رسالة إلى أهل غزة..
مقال ليلى جبارة
حينما تفقد الأم رضيعها تحت الركام، ويدفن الجد حفيدته في فناء دار متهاوية الأركان، تنهمر دموع الأسى على عجل، ولا بيت عزاء يقام، سيعجز القلم عن كتابة حكايات أناس رُحِلوا قسرا من مقام لآخر بشرعية الجور والطغيان في زمن اللاإنسان.
وعلى كل من يظن أنه بقي يحمل بعضا من النوازع البشرية المسلوبة أو المصلوبة أن لا ينسى أن يروي لنفسه حكاية يستعصي عليه نسيانها إن آمن بها، سيظل يذكرها في جنح الظلام وبين خفايا الزمان وأبعاد المكان لينسكب الدمع خجلا وجلا على نفس وما فرطت في جنب الله، فتنهمر شآبيب الرحمة مسندة روحا تلهج بذكر الخالق لترتوي بعد ظمئ الغفلة والتيه في الخلوات.
ستنفع الحكاية في مقاومة لحظات الضعف ومواجهة الإحباط واليأس، لتظهر جليا نِعما لا تحصى وهبات شتى تحفظ بالشكر والامتنان لذي المنة، قد تعقبها شدائد وهموم، ومتاعب كبيرة ستهون بمعرفة معنى الابتلاء وتصنيفه بين الصبر والرضى، إلى حين يحمل الجسد معه ندوب الحياة الصعبة، ويلفه التراب بلا هون ليعيد للذاكرة أنه لا الغنى ولا الفقر سيغنيان عن السكون والخضوع لميزان العدل ولا معيار يومها للتفاضل إلا التقوى، لن تنفع الورود المنثورة بعطرها ولا الشموع المشتعلة بنورها، ولا الأضرحة المشيدة برخامها في رفع درجة السمو والفخامة، فالكل سواسية عند محطة الرحيل الأخير، لكن المراكب تختلف باختلاف الأمتعة.
بين من يهوي ويرتقي مسافة تتجاوز الأرض والسماء، ووحدهم الفائزون من يحظون بالارتقاء ويستمتعون بعبقه مطمئنين، لأنهم فقهوا معنى الحياة فأرخصوا دماءهم وربح بيعهم، لم يكن موتهم سوى غفوة متوارية للقاء الرفيق الأعلى، لقد عرفوا الخيار الصحيح ومن غير رياء وعلى سجيتهم آثروا ترميم معالم عالم متهاو بالإغراء وزينوه بالالتجاء لتكون صفقة العمر.
الحياة قصيرة مهما امتدت سنوات العمر، يتغير الناس وتتباين مواقفهم، قد يأتي الخذلان من المقربين كما هو حال كل من خذل أهل غزة الجريحة، لكن الله لن يخذلهم أبدا ما التجأوا إليه صادقا، سيزيل همومهم، ويفرج كربهم، ييسر عسرهم، ويجبر خواطرهم، وكلما اقتربوا منه اقترب منهم أكثر، وهكذا ستنشرح القلوب النقية التقية، وتسمو الأرواح الصغيرة الضعيفة بيقين التقوى شيئا فشيئا في مدارج الإحسان والرضى ونشهد عجائب الحمد والشكر بعد كل قصف همجي ونعجب من دعاء أهل اليقين:" اللهم خذ من دمانا حتى ترضى".
يا أهل غزة العظماء لا تحزنوا لا تيأسوا ولا تقنطوا من رحمة الله، ومهما خذلكم الخلق وطوقوا الحدود وأغلقوا المعابر، هناك دائما باب سيفتح بالطرق عليه، فلا تخجلوا ولا تهنوا ولا تكلوا من طرق باب الدعاء لتفتح باقي الأبواب، لا تتوانوا عن الإلحاح، فما ظن العبد الضعيف بالرب الكريم إذ يقول جل وعلا في كتابه العزيز: "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ"(سورة البقرة/ الآية: 186).
إن مصابكم الجلل فيه من النعم والمنح ما يجعلنا نتوق لنكون معكم، فإنه جهاد مقدس جزاؤه الحسنيين، النصر أو الشهادة وكلاهما فوز وغنيمة.. هنيئا لكم أهل غزة فقط خصكم الرحمن بما نحن محرمون منه.
أنتم أهل الفضل أيها المجاهدون.. نحن المحرومون القاعدون.. بئس العالم الذي نعيش فيه كله ظلم ونفاق يحكمه
أراذل الناس من الطغمة..لا يرقى وصف الجريمة ولا العار والعيب على ما يحدث في أرض فلسطين المقدسة،
فقد تجاوز التجاوز كل وصف لمفردات المعاجم.. وإننا لنألم مرتين الأولى بمصابكم والثانية لبعدنا عنكم، ونشهد الله أن المسافة الجغرافية وحدها ما يفصلنا عنكم فأنتم منا ونحن منكم، ويقيينا أن ما
يدبره أعداء الإنسانية ويزرعونه من فتن ويحيكونه في الخفاء يعلمه الله ولا يحدث إلا بمشيئته، ولو كانت لهم قدرة فلماذا لا يمنعون الموت عن أنفسهم، وهم يمنون بالهزائم في ميدان الشرف ولا يواجهون إلا بعد قصف وأحزمة نارية لا تنتهي في حرب عير متكافئة، لن ينجح تدبيرهم ما لم يأذن الخالق بذلك فكل الخلق طوع أمره وما شاء كان وما لم يشأ لن يكون.