف، وغيرها من المشاريع التعليمية والتطوعية. ولعل من أهم وظائف المؤسسات التعليمية عموما هو تقديم المعرفة وإعداد المهارات الضرورية لبناء الدولة وتقدم المجتمع وايضا للمحافظة على التراث والثقافة والعمل على نقلها من جيل الى جيل.
(7) الدينية
تلعب المؤسسات الدينية في كل مجتمع الدور الرئيسي والاساسي في تربية وتعليم الانسان وذلك لان التدين ضرورة إنسانية ولا يمكن ان تجد مجتمعا يخلو من هذه الظاهرة مهما كان نوعها أو دورها. ولعل من أهم وظائف هذا النوع من المؤسسات هو مساعدة الإنسان على تلبية رغباته وحاجاته النفسية والروحية ومساعدته على إيجاد الإجابة عن الأسئلة الفلسفية العديدة التي من أهمها “ما هو الانسان؟” و “ما معنى الحياة؟” و “لماذا وجد هذا الانسان على هذه الارض؟” ولعل خير مثال على هذا النوع من المؤسسات في مجتمعنا الليبي هو المساجد والزوايا والمراكز والمدارس والمعاهد الاسلامية.
(جيد الإعلامية
يشمل هذا النوع من المؤسسات كل وسائل الاتصال المكتوبة والمقروءة والمشاهدة والمسموعة والتي من أهمها اليوم الصحف والمجلات والراديو والتلفزيون والافلام والتسجيلات بكل أنواعها والكتب والانترنت وكل الاتصالات الإلكترونية الأخرى. ومن أهم وظائف الاعلام اليوم:
(أ) يُمكن الإعلام الناس من الحصول على المزيد من المعلومات بطرق وأساليب مختلفة عن الأحداث التى تدور في العالم.
(ب) يقوم الإعلام بتقديم خدمات الترفيه ونشر الأخبار والمعلومات المتعلقة بذلك للافراد.
(ج) يعتبر الإعلام اليوم من أهم عوامل تنشئة وتربية الأفراد في كل المجتمعات وبواسطته يستطيع الافراد التعلم والتفاعل والتواصل مع بعضهم البعض بغض النظر عن المكان الذي هم فيه.
(د) يلعب الإعلام دورا مهما وحاسما في تشكيل وتوجيه الرأي العام في الدول.
(هـ) يقوم الإعلام بدور هام وضروري جدا هو مراقبة تصرفات السلطات وسلوكيات السياسيين ووضع ضغوط عليهم ومحاسبة أعمالهم وتصرفاتهم. من كل هذا يمكن للمرء ان يستخلص أهمية وضرورة المؤسسات الإعلامية في بناء وتطوير أي دولة عصرية. وعليه فلابد من الإهتمام بهذه المؤسسات والتأكيد على إستقلاليتها. ونتيجة لأهمية المؤسسات الإعلامية يعتبرها بعض علماء السياسة اليوم “السلطة الرابعة” في تركيبة النظام السياسي لكل دولة تريد أن تكون حديثة ومتقدمة.
فى الجزء الثاني من هذا المقال – بإذن الله – سوف أحاول تسليط بعض الضوء على أهم معايير المؤسسات وظاهرة الإفلاس المؤسسي.

478 مشاهدة