من القبيلة إلى سوسيولوجيا الدقة و التخصص

بورتريه
عالم الاجتماع المغربي الدكتور المختار الهراس
من القبيلة إلى سوسيولوجيا الدقة و التخصص
عبد الرحيم العطري
كاتب و باحث سوسيولوجي
دوما يقابلك بابتسامته الطيبة، هادئا حريصا على الدقة في التحليل، يقدم طروحاته و ملاحظاته، بعيدا عن التعميم و القطع النهائي، إنه راغب في الفهم لا غير، استنادا إلى معرفة نسبية لا تنتصر لدوغمائية فارغة، هذا هو المختار الهراس، القادم إلينا من قبيلة أنجرة شمال المغرب، مؤسس سوسيولوجيا الأسرة مغربيا، و المنتقل بالدرس السوسيولوجي من خيار العناوين الكبرى إلى التخصص و تخصص التخصص.
يلج المدرج بكلية آداب الرباط، منذ ثمانيات القرن الفائت، ليجيب على أسئلة طلبته بتواضع العلماء الكبار، يحرضهم على المضي قدما في اتجاه السوسيولوجيا العلمية و عدم الاكتفاء بالتلقي، فلا مناص من الدخول في سجل الإنتاج، فمن اختار بالصدفة أو الخطأ أو بقرار و هم وجوديين حرفة عالم الاجتماع، عليه، و بالضرورة أن يكون كاتبا، و أن ينقل معرفته إلى عموم الناس.
فالانتماء إلى علم الاجتماع لا يتوقف برأيه بحيازة شهادة عليا، و لا يتحقق بنشر الأطروحة اليتيمة، إنه انتماء هوياتي، يتأكد واقعيا بالممارسة المستمرة، و الكتابة المتواترة، فالسوسيولوجيا معرفة استثنائية لا تقبل بالخمول و الاستكانة إلى النوستالجيات الفائتة. لهذا كان الهراس و ما يزال ممارسا سوسيولوجيا كتابة و تنظيرا و تأطيرا، بشكل فردي أو جماعي في الغالب، و هو ما يلوح أكثر في إنتاجاته المشتركة مع زميله و أخيه الدكتور إدريس بنسعيد و كذا مع الدكتورة رحمة بورقية.
المختار الهراس يعد من أبرز علماء الاجتماع المغاربة، اعتبارا لمساهمته الفاعلة في التأسيس لمدرسة سوسيولوجية مغربية، و ذلك عبر مستويين من العمل الجاد، يتوزعان على الإنتاج المعرفي و التكوين الأكاديمي، فالهراس من السوسيولوجيين الذين أهدوا المكتبة العربية جملة من الكتب و الدراسات و المقالات المنشغلة أساسا بأسئلة علم الاجتماع في مجالات السياسة و القبيلة و الشباب و الأسرة و المرأة و التقليد و التحديث..، كما أنه يواصل تأطير و تكوين طلبة الاجتماع كأستاذ للتعليم العالي بجامعة محمد الخامس أكدال بالرباط، و كرئيس لوحدة التكوين و البحث في التحولات الاجتماعية و التنمية و كعضو مؤسس بمجموعة الأبحاث و الدراسات السوسيولوجية بذات الجامعة.
ظهرت أولى أعماله في أمهات المجلات العربية، كالمستقبل العربي و الفكر العربي و الوحدة، و بحكم تمكنه من الفرنسية و الإنجليزية و الإسبانية فقد نشرت له أعمال أخرى بمجلات دولية أخرى. فالهراس، و إلى جانب اشتغاله بكلية آداب الرباط، فإنه يحل من حين لآخر أستاذا زائرا بأعرق الجامعات الأوروبية، مقدما الدليل على أن السوسيولوجيا، كما الحب، لا وطن لها، و أنها مجهود إنساني يتوجب تداوله و التفكير فيه بصيغة الجمع لا المفرد.
أعمال الهراس تتنوع بين أعمال فردية و مشتركة و جماعية ك “القبيلة و السلطة: تطور البنيات الاجتماعية في شمال المغرب” و “المرأة و صنع القرار بالمغرب” و “الخصوبة و السلوك الإنجابي” و “المناهج الكيفية في العلوم الاجتماعية” و “التحولات الاجتماعية و الثقافية في البوادي المغربية”، و “ويسترمارك و المجتمع المغربي”…و هو بهكذا اختيار فردي/مشترك، و كأنه يجيب عمليا على سؤال العطب الذي يعتور السوسيولوجيا بالمغرب، و هو ذات السؤال الذي أشار إليه أحمد شراك و عبد الفتاح الزين بالقول، بأنها سوسيولوجيا بصيغة المفرد لا الجمع، فنحن نتوفر، مغربيا، على سوسيولوجيا الأفراد لا المشاريع الجماعية، الشيء الذي يمنع من خلق تيارات و مدارس فكرية متعددة داخل المتن السوسيولوجي المحلي.
الاقتناع بجدوى العمل المشترك هو ما سيدفعه إلى المساهمة في تأسيس “الكريس” GRES برفقة رحمة بورقية و إدريس بنسعيد و آخرين، و هو المركز الذي سينتج دراسات مهمة في أكثر من مجال، و سيجرب تقنيات منهجية تستعمل لأول مرة في البحث السوسيولوجي بالمغرب كتقنية المجموعة البؤرية focus groupe، و سيسهم، و هذا هو المهم، في تكوين جيل من الباحثين الشباب، قد يحملون المشعل غدا، ضمانا لاستمرارية هذا النفس المعرفي الشيق و الشقي في آن.
يظل البحث عن أفضل الطرق المؤدية إلى المعلومة، انشغالا مركزيا لدى المختار الهراس، فأدوات الاشتغال السوسيولوجي يفترض فيها أن تكون وظيفية و عملية، و أن تقود الباحث نحو عمق الأشياء التي تكتنز المعنى و تؤشر على شروط إنتاج الفعل الاجتماعي، و لهذا يتوجب دوما العمل على الشحذ المستمر لهذه الأدوات، أملا في تجذير السوسيولوجيا العلمية و التمكن أكثر من الظاهرة الاجتماعية.
على درب هذا البحث عن التقنيات الأكثر إجرائية لجمع المعطيات من مجتمع الدراسة، بدأ الانفتاح على تقنية “المجموعة البؤرية”، و لأول مرة، بالمغرب خلال سنة 1996 تحديدا، و ذلك في إطار دراسة حول الهجرة الداخلية أنجزها المختار الهراس بمعية إدريس بنسعيد و عبد الرحيم عمران.
فالهراس يقول في أكثر من مناسبة بأن “المناهج الكيفية توفر من المعلومات و التفاصيل حول المواضيع المدروسة ما لا توفره المناهج الكمية”، و هذا ما يتوجب تفهمه جيدا حتى يتم التحرر من ذلك التمثل المعطوب للسوسيولوجيا كعلم لا يكتسب شرعية معرفية بعيدا عن “الاستمارة و الأرقام ” ، فهناك تقنيات أخرى أكثر أهمية و أداتيه في الوصول إلى المعطيات الاجتماعية، لكن متى يتم التحرر من سلطة “سوسيولوجيا الاستمارة و الأرقام”؟ و متى تغدو المجموعة البؤرية و غيرها من التقنيات الكيفية أدوات أكثر شيوعا في خارطة السوسيولوجيا المغربية؟ و كيف السبيل بعدا إلى هكذا وضع علمي؟
المختار الهراس يعترف بأن السوسيولوجيا معرفة فوق العادة تستلزم جودة في الأداء، و أفق انتظار مفتوح على غير المتوقع، فالظاهرة الاجتماعية معقدة للغاية، و لا يمكن التمكن منها بيسر شديد، و هنا بالضبط يلح على تدقيق الأدوات المنهجية و بلورة مفاهيم الاشتغال، فتحديد المفاهيم عنده، ليس مجرد ترف علمي تفرضه خطوات البحث، بل هو ضرورة منهجية و معرفية لتوحيد لغة التعاطي و التداول.
فالهراس يؤكد دوما بأن المجتمع المغربي “يمر كغيره من المجتمعات العربية، بتحولات جذرية متسارعة، تعمل على تغيير البنى الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية لهذا المجتمع، وتؤثر على مختلف الأطراف الفاعلة، بدرجات متفاوتة. وضمن هذا الإطار، تتفاوت درجات الاستفادة أو التضرر من هذه التحولات بحسب مدى هشاشة الفئة المعينة أو مدى سيطرتها وتمكنها”. و الثابت و المتحول في سياق هذه التحولات هو الأجدر بالمتابعة من أجل الفهم و التفسير، لكن بعيدا عن التأويل، الذي يسقط الباحث في فخ الأدلجة، فحرفة عالم الاجتماع، بالنسبة إليه، تستوجب أقصى درجات الحياد و البرود.
سيشتغل الهراس طويلا على القبيلة، كمفتاح لفهم تحولات المجتمع الأنجري و المغربي عموما، فلا يمكن فهم ذات المجتمع بدون الرجوع إلى ثلاثية “المخزن، القبيلة، الزاوية”، فالقبيلة عنده تلوح كمكون مركزي في النسق المغربي، ألم يقل العروي قبلا بأن “تاريخ المغرب هو تاريخ قبائل قبل أن يكون تاريخ دول”، و في اشتغاله على القبيلة سيحاور العصبية الخلدونية و السوسيولوجيا الكولونيالية و إرث المدرسة الانقسامية، كما أنه سيفتح بابا/ نصا غائبا في التركة الاستعمارية، و هو المتعلق بالمعرفة التي أنتجها الإسبان حول المجتمع المغربي، منتهيا إلى وجود أعمال لا تقل أهمية عما أنتجته المدرسة الفرنسية.
بعد طول اشتغال على القبيلة سيجد الهراس نفسه مسائلا للشباب و القيم و التنمية المحلية و التحولات الأسرية تحديدا، متوجا هذه المساءلة بأطروحة جامعية حول “بروز الفرد في قبيلة أنجرة”، و التي جاءت لتعلن انتماء تخصصيا في قارة السوسيولوجيا تحت مسمى “سوسيولوجيا الأسرة”، و تدعو في الآن ذاته إلى الانعتاق من سوسيولوجيا العناوين الكبرى إلى التخصص أو تخصص التخصص. و هذا ما لاح أيضا في الأعمال التي أشرف عليها بعدا في إطار إعداد أطروحات نيل الدكتوراه، فالتركيز على قضية أو مجال محدد، و إلى أقصى حد ممكن، يسعف كثيرا في الدرس و التحليل، و يقود فعلا إلى بناء سوسيولوجيا علمية، تتمكن من تفاصيل التفاصيل.
المختار الهراس نموذج مائز للأستاذ و المربي الذي لا يمل من تشجيع طلبته على التحصيل العلمي، إنه مستمر في تعليمهم فصول العشق السوسيولوجي، محذرا إياهم من مغبة السقوط في العلم الانطباعي المتسرع، داعيا إياهم إلى الإنتاج بدل التلقي، و إلى الدقة و التخصص بدل العناوين الكبرى، هذا هو المختار الهراس يفرض عليك احترامه و حبه أيضا، بسب معرفته الباذخة و تواضعه الجليل و دماثة أخلاقه العالية، فهنيئا لنا به مربيا و معلما و إلى غير المنتهى.

271 مشاهدة